أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تجمع اليسار الماركسي في سورية - جدل - مجلة فكرية سياسية ثقافية العدد 3 : آب 2008















المزيد.....



جدل - مجلة فكرية سياسية ثقافية العدد 3 : آب 2008


تجمع اليسار الماركسي في سورية

الحوار المتمدن-العدد: 2383 - 2008 / 8 / 24 - 11:33
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


افتتاحية العدد
البروليتاريا و العلمانية:
نقد التراث القومي العربي و إعادة إنتاج مفهوم العلمانية
تشكل العلمانية في الأصل دعوة أيديولوجية لفصل الدين والامتياز الديني عن الدولة السياسية البورجوازية الحديثة، وهو أمر ذو مغزى في أوربا زمن الانتقال من الأسلوب الإقطاعي للإنتاج إلى الأسلوب الرأسمالي . كانت اليهودية- المسيحية الأوربية تمثل أيديولوجيا النبالة، لهذا السبب أخذ الصراع الأيديولوجي الذي قاده مفكرون بورجوازيون طابع الصراع الأيديولوجي ضد الدين اليهودي- المسيحي كصراع ضد أيديولوجيا الطبقة السائدة، بالتالي أخذ بهذا الشكل معنىً تاريخياً وعضوياً، أي أن هذه الأيديولوجية خرجت من سياق الصراع التاريخي وعلى أساسه . وعلينا أن نميز هنا بين الأيديولوجية الدينية اليهودية – المسيحية من جهة وبين الأفراد اليهود والأفراد المسيحيين في أوربا العصور الوسطى، حيث حرّمت الكنيسة الكاثوليكية الربا كنشاط اقتصادي على رعاياها ، بالتالي انحصر هذا النشاط عند الأفراد اليهود مما ولد نفوراً تجاههم و كرّس عزلتهم.
هيمنة أيديولوجيا الدولة وإلحاق الإيديولوجيا الدينية بها عبر رعاية الدولة للإسلام الرسمي هو الأمر القائم في الأقطار العربية . وهو قائم في أصل المشروع المحمدي : "هي كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم" . إنه خطاب محمد إلى أسياد قريش. من أن مشروع الدعوة في جوهره مشروع سياسي لبناء دولة العرب الجديدة البكر. منذ البداية كان المشروع المحمدي يجنّد أمميته وبعده العالمي من أجل إقامة دولة العرب التي وعد بها جدّه عبد المطلب من قبل. وما أن نصّب الخليفة الأول للنبي حتى زالت الوجوه الأممية للمشروع المحمدي : سلمان الفارسي، بلال الحبشي، صهيب الرومي . وحتى وجوه القبائل غير القرشية فقد تم تهميشها ضمن معادلة السلطة الجديدة . مثال أبو ذر الغفاري ، وعمار ابن ياسر، وزعامات الأنصار في المدينة كـ سعد ابن عبادة من سادات الخزرج ، والحباب بن المنذر .
إذن وضمن آليات تأسيس الدولة الجديدة لم يعرض للإسلام عبر دولته بأشكالها المتعددة - مع بعض الاستثناءات- مشكل كهذا .
أما مسألة فصل المجتمع عن الدين فهذه خرافة في الشروط العالمية القائمة . وقد تلتبس مع مسألة فصل الدين عن السياسة ، أي عن الحزب السياسي وعن الدولة معاً. وهذا لا يرتبط بالعلمانية بشكلها الأوربي المجرّد ؛ أي فصل الدين عن الدولة السياسية الحديثة البورجوازية . لم تعان دولة الليبرالية في مصر وسوريا بين الحربين [دولة أعيان المدن من الملاكين العقاريين والبورجوازيين] من مشكل العلمنة. كانت علمانيتها شكلية وبدهية تحت تأثير علمنة الدولة التركية الحديثة وتحت تأثير الحضور الأوربي المباشر الاستعماري والتبشيري السابق للاستعمار الامبريالي الرأسمالي. كذلك دولة البورجوازية العربية القوموية لم تعان من مشكل كهذا . مع أن لأعيان المدن علمانيتهم الشكلية والقومويون لهم علمانيتهم التلفيقية .
يمكن اعتبار ظاهرة تديّن الحزب السياسي بهذا التواتر الرهيب، منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، على أنها ناتج الإمبريالية كعقبة خارجية أمام أي تحديث اجتماعي وناتج البنى الاجتماعية العربية المخلّعة كأوضاع إمبريالية داخلية عاجزة عن التقدم مجسدة بسيطرة البورجوازيات العربية كبورجوازيات رثة وعاجزة بحكم شروط ولادتها في العصر الإمبريالي وذلك سواء أكانت بورجوازية عائلية أم قوموية . لم يكن شعار التنمية الذي رفعه الغرب وشيّع له في أطراف النظام الرأسمالي ، لم يكن سوى أيديولوجيا فاسدة لمحاربة المد الشيوعي ومواجهة حركات التحرر القومي الجذرية. وقد استبدلت بها هذه الأيام فكرة مشابهة اسمها : "التنمية المستدامة!"
إن تخلع البنى الرأسمالية الطرفية كأوضاع إمبريالية مجسدة بسيطرة بورجوازية رثة وحضور الإمبريالية كعقبة خارجية هو ما آل إلى انسداد آفاق التقدم الاجتماعي والتحديث الصناعي في هذه الأقطار، بالتالي أدى إلى مظاهر سياسية غاية في الخطورة كالاستبداد السياسي والتكييف الاجتماعي الذي طال الطبقات الكادحة خاصة العمال والفلاحين وفقراء المدن حيث حشرت هذه الطبقات في نقابات حكومية مؤدلجة بعنف ومقموعة بعنف. مما آل إلى عملية إحباط عام ولامبالاة سياسية عامة شملت أغلب قطاعات المجتمع وطبقاته ، وكانت النتيجة فراغات سياسية خطرة وولاء الكل لحزب السلطة الوحيد الذي بات فرّاخة للانتهازية والتزلّف و الفساد الروحي والنفاق الاجتماعي مما دفع بقطاعات اجتماعية واسعة للبحث عن تعبيرها السياسي في الحزب الديني ، حيث راحت الثقافة الدينية تتبجح بأنها البديل التاريخي للأيديولوجية العضوية ، تلك الأيديولوجية التي تهدف إلى التقدم الاجتماعي وإلى التحديث الصناعي والمعادية للأوضاع الإمبريالية بكل صورها .
الانسداد التاريخي في الأطراف الرأسمالية والاستبداد السياسي المرافق له دفع الثقافة الدينية لتترك حقلها الوجداني الفردي ولتعمل في السياسة كحزب ديني متعصب أو عصبوي مقابل عصبوية النظام السياسي المستبد والمتفرّد بالعمل السياسي . فحرية الحركة التي صودرت عند الحزب السياسي- المدني الحديث ، ولدت حرية للثقافة الدينية كي تنشط وتعمل كبديل لهذا الحزب الحديث . وهكذا نشهد في القرن الحادي والعشرين عودة السياسة من المدرسة الحديثة إلى الجامع ومن الجامعات إلى المعاهد الدينية؛ إنها حركة نكوص للحركة السياسية العربية بعد تجربة مائة عام من التحديث البورجوازي- الطرفي المبتسر.
في بداية القرن العشرين كنا نشهد انتقال السياسة والحزب السياسي من الجامع إلى المدرسة الحديثة ومن الأزهر إلى الجامعات الدنيوية الحديثة . بعد مائة عام نشهد حركة ناكصة على أعقابها .
إذاً ، ليست المشكلة التي يعاني منها العرب هي في العلمانية بمعناها الأوربي أو في غيابها لأن المشكل بقي قائماً سواء وجدت العلمانية أم لم توجد . لكن هذا لا يعني أن الاشتراكية الماركسية غير معنية بمسألة العلمانية أو غير معنية بإعادة إنتاج المفهوم وفق الشروط الجديدة.
لكن ما هي هذه الشروط الجديدة التي تستدعي إعادة إنتاج مفهوم العلمانية؟
إذا كانت حركة صعود البورجوازية الأوربية اعتباراً من القرن السادس عشر قد أنتجت مفهوم العلمانية كفصل الدين عن السياسة (الدولة) ، فإن ولادة البورجوازية العربية في اللحظة التاريخية التي تحولت فيها البورجوازية الأوربية إلى رأسمالية- إمبريالية جعل هذه البورجوازيات العربية ملحقة بالمراكز الإمبريالية وعاجزة عن انجاز مهمات التوحيد القومي والتحديث الصناعي ، كما أن أصولها الإقطاعية والعائلية وضعف مهامها التاريخية جعل من علمانية بعض قطاعاتها علمانية شكلية مغلفة بتبجيل واضح للدين الإسلامي الرسمي كتراث أو قسم من تراث.
وبما أن عجز البورجوازية العربية عن انجاز المهام الديمقراطية كالوحدة القومية العربية والتصنيع على شاكلة بلد متطور صناعياً قد نقل هذه المهام إلى الطبقة الجديدة (البروليتاريا) فمن الطبيعي أن تقع مهمة إعادة إنتاج مفهوم العلمانية من جديد ووفق الشروط الجديدة على عاتق هذه الطبقة الجديدة ومثقفيها العضويين. لقد "ورثت" البروليتاريا العربية المهمات التي عجزت البورجوازية عن انجازها وراثة أولية ؛ أي أن هذه الوراثة بالقوة وليست بالفعل ، وهي ليست بسيطة بل هي رفع لهذه المهمات إلى مستوى العمل الاشتراكي . بقول آخر تتميز البروليتاريا (الطبقة العاملة في وجودها السياسي) عن البورجوازية بكون الأولى لا تملك شيئاً بالمعنى الاقتصادي لهذا فإن قيادتها للمشروع الديمقراطي يعتمد على رافعتين هما الوعي الطبقي والديمقراطي من جهة والتنظيم الذاتي وتنظيم التحالفات مع الطبقات الهامشية والأقليات القومية من الجهة الأخرى ، هكذا تظهر الطبقة العاملة في حضورها السياسي الطبقة القومية الحقة والديمقراطية الحقة. وحتى تكون كذلك يتوجب عليها المبادرة إلى نقد تراثها القومي ومنه الديني نقداً شاملاً وفعالاً وفق منهج ديالكتيكي مادي يحفظ ويرفع كل ما هو نابض في التراث القومي والديني ويسقط ما هو متهافت وفائت . خلال سير هذه العملية المعقدة التي سوف تتضمن تحقيق شامل للتراث ومن ثم نقد وحكم ومن ثم حفظ ورفع ، خلال هذا السير سوف يعاد إنتاج مفهوم العلمانية من جديد ، ولسوف تصل هذه الحركة ذات الطابع التاريخي والصراعي على المستوى السياسي والأيديولوجي إلى نتائجها الطبيعية التي تشمل فصل الدين عن السياسة ؛ السياسة التي تشمل الحزب السياسي وتشمل كيان الدولة. وهنا يظهر ديالكتيك إعادة إنتاج الإيديولوجيا العلمانية كجزء من ديالكتيك وحدة العملين الاشتراكي والديمقراطي في سياق صعود هيمنة البروليتاريا العربية في مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي.
ليست المهمة الملحة التي تواجه النخب العربية النشطة في الحقل السياسي والأيديولوجي قائمة في فصل الدين عن السياسة سواء كانت دولة أم حزباً سياسياً فحسب . بل قائمة أيضاً في نقد التراث القومي ومنه الديني نقداً شاملاً، بالتالي وصل هذه النخب الديمقراطية ، العلمانية واليسارية ومعها الثقافة الحديثة الديمقراطية واليسارية و الماركسية بالمجتمعات العربية . وهذا الربط والوصل لا يكون بالدعوة لعلمانية أوربية مجردة ومسقطة على المجتمعات العربية "كحبة قمح سقطت على الطريق فأكلتها طيور الأرض" . بل يجري هذا الوصل أو الربط عبر عمل طويل ومثابر لتحقيق التراث القومي ومنه الديني العربي، ونقده نقداً جذرياً ، ودمج كل ما هو نابض وفعال منه في الثقافة الحديثة الديمقراطية والاشتراكية الماركسية . هذا النقد للتراث القومي والديني هو الوحيد الكفيل بإخراج المثقف العلماني ، الديمقراطي والماركسي (المثقف الحديث عموماً) من عزلته الاجتماعية المؤسفة . هيئة التحرير
العلمانية والتراث – أعمال ندوة حوارية
القسم الأول ؛ حول التراث
مداخلة تمهيدية من هيئة تحرير "جدل":
د. نايف سلوم: "جدل" مجلة فكرية- سياسية- ثقافية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سوريا /تيم/ . وهي المجلة النظرية إلى جانب "طريق اليسار" التي هي الجريدة المركزية .
باسم هيئة تحرير مجلة "جدل" أرحب بكم رفاقاً وأصدقاء وبضيوفنا الكرام : المفكر العربي المعروف الدكتور طيب تيزيني، وبالأستاذة تغريد الهاشمي ، كما نرحب برفاقنا من القيادة المركزية لتيم .
أيها الأصدقاء، أيها الرفاق:
كانت مجلة "جدل " قد تبنت سلسلة من الحوارات بدأتها بحوار "الماركسية والدين" حيث نشرت أعمال الندوة على قسمين في العددين الأول والثاني من "جدل"
وندوتنا اليوم هي الثانية ضمن السلسة المقترحة والتي موضوعها "التراث والعَلمانية" ونظراً لضخامة الموضوع فقد جرى تقسيمها إلى قسمين الأول يناقش مشكل التراث القومي ، بالتالي ينفذ مباشرة إلى سؤال ؛ الماركسية والبعد الثقافي (الحضاري) القومي العربي .
في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية 1920 بدأت تظهر إشكالية البعد "الحضاري" كمشكل نظري مطروح وراهن : "إن البعد الحضاري غائب عن نقاش المؤتمر الأول للأممية الشيوعية 1919 الذي دار حول مستقبل البلدان غير الأوربية أكثر مما كان غائباً عن نقاشات الأممية الثانية 1920 .. لقد مجّد الإنكليزي هندمان في أمستردام وشتوتغارت الحضارة الهندية ، وهي حضارة قد تكون متفوقة على حضارتنا (الأوربية) ، وفي موسكو عام 1920 كان روي (ممثل الحزب الشيوعي الهندي) يهتم بوجه خاص بأن يبين أن الطريق الذي ينبغي أن تسلكه آسيا مماثل للطريق الذي سلكته أوربا. أما لينين فلم يستخدم هنا مفهوم "النمط الآسيوي للإنتاج" في تحديد خصائص بلدان الشرق ، ولكنه لم يتخذ كذلك موقفاً مؤيداً لنظرية وحدانية خط التطور لجميع مجتمعات الشرق والغرب... والواقع أن هموم لينين الحقة كانت منصرفة إلى مجال آخر، ومن هنا كان غياب المشاكل الفكرية عن مناقشات المؤتمر الثاني أمراً منطقياً تماماً. . إن تركيز مناقشات المؤتمر تركيزاً كلياً على مشاكل الإستراتيجية والتكتيك هو في الواقع " ما يبرر هذا الغياب للبعد "الحضاري" . إن بداية تلمس دور البعد "الحضاري" كانت المهمة الجديدة النظرية الملقاة على عاتق الماركسية في آسيا .
يقول تودوروف معلقاً على كلام باختين: " يشكو ويبدي ارتياعه من حقيقة كون الاشتراكية لا تلقي بالاً للأموات .. وبالتالي فإن الناس في مرحلة زمنية قادمة لن يغفروا لنا مثل هذا الإهمال .. . ويضيف تودوروف: "بعد الاستماع إلى كلماته [كلمات باختين] يشعر المرء بانطباع عام أن هؤلاء الأضياف المدفونين الذين استحالوا إلى رماد سوف ينهضون من قبورهم ويمحون عن وجه الأرض الشيوعية والاشتراكية"
نقرأ في سورة سبأ: "فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته" ، وجاء في سورة النمل: "وإذا وقع القولُ عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلّمُهم"
و النقد دابة الأرض .
في هذا الزمن وفي زمن قادم لن يغفر لنا الناس هذا الإهمال ؛ إهمال نقد التراث القومي العربي ، حيث لا يكفي بالنسبة لنا نحن الماركسيين الانشغال بالإستراتيجية والتكتيك ، بل لا بد من العمل على البعد "الحضاري" (الثقافي- القومي)، ونمط الإنتاج الخراجيّ في مواجهته لغزو نمط الإنتاج الرأسمالي الذي تطور في أوربا منذ القرن السادس عشر، ونتائج هذه المواجهة.
لقد اقترحت هيئة التحرير النقاط التالية لنقاش مسألة الماركسية والتراث القومي وإعادة إنتاج مفهوم العلمانية وفق المعطيات التاريخية / الاجتماعية (المادية) الجديدة:
1-مفهوم التراث عامة والتراث القومي خاصة
2-الحاجة إلى نقد التراث (البعد الحضاري في الماركسية- الماركسية والعالم العربي)
3-مناهج القراءة ومنهج النقد
4-السياقات التاريخية / الاجتماعية – السياسية ؛ بأي عين نقرأ التراث (من هو هذا القارئ وما هي أغراضه)، صعود الطبقة الاجتماعية وحاجتها إلى نقد التراث القومي . البروليتاريا العربية وإعادة إنتاج مفهوم العلمانية.
5-إعادة بناء مفهوم العلمانية وفق نتائج التحقيق والنقد التراثي و وفق المهمة الديمقراطية الجديدة للبرنامج الاشتراكي الماركسي
6-علاقة مشروع تحقيق التراث و نقده بمشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي .
هيئة التحرير
الحوار
د. نايف : " بداية، أسأل الدكتور طيب تيزيني: ما هو التراث ؟ و ماذا يفهم من مفهوم التراث؟ .. يعني التراث عامة والتراث القومي خاصة, كيف تفهم كلمة تراث باعتبارك صاحب مشروع في نقد التراث العربي ومنه "السوري" عبر مشروعك الفكري المعروف: " من التراث إلى الثورة " !؟
د. طيب تيزيني: "أنا أيضاً يسعدني أن أعبر عن سعادتي بأن ألتقي هذه المجموعة الطيبة التي أبحث عن مثيلاتها دائماً في مرحلة لابد أن يكون فيها رهان على مشروع وطني وقد يكون هذا الكلام لبعض مدارس التراث غريباً عن جلسة في التراث , يعني سؤالنا : ما علاقة المشروع الوطني هنا بنقد التراث ؟ أسارع للقول هنا : قسم كبير من الإخفاقات التي ألمت وتلم بالمشاريع الوطنية سواء في العالم العربي أو في العالم, كانت بتعبير ما نكوصاً .. ابتعاداً عن النظرية في قضية التراث الوطني التي تهم شعباً بعينه ولذلك نحن الآن نستدرك، والاستدراك هنا يأتي بعد مئات السنين بعد ثلاثمائة عام تقريباً منذ عصر النهضة، نستدرك ونقول : لابد أن يجاب أيضاً عن مشكلات التراث الوطني والقومي العربي كي تكون هناك إمكانات لفهم ما نحن بصدده، أي لفهم المشروع الوطني السياسي الديمقراطي سواء في سوريا أو في أي قطر عربي آخر . فمسألة التراث إذاً ليست مسألة أكاديمية فحسب، بل لها بقدر أو بآخر علاقة مع الواقع الراهن, علاقة سندرك أنها علاقة مباشرة بالمشاريع السياسية الثقافية التي نسعى لطرحها. هذا، بطبيعة الحال، يطرح منذ البدء مفهوم التراث كي نفهم مع ماذا نتعامل كأن نقول مفهوم الوحدة, مفهوم التقدم , مفهوم العقلانية ، الخ...
التراث.. ما هو هذا المفهوم ؟ أظن لابد من أخذ التراث بصيغتين، و الصيغة الأولى هي الصيغة اللغوية الاشتقاقية, والصيغة الثانية هي صيغة المصطلح. كيف أصبح التراث يعني ما نريد أن نعنيه الآن ؟ وهل له جذر في اللغة ؟ التراث من الناحية اللغوية يستند إلى الجذر اللغوي ورث و أورث وجعل شيء ما قابلاً لأن يجرى تناوله[تسلّمه] من يد إلى أخرى. فإذاً، هناك حركية ما بالمعنى اللغوي حركية تتصف بكلمة التراث فهو ليس حالة مغلقة وإنما حالة مفتوحة من إلى , من شعب إلى آخر من جيل إلى آخر , وهذا يعني أن التراث بالمعنى اللغوي حالة يجب أن تؤخذ بوصفه أمراً ليس مغلقاً وليس مطلقاً , هذه الفكرة سهلت نشوء التراث بوصفه مصطلحاً , الانتقال من الكلمة إلى المصطلح أحياناً لا يكون سهلاً أحياناً يكون للكلمة خصوصية دقيقة لا تسمح إلا بصعوبة للانتقال إلى المصطلح أو هذا المصطلح للكلمة المغلقة هنا إذا ما أريد له أن ينشأ المصطلح عليه أن يبتعد كثيراً عن الكلمة الأصل. في حالة التراث نجد حراكاً من الكلمة إلى المصطلح من اللفظة اللغوية إلى المصطلح الفكري. طبعاً لم تظهر فكرة التراث حتى القرن التاسع عشر عربياً إلا بالمعنى اللغوي المباشر بالرغم من أن رواد النهضة العربية الحديثة تحدثوا عن التراث لكن لم يخرجوا عموماً عن التراث بوصفه لحظة لغوية يمكن انتقالها من حال إلى حال و بالتالي لم تبن منظومة فكرية منهجية حول التراث بوصفه مصطلحاً في ظني إلا في مراحل ما بعد الحرب العالمية الثانية وبالتالي مع تحقيق الاستقلالات السياسية في بعض البلدان العربية هنا بدأت قضية التراث فعلاً تجد مجالاً جديداً لها لأن يجري حوار حولها تصبح موضوعاً لحوار جديد في سوريا بصورة خاصة سوريا التي بدأت مشروعا سياسياً ثقافياً جديداً برؤية ديمقراطية برلمانية . هذا الأمر أفسح في المجال كثيراً للتداول في قضية التراث بوصفها أمراً ملتصقاً بقضية المشروع الجديد , ومن ثم رحنا نضع يدنا على قراءات أولية عفوية للتراث فيها كثيرٌ من الاجتهاد لكن معظمها ظل غير مقترن بدقة بالمفهوم الفكري المنهجي للتراث الذي سنواجهه لاحقاً و الآن كذلك التراث هذا إذ بدأ يبرز كمشكلة ليست لغوية فقط وليست تراثية فقط وإنما أيضا كمشكلة راهنة فهذا هو الأمر الجديد. كان الاعتقاد سائداً قبل ذلك أن قضية التراث هي قضية التراث نفسه. الآن مع مرحلة الاستقلال وبروز المشروع الثقافي والاجتهادات المفتوحة سياسيا وثقافياً بدأت الفكرة تتخذ أبعاداً جديدة. أهم هذه الأبعاد أن قضية التراث هي قضية راهنة وهذا ما أوجد تساؤلاً كان يشدد على أن التراث يجب أن يفهم أيضاً في سياق المرحلة التي نعيشها؛ المرحلة المعيشة بصورة عامة مع هذه الحوارات التي واكبتها حوارات واسعة بالنسبة للحقل الثقافي ومع الصراعات السياسية والثقافية مع التدفق الاستعماري , في مرحلة ما بعد الاستقلال راحت تتشكل حالة جديدة أنا هنا أتحدث عن سوريا لأنها جديرة بأن تكون نموذجاً للحالة العربية العامة؛ سوريا هنا يصح أن تكون نموذجاً يدرس العالم العربي بمقتضاها.
هذه الوضعية الجديدة أخذت تطرح أسئلة تمس التراث نفسه، أي تراث يعنينا ما هو التراث الذي يمكن أن يمتثل لمشكلاتنا ويتحول إلى فعل ٍِ قادر أن يدفعنا إلى الأمام في مرحلة أو في معركة الاستقلال هذا السؤال أخذ يتسع أكثر فأكثر إلى أن راح يكتسب صيغتين اثنتين كبريين , الصيغة الأولى هي الصيغة البراغماتية الذرائعية يعني المصلحيّة، ماذا يهمنا من ذلك ؟ السؤال الذرائعي المصلحي هو ما الذي يهمنا من هذا الأمر الذي ظل خفياً علينا وعلى أجيال كثيرة قبلنا لماذا نفتح باباً جديداً ؟ والسؤال الثاني أليس علينا أن نفهم أولاً التراث بوصفه مشكلة أكاديمية علمية , قبل أن ننخرط تماماً في الوجه الذرائعي النفعي ؟ …
في النهاية أخذنا نواجه سؤالين أعيدهما، السؤال الأول : أليس من الإقحام غير المجدي أن نخلق لأنفسنا مشكلة جديدة ؟ إلى جانب المشكلات التي ورثناها والتي علينا أن نجيب عنها راهناً ؟.
لماذا إذا ندرس مشكلة ما كانت موجودة وقد اعتبرنا هذا السؤال سؤالاً يقوم على المصالح سؤالاً ذرائعي من الذريعة؛ من المصلحة. والسؤال الثاني: إذا كان مثل هذا السؤال قائماً , أليس ضرورياً أن نؤسس له معرفياً ؟ أكاديمياً ؟ أي أن نكتشف فيما إذا كان فعلاً يمتلك مصداقية معرفية وليس سؤالاً أتى في غمرة الأحداث السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال. هذا كما أشرت بدأ يبرز مع معركة الاستقلال قبل ذلك كانت تطرح قضية التراث عملياً من موقع المشكلات التي كان يواجهها جمع من النهضويين والتنويريين الرواد في القرن التاسع عشر وما بعد لأنهم كانوا يواجهون مصاعب كبرى؛ غياب التنوير، ظهور الظلامية؛ تأسس الظلامية على بنية اجتماعية تحميها، فكانوا يطرحون قضية التراث بوجهها النفعي بالدرجة الأولى وربما بالدرجة الوحيدة . الآن مرحلة الاستقلال خلقت حالة مفتوحة لتعميق السؤال ذاك بالشق الآخر والشق المعرفي إذا كنا نلح على مسألة التراث علينا أن ندرك أولاً فيما إذا كان يملك مصداقية معرفية. هنا بدأت أسباب أولية جنينية تبرز وتفصح عن نفسها مقترنة مع التيارات السياسية التي أخذت تتبلور في معركة الاستقلال ومع أن معركة الاستقلال لم تطل كثيراً منذ الـ 1946– 1947 حتى الـ 1958هذه المرحلة القصيرة جداً هي التي كانت المهد الأساسي لطرح أسئلة كثيرة منها سؤال التراث وبالتالي لم تستكمل هنا على الهامش لم تستكمل لأن عام الـ 1958 أتى حدث جلل كبير أوقف هذه الحوارات العامل الذي أعنيه هنا سحب المجتمع السياسي في سوريا لأن من الشروط الأساسية لتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا في حينه , الشروط الأساسية الحاسمة أن تلغى الأحزاب وأن يلغى المجتمع السياسي في سوريا، وبالتالي كذلك في مصر فالحراك العميق الذي كانت العملية تأخذه في تلك الفترة القصيرة بدأ يكف عن جيشانه عن تقدمه وانكفأت معركة التراث إلا قليلاً , لكن ما الذي حصل في هذه الفترة القصيرة بدأت التيارات السياسية من أجل أن تستقوي بالفعل السياسي بدأت تكتشف أيضا ما تتكئ عليها فوجدت أن مسألة التراث يمكن أن يتكأ عليها ومع هذه العملية نجد أمراً له فضيلة بقدر ما يمتلك على بعض الرذيلة , الفضيلة تكمن في أن قضية التراث في مفهومها الجديد الحديث ارتبطت ارتباطاً يكاد يكون قاطعاً ووحيداً بالحركة السياسية عموماً والحركات الحزبية بصورة خاصة , وهذا ما ضيق على المسألة مع أنه فتح باباً لها من هنا نكتشف أن هذا الذي فتح بدأ أيضاً يطرح فكرة الإغلاق على قضية التراث لأن التراث بمجرد أن نضعه في إطار أحزاب متعددة ضيقنا عليه وأبعدنا الأسئلة المعرفية التي يمكن أن تبرز في صعيد قضية التراث , ورغم ذلك وأنا شاهد على هذه المرحلة , كان هناك حراك هائل وأنتم تعرفون الشعب السوري شعب خلاق فعلاً حين تفتح أمامه الآفاق يفتح التاريخ بقوة فنشأت مقدمات كبرى للتأسيس لأسئلة جديدة ليس في التراث فحسب وإنما في القضايا العلمية التي تتصل خصوصاً بالعلوم الاجتماعية والإنسانية , وبالمناسبة ما سيتأسس في جامعة دمشق وهي الجامعة الأولى لاحقاً تحت إطار كلية الآداب والعلوم الإنسانية كانت إرهاصاته ومقدماته قد تأسست في تلك المرحلة القصيرة أي مرحلة طرحت أسئلة جديدة من أجل نماء العلوم الاجتماعية والإنسانية وتخصيصاً من أجل نماء مسائل معينة منها مسألة التراث هكذا بدأنا ونحن نعلم أن مرحلة الاستقلال القصيرة هذه نمت فيها الحركة الماركسية والقومية والليبرالية والدينية الإسلامية والأخرى المسيحية والثالثة الفرعونية وكذلك السورية القومية وهكذا كانت التيارات السياسية محطة تجر معها الأفكار الأكاديمية على صعيد التراث فنشأت بالتاريخ وبصورة عفوية تيار ماركسي في التراث تيار قومي وآخر ليبرالي وثالث سوري وهكذا نجد أن تيارات كثيرة نشأت مرتبطة بالتيارات السياسية هذا كان له فضيلة ولكنه أفصح لاحقاً عن أنه أيضاً أسس لأخطاء حتى الآن لم نستطع تجاوزها تماماً لكني سأشدد على العملية التأسيسية المعرفية كي أصل إلى تحديد مفهوم التراث وأنا هنا سأقفز على مراحل كثيرة كي أصل إلى الإجابة الأولية عن المشكلة .
في إطار ذلك المعمعان من الصراعات المفتوحة في مجتمع سياسي مفتوح نشأت هذه التيارات وبدأت الاجتهادات تتعاظم باتجاه تحديد كلمة التراث ومفهوم التراث وتحديد حاجتنا للإجابة عن مسائل التراث العربي والإسلامي والعالمي وهكذا صرنا نقرأ إجابات عن المسألة من مصر وسوريا والعراق والمغرب والسودان , كانت هناك حركة هامة من البحث التراثي لو أتيح لها من الزمن أكثر مما أعطي لكانت قد أفضت إلى شيء ذي أهمية كبرى, سأقفز وأقول ضمن اجتهادات ستحدث لاحقاً إن مفهوم التراث يمكن النظر إليه بوصفه مفهوماً قائماً على التضايف مع مفهوم آخر هو التاريخ , مفهومان متضايفان بمعنى أن الواحد منهما يفضي إلى الثاني ولا يمكن فهمه بعيداً عن هذا الثاني . وهنا بدأت عملية تفكيكية للمفهومين عملية تفكيكية وتركيبية أي بعد التفكيك عملية إعادة بنينة من" بنية " واكتشاف دلالاتهما احتمالاتهما، بنيتيهما، آفاقهما هذا كله يمكن أن يطرح الأفكار التالية : فأنا هنا أقفز كما أشرت على كثير من الحوارات والأبحاث التي جرت وسآخذ معظم نتائجها:
يمكن القول إن التراث هو كل شيء ينتمي إلى الماضي ويتوقف عند تخوم المرحلة المعاصرة أي عند حدود المرحلة المعاصرة , التراث لا يدخل في المرحلة المعاصرة عند تخومها لكنه حين يتحول إلى فعل أي حين يوجد مجتمع يتعامل مع التراث يصبح قابلاً للتدخل في المرحلة الراهنة وبالتالي نصل إلى تعريف أولي للتراث فنقول بأنه الحركة التي تنطلق من الماضي لتتجه إلى الحاضر فاعلة فيه ومنفعلة وبالتالي التراث هو لحظة نعيشها خذوا مثال هذا الذي يدور حوله حوار الآن في فرنسا وغيرها حول الحجاب وتركيا الحجاب يحمل مالا يحصى من الدلالات التراثية فهو معبأ بالدلالات التي لابد من دراستها كي نعرف لماذا استمر هذا الأمر وهو مستمر وقادر على الفعل وعلى التأثير في كثير من المجموعات البشرية الآن. فالتراث إذا فعل ماض يصل إلى التخوم ليفعل فيها حين توجد مجموعات بشرية هي بالأساس لا تستطيع أن تنفصل عن تخومها هذا يظهر بوضوح أكثر حين نأخذ مفهوم التاريخ فنجد أن التاريخ هو الماضي ممتداً حتى الحاضر ومتوقف عنده التاريخ هو مرحلة منصرمة يصبح التاريخ جزء منا عبر التراث , التراث هو حصيلة لتاريخ وهو حصيلة الحاضر نفسه ولهذا حين نقول تراث فإنما نعني به المفهوم الذي ينطوي تحته لحظتان اثنتان الماضي حاضراً وبالتالي هاتان اللحظتان ستبقيان تؤثران فينا من موقع الراهن. التراث ليس حالة تنشأ لتنتهي وليس هناك شيء ينشأ لينتهي وهذا لاحظناه عبر التاريخ, التاريخ يتوقف عند التخوم ولكنه يستمر عبر التراث , التراث الحامل التاريخي الاجتماعي الثقافي للحظة المنصرمة بهذا المعنى نحن نعيش التراث شئنا أم أبينا لكن التاريخ يمكن أن نجد له طريقة ما ندعه عند التخوم كيف ؟ بأن نستخدم مجموعة من الآليات التي اجتهد في التدقيق فيها مجموعة من الباحثين, سأتحدث هنا عن آلية واحدة وسأنتهي من الحديث في هذه المسألة, الآلية هذه تقوم على ما يمكن تسميته بالاختيار التاريخي التراثي , اختيار تاريخي تراثي , أي إنسان يعيش لحظته , هو بالضرورة ابن هذه العملية المتدفقة من الماضي إليه , وبالتالي هو يعيش في حالة يجد نفسه فيها مدعواً إلى سلوك واحد من ثلاثة احتمالات حين يفكر بالتاريخ مستمراً أي بالتراث , الحالة الأولى: أن يواجه عناصر في هذا الماضي الممتد بوصفه تراثاً ، أن يواجه في هذه الحالة عناصر مقومات قد يأخذها ويجعل منها مشروعاً في إطار مجموعة حياته التي يؤسس لها , هنا سأستخدم الأمثلة البسيطة إلى درجة السذاجة , نأخذ فكرة الغزالي الفيلسوف والفقيه المعروف الإسلامي , كان يتحدث عن أنه لا توجد قوانين وضعية تامة في الطبيعة وبالتالي لا توجد علاقات أسباب ومسببات لماذا ؟ لأن الله يتدخل في كل شيء وبالتالي هو قادر على أن لا يسمح لسبب أن ينشأ مسبباً , وهذا ما يسميه الغزالي بالخلق المستمر , عملية خلق يتدخل فيها الله بحيث يحول دون تراكب الأحداث مع مسبباتها , ويأخذ مثالاً يقول : " إذا أخذنا قطعة من الشاش وأحرقناها ليس من الضروري أن تحترق إذا لم يرد الله ذلك , ويمكن أن تحترق إذا شاء ذلك وبالتالي بنى موقفه من دخول موسى إلى النار والآخرين إلى النار ولم يصابوا بأذى , وبالتالي الإرادة الإلهية هنا إرادة كونية شاملة . نحن الآن أمام رؤية هذه العناصر , ما الذي نفعل بها , كهذا العنصر الذي ذكره الغزالي, في هذه الحال نستخدم الآلية الأولى, وهي العزل الوظيفي؛ إننا نعزل هذه الحادثة وما يشابهها عزلاً وظيفياً بحيث لا نرمها ولا نقلل من دراستها دراسةً موضوعيةُ دقيقة كي لا نسمح لها أن تدخل مثلاً في مناهج التعليم عندنا . وهذا يجوز لنا فالعزل الوظيفي هي الآلية الأولى التي تحول دون مالا يدخل في سياق حالتنا و حاجاتنا .
الآلية الثانية: هي أن نكتشف عناصر في هذا التاريخ المستمر تراثاً أن نكتشف حالة أخرى تقوم على وجود عناصر كانت ايجابية في حينه و أسهمت في التقدم المعرفي والثقافي ولكنها مع تقدم البشرية فقدت الكثير من أهميتها ، ماذا نفعل بهذه العناصر ؟ هذه العناصر نأخذ بها بوصفها عناصر محفزة في إطار عصرنا الراهن لا نأخذها تماماً لا نتبناها إنما نستلهمها؛ هناك نقصيها وظيفيا هنا نستلهمها تراثياً وتاريخياً وبالتالي هناك ما لا يحصى من العناصر، تاريخنا مليء بمثل هذه العناصر من الحركات السياسية والتطورات العلمية لكنها مع التدفق الهائل في العصور الحديثة قضايا لم تعد ذات معنى لكنها تمثل حوافز للتقدم على الأقل تقدم حافزاً كما سنرى حافزاً لنمو مشروع نهضة جديدة إننا لم نأت من الجدار إنما هناك مسوغات لنهوضنا تكمن في جذور لنا بهذا المعنى الآلية الثانية تكتشف المحفزات للمرحلة المعاصرة تحت عنوان الاستلهام التراثي و التاريخي أما ما يبقى من العناصر التي لا تدخل لا في التبني و لا في الاستلهام ماذا نفعل فيها ؟ سندرسها دراسة ً موضوعيةً دقيقة وسنركز دراستنا في مراكز بحوث غائبة عندنا أي بأن نتقصاها دائماً ولكننا سنحول دون أن تدخل في حياتنا المعاصرة ستكون بمعنى آخر درساً لنا دون أن تكون في بنيتنا. أرجو أن تلاحظوا هذا الأمر مجرد أن نكتشف هذه العناصر نكتشف أولاً جزءاً من مسار التطور العربي الفارق كيف تطور . نكتشف ما الذي نأخذه و ما الذي لا نأخذه و بالتالي نقول إن هذه العناصر لا تدخل في مشروعنا ، هذا إذا تحدثنا في السياسة لا تدخل في مشروع سياسي نهضوي تنويري عقلاني ولكن بمجرد أن نعرفها و ندقق فيها نكتشف ما يجب أن نفعل من أجل تجاوزها ، كذلك ما يقال في هذه الحالة الثالثة تطرح الأسئلة الكبرى التي ينشأ في مقدمتها سؤال واحد ، كيف نجعل من الرذيلة فضيلة ؟ لا يغيب شيء في التاريخ لا يذهب شيء في التاريخ الرذائل كلها يمكن أن تتحول إلى محفزات لاكتشاف الفضائل و بهذا المعنى البحث في التراث هذا الذي حددناه بأنه الماضي مستمراً وفاعلاً في عصرنا الراهن، هذا التراث يمكن إذاً أن نأخذه ضمن هذه الاحتمالات الثلاثة أنهي إجابتي هنا بالقول إذا كان الأمر على هذا النحو يعني إذا كنا نحن نعيش التراث والتراث يعيش فينا لأنه حالة موضوعية فإننا نعيش وضعية التراث حتى لو لم نتفرغ لها أكاديمياً , ليس كل الناس أكاديميين ولا علماء ولا مثقفين ولكنهم يستجيبون للتراث بصيغتين اثنتين أن يقوموا بقراءاتهم التراثية الضمنية غير المعلن عنها عن طريق قناتين اثنتين أولاً المستوى الثقافي الذي يملكونه , واحد جاهل واحد متعلم . وطبعاً ضمن هذه التحديدات الثلاثة هناك تحديدات لا تحصى , المستوى الثقافي الذي يستطيع المرء أن ينطلق منه ، هذا إذا أتيح له أن ينطلق باتجاه تراثه . والأمر الثاني القناة الأيديولوجية هذه مشكلة معقدة اشتغل عليها مثقفون معاصرون عرب و أجانب وكثير من الإساءات أتت من موقع هذه القناة الثانية الأيديولوجية وأريد أن أذكر هنا شخصاً ذا أهمية في الفكر العربي المعاصر وهو محمد عابد الجابري, هذا الرجل أتى وفي ذهنه مهمة كبرى أن يجعل من الإيديولوجيا كما هي رذيلة ينبغي دحضها وبالتالي كل القراءات العفوية والقصدية إذا كانت متلبسة بحد ما من حدود الإيديولوجيا فهي قراءات فاسدة.
الكلمة التي أريد أن أقولها هنا إجابة على الأمر , السؤال الثقافي أو المستوى الثقافي الذي يحدد المستوى المعرفي لفهم المرء تراثه، أما الثانية، القناة الثانية وهي القناة الأيديولوجية فهي التي تحدد عودة الإنسان إلى تراثه من موقع مصالحه التي قد يدركها وقد لا يدركها. وطبعا هنا لابد من تقديم تعريف أولي للأيديولوجية ويسعدني أن أقول أن هذا التعريف قمت به وأرجو أن يخضع لكثير من النقد المعرفي لأنه قد يجيب عن مسائل كثيرة مشكلة في الثقافة العربية الراهنة , التعريف يقوم على التالي : إن كل الوقائع والنظريات والمفاهيم التي نتوجه إليها, نتوجه إليها درساً واجتهاداً وتأويلاً بمقتضى المصالح التي نعيشها ليس كل إنسان يعرف هذه الحركة ..تفسير النصوص والمواقف والتيارات تفسيرها وتأويلها يتم دائماً مع المستوى الثقافي بمقتضى المصالح التي يعرفها صاحبها أو لا يعرفها لكنه يعيشها , بهذا المعنى إن كل إنسان يقرأ التراث قراءة خاصة به وبهذا المعنى تبرز قضية التراث هنا ليست كقضية تراثية تخص التراث ذاته بقدر ما تخص قارئه , بهذا المعنى البحث الأكاديمي في التراث يميز بين قراءة التراث من موقعه وقراءة التراث من موقع قارئه , وبهذا المعنى نجد أن التراث داخل في حياة البشر دخولاً شريانيا عميقاً. كثيرون يعتقدون أنهم محررون من مشكلة التراث خصوصاً أولئك الذين يعلنون أنهم ينتمون إلى الحداثة وإلى الليبرالية والعقلانية وإلى غير ذلك مما يطرح الآن , هم يظنون أنهم بعيدون عن قضية التراث الجميع قائم على قدم وساق في البنية التراثية وإذا ما أصبحت المسألة التراثية حالة من حالات الفهم العقلاني فإنها سوف تبقى دائما حالة موجودة ولكنها مغلقة وتحتاج من يعيد بناءها , إذا مسألة التراث مسألة موجودة فينا وعلينا أن نكتشف منظومتها الفكرية , هذه المنظومة التي على الجميع أن يسهم في تكوينها.
د. نايف : طبعاً دكتور هنا توجد عدة قضايا طرحت فيها إشكالاً و تحتاج إلى توضيح أكثر .
د. تيزيني : كل شيء فيه إشكال .
د.نايف : طبعاً هنا تكمن الإشكالية كلها . كلنا داخل في التراث كلنا مقحمون. كلنا معني بالتراث، هذا أكيد. ذكرت أنت قضية المصلحة كلٌِ يقرأ التراث من موقع مصلحته؛ مستويات المصلحة, كيف نفهم المصلحة؟ لأنه ممكن أن يكون هناك مصلحة براغماتية قريبة جدا نفعية , هناك مصالح أعلى أي هناك مستويات في مسألة المصلحة.
د. تيزيني: المصلحة هنا ببساطة مقترنة بالوضعية الاجتماعية التي يعيش فيها الناس , مقترنة بالضرورة ولا يوجد إنسان لا اجتماعي لا تاريخي؛ فالمصلحة قائمة وتفهم بأشكال وأنساق متعددة .
د.نايف: هناك نقطة أخرى تفضلت بها ظهر من خلالها للمستمع؛ للمتلقي بشكل عام , أن البرجوازية "الليبرالية" بين الحربين العالميتين في كل من مصر وسوريا كانت أكثر قدرة على طرح مشكلة التراث وسؤال التراث وكأنه ظهر أن الانقلابات العسكرية التي جاءت عبر الضباط الأحرار في مصر وعبر ضباط الجيش في سوريا في 1963 ، وفي العراق ، الخ.. وكأنها أغلقت هذا السؤال أو أدخلته في نفق ضيق براغماتي أو نفعي أو قدست التراث كما فعل البعثيون برفعهم لشعار " ومنا الوليد ومنا لرشيد " الخ ...
د. تيزيني : البعثيون والشيوعيون .
د.نايف : طبعا ً باعتبارهم ، أي الشيوعيين، ألحقوا أنفسهم بهم فسقطوا في نفس المطب . ممكن هذا الكلام أن يصح تماماً في مصر باعتبار أن البرجوازية المصرية بين الحربين طرحت مشكلة التراث وسؤال التراث بطريقة مفتوحة أكثر من الفئات الاجتماعية التي صعدت إلى السلطة لاحقاً. هذا ما ظهر من حديثك.
د.تيزيني : نعم أنا هنا تحدثت عن المشروع السياسي الثقافي في سوريا وفي مصر وفي تونس وفي العراق , هذه كانت مناطق حية , كان هنالك فعلاً مشروعٌ مطروح وقائم على قدم وساق بوصفه امتداداً لعملية الاستقلال , والاستقلال كان يعني أكثر من الاستقلال السياسي العسكري , كان يعني البدء بمشروع نهضوي تنويري, لكن المسألة بدأت في الجيوش العربية هذه الجيوش التي بدأت تعتقد أن الساحات العربية فارغة ممن يملؤها , فانقضت على المجتمعات , طبعا كان هناك إرهاصات بداية لأحزاب وطنية تنشأ شيئاً فشيئاً, ولم يكن لهذه الأحزاب الوقت الكافي كي تؤسس لمشاريع مفتوحة وقادرة على النماء, فهذه الفترة الانتقالية جعلت مجموعة من الجيوش العربية الوطنية التي حققت الاستقلالات , من موقع وطني جعلتها تكتشف خطأ أن المجتمعات العربية خالية وهي بالفعل نسبياً كانت خالية ولكنها في طور الامتلاء , فانقضّت على المجتمعات وأرادت أن تقوم ما على الحياة السياسية أن تقوم به . ما الذي حدث, لقد حدث شيء خطير وطريف, هو أن هذه الجيوش العسكرية بدأت تتجه إلى أن تتحول إلى جيوش غير عسكرية. أريد أن أسأل الأستاذ : هل توجد دائرة مربعة ؟! لكن بدأت تتكون جيوش غير عسكرية أي دوائر مربعة ! كيف ؟ بأن انتقلت بوظائفها العسكرية ففقدتها إلى مجالات جديدة أخفقت فيها. لاحظوا هذه الحركة المعقدة, الانتقال من مجال إلى مجال دون المرور بمرحلة انتقالية مليئة. هذا جعل من هذه الجيوش وسريعا تبدو وكأنها تحولت إلى عبء, خصوصاً أن هذه المرحلة الانتقالية اقترنت بحركات انقلابية. كانت مرحلة الليبرالية قصيرة ولكنها كانت مليئة, وقد حققت الشيء الكثير, أسست الحركة السياسية البرلمانية، أسست للمدرسة، أسست للجامعة وأسست للاقتصاد المديني الليبرالي , وبدأت تؤسس للحراك السياسي ومفهوم الحزب السياسي. هذا بدأ يتوقف وبالتالي المشروع هنا لم يأخذ مداه ثم بعد ذلك سنلاحظ أن هذا كله أفضى إلى أن العمل السياسي أخذ طابعاً واحداً طبعاً هذا لم يتم بتأثيرات داخلية عربية فحسب وإنما بتأثير المنظومة الاشتراكية التي أصبحت تلمع في الدنيا فأخذ منها مفهوم الحزب من الطراز البيروقراطي الستاليني؛ الحزب القائد , المجتمع الذي يقاد من هذا الحزب ثم الايدولوجيا الواحدة , وهكذا اختصر المجتمع بكلياته وجزئياته إلى حالة واحدة , تبين أنها في النهاية تتلخص في الفكرة التالية " البلد كله يلخص في الحزب , والحزب كله يلخص باللجنة المركزية , واللجنة المركزية بالمكتب السياسي والمكتب السياسي بالقائد الأمين العام ". وكان هذا هو بداية الخراب , لأن البنية إذ تغلق فإنها تدخل غمار موتها , أية بنية . وهنا أستطرد وأقول: إذا وجدت بنية مغلقة فهي مطلقة, والبنية المطلقة لا يمكن تناولها لذلك تنهار, وهكذا انهار الاتحاد السوفيتي. الناس الذين كان عليهم أن يدافعوا عنه انتهوا وكذلك الوحدة السورية المصرية التي نشأت وفعلاً أتت تعبيرا عن حلم عظيم للأمة انتهت وأولئك الذين كان عليهم أن يحموها بصيغة الأحزاب والحراك السياسي انتهوا قبل أن تنشأ , كان الشرط الأساسي لإنجاز الوحدة أن ينتهي المجتمع الحزبي , يعني الشرط هو إنهاؤها قبل أن تكتمل , بهذا الشكل المشروع وجد عثرات هائلة
د.نايف : دكتورة تغريد باعتبارك متخصصة بالتاريخ الأوربي كيف كان تفاعل البيئة العربية التي تفضل الدكتور التيزيني وذكر عناصرها من أحزاب وقوى سياسية وحركات وأفكار ومشاريع قراءات تراثية, مع التراث الأوربي بطريقة أو بأخرى ؟
د. تغريد الهاشمي : لدي نص مكتوب وأود قراءته، وهو بعنوان :
التراث وجدلية العلاقة والفهم
غايتنا اليوم في هذه الندوة البحث في التراث. ولكي نصل إلى نتيجة منطقية وذات الفائدة التي نتوخاها منها أو بعضاً منها فإنه من المحتم اشتراطاً أن نضع في سياقها كل المكونات أو أكثرها من العناصر التي تكون التراث باعتباره كلية جامعة للأجزاء التي تشكله والمنبثقة عنه..
فما هو التراث؟ إذا أردنا أن نتفاهم لا بد من طرح السؤال الآتي: ما الذي يتشكل أو يتداعى في ذهن أو وعي كل منا حين يطرح هكذا سؤال؟ ما هو التراث؟ هل هو الدين؟ وهو تراث.. هل هو الفلسفة؟ وهي تراث.. هل هو الحكايات والأمثال الشعبية والأساطير وهي تراث؟ هل هو ا لأدب بكل أجناسه؟ أم الفن بكل أجناسه أم التاريخ بكل حوادثه وعناصره وتداعياته وأسبابه المباشرة وغير المباشرة والتي لعبت دوراً في تغيير مصائر الشعوب والحياة وسحقها وتدميرها تحت ذرائع معينة وأسباب معينة ودعاوى وأهداف مزعومة مباشرة أو غير مباشرة؟ هل هي العادات والتقاليد؟ وهي تراث أم السياسية أم أن التراث في نظر البعض ليس أكثر من فولكلور. وإذا أردنا أن نعدد ونفصّل لن نتوقف لكن الأمر المهم هو العود على البدء. ما هو التراث بالنسبة لأي منا؟
بالنسبة لنا نتقدم إليكم ببساطة ونقول إن كل ما ذكرناه هو التراث والتراث كلية جامعة كما قلنا لكل هذه العناصر بل إنه ناقص إذا فقد بعضها أو أحدها.
ألا ترون أن كل ذلك أمر معقد وشائك ولا يمكن حسم المساءلة فيه بهذه البساطة من اتخاذ قرار بالعمل على الأصالة أو الحداثة قبلها وما بعدها والقطع الساذج بينهما. ولا نقول الفصل أو الفصم أو القطيعة. والمخاصمة هنا جريمة.
التراث؟ ومعناه اللغوي إنه اشتقاق لفظي من إرث وميراث وتأريث وهو تراث. وضمن هذا المفهوم اللغوي فإن كل ما يخلفه الإنسان والطبيعة والحياة يعتبر ميراثاً وبمعنى ما تراثاً فهل ينبغي لنا أن نلتزم بمفهوم المعنى ونتعامل معه بالجملة أو بالكل وبنفس الدرجة؟ ليس ذلك أمراً بدهياً بل ليس من الممكن أن يكون منطقياً. ومن هنا تنشأ الإشكالية الجوهرية ليس في استخدام المفردة بهذا المعنى وإنما بتحريك المعنى جدلياً. وهنا لا بد من الولوج في تجربة الكشف والبحث والاستقصاء لمعرفة المسافة أو الفارق بين الميراث والإرث ببعده الماضوي وبين ما يمكن أن يكون مختزناً فينا عبر الذاكرة الجمعية وانغماسنا راهناً في حوض ما يعتبر ماضياً أو متشكلاً في أزمنة الماضي. وما نحن الآن بصيغة أو بأخرى إلا نتاجاً منطقياً وموضوعياً لذلك الماضي ونحن متصلون به ولسنا منفصلين عنه. هذه حقيقة موضوعية بلا أي التباس- وحين نفكر بالمستقبل لا نستطيع إلا أن نفكر بما امتلكناه واحتويناه وساهم في تشكلنا بكل أبعادنا الروحية والثقافية والمعرفية والأخلاقية والنفسية والإنسانية بشكل عام.
أنا مثلاً كما تعلمون خلقت وترعرعت في بيئة إسلامية محافظة منقسمة فيما بينها مذهبياً تتجاذبها شتى التيارات الدينية والسياسية والفكرية والثقافية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومع ذلك ننتمي إلى أسرة واحدة. وفيما يخصني أنا شخصياً أعترف ببالغ الجدية والبساطة أن الثقافة الدينية ساهمت في بنائي الشخصي ومع ذلك فلست متدينة. لقد ساهم الإرث الديني والاجتماعي في بناء منظومتي الأخلاقية والنفسية. ومع ذلك لست بالمفهوم السلفي رجعية ولست بالمفهوم الاستبدادي خاضعة عبودياً لثقافة المجتمع الذي أتحدر منه وأنا بمقتضى كل ذلك وبدونه حرة وأمارس حياتي انطلاقاً من هذه الحرية ومن الوعي المؤهل للإنسان العاقل المتزن والرصين. ونحن هنا لا نعني أننا محنطون ومتكلسون بمعنى أننا محكومون تراثياً قابلين جدلياً للتقدم والتطور. بل إن ذلك الذي تحدثنا عنه فيما يخص ذلك التراث بالمفهوم الذي حددناه لا يعدو من وجهة نظرنا أكثر من "بنية تحتية" مؤسسة للغد ليس أكثر. التراث كيف نفهمه نحن؟ هو ببساطة الثقافة والتراث ثقافة هكذا نفهمه نحن.... الثقافة بمعناها الواسع العميق الممتد طولاً وعرضاً وعمقاً وامتداداً... وأنتم بلا شك تدركون جيداً ما نرمي إليه.. وإذا شئتم التحديد القصدي في المعنى هو أن الثقافة بإيجاز حاسم هي نحن (الآن، وفي كل آن) فمن نحن الآن وما هي ثقافتنا... يعني ما هو تراثنا... تعالوا نبحث إذا أردتم والتساؤل هنا كم يلزمنا من الوقت والجهد لنكشف من نحن ونصل إلى نتيجة يمكن وصفها بأنها منطقية- الثقافة باختصار هي نحن وهي بالتالي مستقبلنا الذي ترسمه تلك الثقافة وبأي أسلوب أو منهاج أو طريقة كانت والسؤال منا كيف ننظر إلى الإنسان على أرضية تلك الثقافة. الإنسان هل هو طليق أم مقيد؟ حين نضع الإنسان ضمن أنماط سلوكية وفكرية وثقافية ومعرفية ونحدد له الكيفية التي يدير بها شؤون حياته على أنها الحياة الأسلم والمتحضرة والمتمدنة والتي تنحو به إلى التقدم والتي بمقتضاها يتحقق له بقاؤه وأمنه وسلامته المادية والوضعية والموضوعية ويستتب له الأمر على هذا المنوال من الرضا فهل تحل مشكلته ويصل بكل هذا إلى خلاصة أم أن كل ذلك العبء الثقيل مما يمكن أن نسميه الواقع المادي والبنية التحتية والتي لا غنى للحياة عنها أبداً. هي كل ما يضع الإنسان في مساره أم أن ثمة شيئاً آخراً ينبغي أن نفكر فيه جدياً ويخص الإنسان يطلقة ولا يحدد له كيف يمشي وكيف يأكل وكيف يعيش وكيف ينام وعلى أن أريكة يجلس ويقدم له جاهزاً نمط الأريكة وممرات البيت ونظام القاعات وتوزيعها وتخصصها وفق نمط العيش المحدد والمرتب والذي يطلق عليه اللائق – نظام مدينته- العمارة.. ألوان بيته ووسائل رفاهيته ومن أين يحصل عليها وكيف يستهلكها وبالتالي كيف تستعبده ليكون إنساناً معاصراً. يعيش الحداثة وما بعدها مهيئاً نفسه طواعية لقبول ما يعرض عليه على أنه الأمثل. وهذا كما تعلمون يخص الحداثة وما بعدها وبدون ذلك يصبح الإنسان سلفياً ورجعياً وليس متحضراً أو متمدناً ولا يفهم أصول اللباقة واللياقة وكياسة التعامل وكيف يقيض لنا أن نكون نحن دون العودة إلى التواصل مع جذورنا الثقافية والحضارية وإعادة إنتاجها بما يتلاءم مع المتغيرات والتطورات التي تحدث. طبعاً ستتساءلون كيف؟ وماذا نقصد بالتحديد؟ نقصد أول ما نقصد ونعني أول ما نعني إعادة بناء الشخصية الإنسانية أولاً والتي لا يمكن أن تتكامل ملامحها وتكون حاضرة في الزمان والمكان والحضارة بغير ذلك التواصل وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فإننا هنا نفصل فصلاً تاماً بين الحضارة الإنسانية الضامنة للإنسان وأمنه والتي تحفظ كرامته وتلك التي تعمل بقصد أو بدونه على إلغائه وتهميشه وزجه سلعة في سوق العمل أو مستهلكاً لمنتوجات ما يسمى الحضارة الغربية المعاصرة ونعني هنا بالتحديد التطور التقني الذي لم يقدم للإنسانية سوى أنه جعلها تلهث خلف هذا التطور دون أن يصل إلى استقراره أو أمنه بدرجة أنها لا تسمح له بأن يلتقط أنفاسه ليتأمل أو يفكر فيما إذا كان على صواب. وبهذه الحالة فقط يمكننا أن نقول أننا لا نمتلك الزمن وبالتالي نحن لا نعيشه وبمعنى أدق وأكثر وضوحاً هو أن بيننا وبين الزمن قطيعة متواصلة حتى أصبحت هذه القطيعة مشكلة بحد ذاتها بل لعلها مركز مشكلاتنا الحديثة والراهنة والمعاصرة. ذلك لأننا كما قلنا لم نملك زمننا والزمن هنا بمعناه طبعاً وحتى لا يقع أحد في الالتباس هو الحضور... والحضور من الحضارة والعكس صحيح فنحن إذاً وبسبب من ذلك الذي سبق وقلناه لا نعيش حضارتنا بل حضارة الآخرين ولا نعيش زمننا بل زمن الآخرين ولا نعيش ثقافتنا بل ثقافة الآخرين المشوهة والمشوشة والمرتبكة في ذهنيتنا الحديثة والمعاصرة والراهنة فلا الثقافة ثقافتنا ولا الزمن زمننا ويشك في أننا لا نملك المكان الذي نعيش فيه والذي يميد تحت أقدامنا. ولكأننا ولنعترف بجواز هذه الهلوسة أننا طارئون عليه ومهددون بالتلاشي والانقراض ويحق لنا أن نطرح على أنفسنا وعليكم الأسئلة التالية من منا يملك بيتاً وله الخصائص المعمارية والبيئية التي تخصنا وعلى النمط العربي أو شارعاً أو مدينة أو أنماط حياة و معيشة ناهيك عن الثقافة والنظرة إلى الحياة والقيم فهل نحن نحن أم غيرنا؟ علينا أن نعرف أولاً وأخيراً أين موقعنا في الراهن وفيما إذا كنا نضع ما ضينا أمامنا وفي هذه الحالة فإن المستقبل بالتأكيد سيكون خلفنا كنتيجة طبيعية أو أنه ينبغي علينا في حال إدراك أننا الآن بكل مشكلاتنا نتاج للماضي فإن مستقبلنا هو نتاج منطقي للراهن وعلينا الآن وبكثير من التبصر أن لا نشكل خصاماً ما بيننا وبين التراث كما أنه لا يمكن أن نلتصق به لدرجة أن نتحول إلى جثث في أكفانه. وبهذه الحالة التي نراها حتمية والتي نصبو إليها ونتطلع هي أن نعيش حياتنا بمقتضى شرطنا الموضوعي الراهن وفق منظورنا الذي سلف وأن يُعمل فكرنا في رسم ملامح المستقبل والسعي إليه وأن لا نضيع فرصة التقدم وإضافة مرحلة أخرى من التاريخ التي ستضاف حكما إلى الماضي في مرحلة قادمة والتي سنؤسس عليها مرحلة أخرى وهكذا دواليك والبشرية في مسيرة التقدم والتخلف والتطور والثبات ولكل ذلك ظروفه الموضوعية. أما الآن فإنه من المحتم أن لا يغادرنا الإنسان نفسه ويلج في إهاب شخص آخر قد لا يكونه في يوم من الأيام وفي هذا ضياعه. وهذا ما عنيناه بصيغة أخرى ومعنى آخر التواصل مع التراث والانطلاق منه نحو المستقبل ولعل تعبير عابد الجابري هنا مصيب إلى حد كبير بتصوره وتوصيفه الحالة المطلوبة أن تحتوي التراث بدل أن يحتوينا وأن نتجاوزه إلى المستقبل بدل أن يتجاوزنا فنصبح خلفه في العمق البعيد من الزمن وهنا تكمن الكارثة. وبرأي آخر مضاف في إسناد الفكرة أيضاً والقول بضرورة لوعي المسألة حيث يرى عبد الإله بلقزيز أن الوعي لا يكون بالاندماج في ثقافة الآخر لأن هذه الثقافة ليست صكاً حقيقياً للمعاصرة والتقدم، فأوربا لا توزع التقدم على غير أبنائها الذين صنعت وتصنع لهم وبهم حضارة التقدم. هذا فضلاً عن أن مريديها من أبناء العالم الثالث و معهم مثقفونا لا يفعلون أكثر من أنهم يستهلكون أوربا في أوطانهم دون أن ينتجوا المعاصرة تماماً كما يفعل اقتصادهم. والانكفاء إلى الماضي ليس رهاناً كافيا لمواجهة تحدي العصر كلتا الحالتين تقود إلى الغربة عن الحاضر.
د. نايف : دكتورة تغريد أنت قلت " نحن نتاج للماضي " بأي معنى نفهم ذلك؟
د. تغريد : طبعاً أي إنسان بتكوينه الحالي لا يمكن أن تكون ثقافته إلا مختزنة عبر ثقافة كل العصور مثلاً أنا من وجهة نظري الثقافة الإسلامية أو القرآن يختزنان الثقافة الإنسانية في المنطقة كما كان يراها عالم الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي لذلك لا يمكن أن نقول أنه كان بمعزل عن ثقافات الشعوب و الأمم الأخرى نجد فيه من تراث اليهودية و المسيحية تراث شعوب هذه المنطقة ما قبل الإسلام بما في ذلك كل أساطيرها وأمثولاتها وحكاياتها المتداولة والمتواترة، لذلك لا يمكن لأي ثقافة أو أي حضارة أن تعيش بمعزل عن ثقافة أو حضارة الشعوب و الأمم في حينها .
د. نايف : تعنين أنه لدينا خط قادم من الماضي مثل خبرة القرآن أو خبرة النبي في وقته في القرن السابع, و أكيد أنه يوجد خطوط معاصرة دخلت على هذا الخط اقتحمته وصار هناك نوع من الصدام أو المواجهة أي يعني هجوم أوربا الاستعماري, نستطيع أن نقول بأننا نحن نتاج الماضي بهذا المعنى الصدامي الذي كان هو السير الفعلي للتاريخ في المنطقة العربية .
د. تغريد: طبعاً نحن منذ أن تعرفنا على أوربا وبدأنا الاحتكاك معها عبر الحملة الفرنسية وعبر التجارة وعبر الإرساليات وغيره , نشأ هناك خطان الأول يرى أنه لا يمكن أن يتقدم العرب إلا إذا تركوا ماضيهم ، والثاني أن ينسحبوا إلى هذا الماضي!
د.نايف: نحن نتكلم في الحدث الفعلي التاريخي وليس بالأيديولوجيات والآراء والأفكار أو كيف نظر العرب إلى الحدث .
د.تغريد : نعم , نحن نقول أنه نشأ تياران , تيار يرى أنه لا يمكن أن نحقق أي نهضة أو أي حضور فاعل في الحضارة الإنسانية في الوقت الحالي إلا إذا عدنا إلى حضارتنا العربية والإسلامية . تيار آخر أو وجهة نظر أخرى تقول العكس أنه لا يمكن أن نحقق أي حضور أو يكون لنا دور فاعل في التاريخ في الوقت الحالي إلا إذا تأوربنا من أوربا يعني إذا عملنا قطيعة كاملة مع الماضي , طبعاً لا يجوز هذا , إن أوربا مثلاً لم تحقق تقدمها وتصنع أمجادها وحضارتها إلا باستنادها إلى تاريخها , لا يمكن من وجهة نظري أي قطع للجذور التراثية . طبعاً لن نحنط في مقصورات وغيرها .
د.نايف : نفهم إذاً أننا نحن نتاج الماضي ونتاج هذا الصدام الحضاري مع الغرب الرأسمالي . وبهذا المعنى ، لقد قلت أن التراث بنية تحتية , ماذا تقصدين بهذه العبارة ؟
د. تغريد : يعني بنية نؤسس عليها ، والعبارة مجازية وأقصد, أنه لابد من وجود شيء نؤسس عليه , طبعاً نستند إليه كبنية تحتية نؤسس عليها راهننا , ما نريد أن نفعل من أجل الحاضر.
د.نايف : أي ليس بنية تحتية بالمعنى الماركسي ، هناك نقطة أخرى لقد تفضلت وتكلمت عن الخصوصية القومية وأنا أفضل أن أستخدم التميّز القومي . قلتِ بما معناه ، أنه لهم حضارتهم ولنا حضارتنا نحن نستهلك نمط استهلاك أميركي أو أوربي أو غربي, أي أنه لنا أشياءنا , هنا مسألة "الخصوصية" كيف تفهم هذه الخصوصية, من وجهة نظرك طبعاً ؟
د. تغريد : طبعاً لا توجد ثقافة أو تاريخ أو حضارة تعيش منعزلةً عن حضارات الشعوب الأخرى أي هناك تمازج ولكن لكل شعب ولكل ثقافة خصوصيتها . نحن الآن مخترقون ثقافياً إلى درجة أنني لا أرى أي شيء يمت إلى حضارتنا العربية أو بيئتنا المحلية بأية صلة لقد أصبحنا صدى لأوربا أو أمريكا .
د.نايف : هنا دكتورة . أنا مثلاً عندما أضرب صخرة بمطرقة يظهر شرر، و عندما أضرب قطعة خشب سيكون لها رد فعل مختلف نتيجة الصدم تظهر خصوصية جديدة , فالبيئة العربية هنا مختلفة عن اليابانية , الدخول الأوربي على البنية العربية ما قبل الرأسمالية يعطي خصوصية . أحياناً يفهم من الخصوصية أنه هو العزلة أو هذه الأحادية والانغلاق الثقافي والحضاري. لا يمكن أن يتحقق أي تقدم إلا عبر هذا التفاعل وهذا الصدام.
د. تغريد: أي، أن لا نكون مقلدين، أن نحقق نهضتنا بالاستناد إلى إرثنا الثقافي و الحضاري الممتد عبر آلاف السنين, حيث من غير الممكن القطيعة مع الماضي وأن لا يستعبدنا. و ليس بطريقة الاستعباد بل نعتمد عليه في أي نهضة وأي تقدم سوف نحققه في المستقبل.
د.طيب: أنا لدي ملاحظة منهجية أساسية على ما قدمته الصديقة الأستاذة. لقد انطلق كلامك من أن الماضي هو الأساس للتمكين الحضاري ورددت ذلك فقلت من التراث ننطلق أو الماضي نبدأ به وبالتالي نحن لانقطع مع الماضي لكن النقطة التي أريد التنويه بها , ما الذي يسمح بمثل هذا التقرير, ما هي النقطة المنهجية التي تنطلقين منها في هذا لتقرير الذي يقول بأن التراث هو البداية؟. أنا لدي فكرة هي أنه دائماً تكون نقطة الانطلاق هي الآن ؛ الانطلاق من الراهن نحو الماضي ، كما كان الأمر في الماضي كما في المستقبل دائماً نقطة الانطلاق ما سميته بالاثنتين: التراثي والأيديولوجي نحن الآن نعيش في العام 2008 قبل ذلك بألف عام في 1008 كان الناس دائماً ينطلقون في نظرهم إلى الماضي وإلى حاضرهم وإلى ماضي وحاضر الشعوب الأخرى دائماً عبر هاتين القناتين ولذلك منهج النظر هنا يؤسس على نقطة الانطلاق التي هي حاسمة ولا يمكن تجاوزها , الإنسان هو في بيئته أولاً قبل أن يكون خارجها, وبالتالي ليس الماضي أولاً ولا المستقبل ولا الآخر وإنما الآن, وكل ما يأتيه من الماضي الوطني القومي ومن الماضي والحاضر العالمي عليه أن يدفع ضريبة تقديم امتحان للحاضر, هل يستمد شرعيته من الحاضر أم لا يستمدها واستمداد الشرعية هنا يعني هل تتطابق هذه العناصر التي يأخذها من هنا أو هناك مع ما هو قائم به سلباً أو إيجاباً فمنهجية النظر بهذا المعنى هي الحاضر أولاً وليس الماضي وليس المستقبل حتى حين ننظر إلى الماضي ننظر إليه من هذا الموقع وننظر إلى المستقبل هكذا وننظر إلى الآخر أيضاً من هنا وبهذا المعنى نكون فعلاً قد ضبطنا الحدود المنطقية والتاريخية التي تسمح لنا أن نتحرك , وبالمعنى هذا ما تحدثتِ عنه تحت اسم الأصالة والمعاصرة هذه مسألة واحدة هي مسألة الحاضر هل يستطيع أن يأخذ من الماضي والحاضر ما يستجيب لاحتياجاته فقط ما يستجيب لاحتياجاته الأيديولوجية والثقافية لذلك كل النوافذ التي تمتد هكذا وهكذا إذاً هي نافذة واحدة أولى هي التي تتفرع لهذه النوافذ, وبهذا المعنى كل ماضينا وماضي الشعوب تراث وليس كما يقول البعض أنه هناك مواقع لا تخضع للتراث مثلاً الدين, الوحي , هذا كلام أيديولوجي , نحترمه لكننا لا نأخذ به بوصفه فكرة علمية , لأن الوحي نفسه خضع لعدة مراحل لعدة لحظات من التمرحل التي انقضت حتى وصلت إلى النبي لاحظوا هنا (فكرة) دقيقة تجعلك تنظر إلى النص القرآني على أنه نص تاريخي حتى يصل إليه ثم يأتي النبي ويصدح بهذا الذي أتى كلها تاريخ كلها تراث لاشيء خارج التراث، المقدس يتفكك, ما يعتبره البعض مقدساً , يتفكك عبر هذا التمرحل التاريخي . هاتان ملاحظتان أحببت أن أشير منها إلى أن الضابط الأول في حديثنا في قضية التراث يتمثل في الحاضر ما يستجيب له سلباً أو إيجاباً أو بطريقة ما , ولذلك نحن نأخذ من الغرب ولكن نأخذ وفق هاتين القناتين , بمعنى لا نخذه الآن من موقع الإدانة الأيديولوجية بل نأخذه موضوعياً , لأننا هكذا موجودون ولأننا نحتمل هذا , فهو ليس حكم قيمة وإنما هو حكم وجود ما نأخذه وما لا نأخذ وكذلك الغربيون حين أخذوا الكثير من العرب , أخذوا ما أخذوه ولفظوا ما لفظوه عند حد الاستجابة لمرحلتهم في ذلك الحين . هذه المسألة أعتقد تضبط المفاهيم الكثيرة الموجودة في الفكر العربي؛ الراهن أولاً.
د.نايف : بهذا المعنى النهاية هي أفضل بداية , النهاية هي البداية الصحيحة والأكيدة , بمعنى أننا نبدأ من هنا, آخر موطئ قدم وصلنا إليه . المعنى راهن يخرج من تحت أقدامنا .
د.طيب : هنا الماضي كما قلنا , ونحن وضعنا حدود هذا الماضي الموجود بذاته , لكن هذا الماضي يصلنا عبر تواصل وتفاصل , أنا أسميه الماضي متصلاً والمتصل ماضياً , نأخذ منه ما يستجيب وما لا يستجيب نلفظه , لذلك نحن قبل أن نكون من الماضي , الهوية تستمد من الآن ,وهذه الهوية هي التي تملي نفسها إملاءً , بدون معرفة بدون شعور معرفي . تملي نفسها بحيث نأخذ ما نأخذ ونلفظ ما نلفظ وفق الاحتياجات الداخلية , تأتي اللحظة المعرفية الواعية التي تكشف ما يحدث , هذا من شأن البحث العلمي , هذه اللحظة تكشف أننا نفعل ذلك لكن نفعله ضمناً , البحث العلمي يعمق ذلك , أو يضبطه أو يحرفه لكن الإشكال في الواقع , لا الماضي مهما كان مقدساً . لا الماضي هو الذي يمثل بدايتنا , بدايتنا الحاضر.
د. نايف : هذا الكلام منهجي وصحيح . والآن نتابع مع أسئلة الحضور .
اسبر : أنا أفهم من التراث أنه تراكم تجربة الشعوب إن كانت سلبية أم إيجابية وهذا التراكم عندما يصل إلى النقطة التي تكلم عنها الدكتور طيب تيزيني , واقع الحاضر يطلب أن نفرز بين ما هو ايجابي وما هو سلبي ونعمل على تطوير هذا الايجابي ودحض هذا السلبي , هذا مفهوم التراث وكيف تطور هذا تكلم عنه الدكتور الطيب ,هناك حديث عن التراث والحداثة وأرجو أن أكون قد فهمت خطأ , بأن الدكتور طيب رفض الحداثة وقال بأنها لا تلعب دوراً في التراث , أرجو توضيح : ما العلاقة بين الحداثة والتراث وأيهما يلعب الدور السلبي والإيجابي بينهما ؟ من يطغى على الآخر في لحظة من اللحظات أو في فترة من الفترات ؟ طبعاً هناك تراث خاص وهناك تراث عام من وجهة نظري هناك قبيلة ممكن أن تكون في منطقة معينة لها تراثها الخاص بكل مفاهيمها بكل تقاليدها ,هي تجربة خاصة لمجموعة من الناس الذين يعيشون في منطقة معينة أما التراث العام فهو تراث البلد بمجمله بمعنى ملخص هذه المجموعة وهذه القضية الخ..إلى أن يصل إلى جملة من المفاهيم التراثية عن هذه الشعوب , فهل هناك فرق بين التراث الخاص والعام , سوريا مثلاً, هل هناك تراث للمنطقة الشرقية وآخر للمنطقة الداخلية , هل هذا التراث ينسجم مع بعضه ويتداخل ليوصل لتراث عام يلعب دور ايجابي في تطور الشعوب .
وأرجو أن أكون فهمت خطأ , هناك هجوم على التطور والتقنية من قبل الدكتور ة تغريد الهاشمي اعتبرت أن التطور حجب الناس عن الفهم . فهل يجب العودة إلى المنجل مثلاً بدلاُ من الآلة الحديثة ؟ كما فهمت من كلام الدكتورة بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان وفي أي بلد في العالم ؟
محمود : قالت الدكتورة " الزمان ليس زماننا والثقافة ليست ثقافتنا " وبالتالي انتقلت إلى القول: " هل يشعر أحدكم أنه يسكن في منزل يعبر عن بيئته أو مجتمعه ؟ " هل هذا هو السؤال الأجدى للتعبير عن تراثنا , وأنا لا أعتقد أنه هذا هو السؤال الأجدى لطرح سؤال التراث .
سامر : قبل أن أسأل أريد أن أعلق على ما قاله بعض الشباب والذي استخلصته من كلام الدكتور الطيب , لقد تكلم الدكتور بفكرة هامة هي الاختيار التاريخي التراثي , وأرى أن الإجابة عن أسئلة الشباب ورد الدكتور طيب على كلام الدكتورة تغريد بهذا الإطار هو الفكرة الأهم والفكرة المفتاحية في عملنا على التراث ,أما سؤالي فهو حول " القطع الحضاري " فلقد لاحظت من خلال العرض التاريخي للدكتور طيب تيزيني أن هذا المصطلح مبتسر ومخاتل , هل فعلاً هناك شيء يسمى " قطع حضاري " حقيقة أم أنه وهم ؟ ! .
حسن عكلة : أنا سأنطلق من وجهة نظر دقيقة وردت على لسان الدكتور طيب تيزيني حين قال أن كل إنسان يقرأ التاريخ بالكيفية التي يريدها بمعنى أنه يؤول التراث أو ينطلق منه وفقاً لاحتياجاته ذاتها هذه نقطة مركزية جداً ولكن التراث أو إذا أردنا أن نفهمه بمعزل عنا فأنا أعتقد أننا سنقع في التجزيء أو التفكيك بينما أنا شخصياً أرى بضرورة وحدة العالم أو وحدة الإنسانية أو أن الإنسانية واحدة باختلاف مناشئها العقائدية والاجتماعية وأنماط سلوكها الخ...بمعنى دقيق أنا أشعر بأنني جزء من حركة العالم ولست منفصلاً عنه ولكني أنا نفسي , وأعود وأستشهد بالدكتورة تغريد عندما تحدثت عن منشئها الديني وأن الدين لعب دوراً مهماً في بنيتها النفسية والأخلاقية والروحية والمعرفية , ولكنها لم تكن في يوم من الأيام متدينة , بمعنى أنها هنا هل هي منفصلة أم متصلة بهذا الإشكال, وهذا المثال الذي طرحته الدكتورة يمثلنا جميعاً أنا أيضاً ينطبق علي نفس المثال ولكني لست متديناً , يعني مثلاً القرآن يصلح لكل زمان هذا زعم يحترمه فلان ويعتقد به فلان ويرفضه فلان لكلٌ رأيه . أعود إلى النقطة التي تحدث عنها الدكتور طيب كلُ يقرأ التراث من وجهة نظره المطلبية أو الوظائفية أو الذرائعية والثقافية ولكنني أنهي وهذا رأي شخصي لي, لكي يكون البحث مجدياً علينا أن نخرج جملة وتفصيلاً من هذا الماء الكدر بكل مشكلاته وعناصره لكي نرى صورة أنفسنا الآن في ضوء الشرط العام الكوني أو الدولي أو العالمي لننغمس انغماساً عقلانياً وعلمانياً أو موضوعيا في ما وصفه الدكتور طيب بالراهن و أن لا ننفصل عنه و أن لا نفكر بأن التراث يختلف في جوهره بين الشمال و الوسط و الجنوب و الغرب و الشرق ، أنهي بعبارة قالتها الحديدية تاتشر بعد "تحرير" الفوكلاند إن الشمس لن تغيب عن الإمبراطورية البريطانية ذلك لأنها تمتلك شكسبير .
د.نايف : الكلام موجه إلى الصديق سامر , كل شيء في الوجود فصل ووصل, الدكتور التيزيني تكلم عن تفكيك البنية التراثية أو المادة التراثية وإعادة بنائها , العقل شيء معاصر بالتالي نستطيع أن نقول أن هناك قطيعة بهذا المعنى , قطيعة بمعنى تفكيك هذه الصيغة التراثية أو البنية التراثية سواء كانت سلوكاً أو ثقافة أو شيئاً , إعادة دمجها أو بنائها في التركيب الجديد هذا ممكن أن نسميه فصلاً في هذا الموضع, لكن هناك قضية نوهنا إليها وسألنا الدكتور التيزيني عنها وهي , هل سيطرة البرجوازية الليبرالية بين الحربين في مصر هي التي فتحت الطريق أمام قراءة التراث؟ وكان الرد إيجابياً , بمعنى يجب أن نرى الشرط الطبقي لقراءة التراث وبالتالي من هي الطبقة التي تقرأ التراث عبر مثقفيها ومفكريها , أرى أن هذه القضية، أراها غاية في الأهمية وهذا الذي سماه الدكتور بالمصلحة , فإذا دفعنا المصلحة إلى أعلى مستوياتها تصبح هي الشرط الطبقي؛ بهذا المعنى المصلحة هنا بالمعنى التاريخي , مصلحة طبقة اجتماعية تتقدم نحو السيطرة والهيمنة. هناك طبقة اجتماعية لها مصلحة بقراءة التراث من أجل إقلاع مشروعها أو برنامجها أو انجاز مهماتها , هذه القضية هامة جداً وبالتالي القضية تتضمن الفصل والوصل, العلم يقوم على تفكيك العضوية ثم يعيد بناءها مفهومياً؛ حتى يفهمها (تحليل وتركيب). هذا هو منهج العلم على العموم.
النقطة التي ذكرها الدكتور التيزيني وعرج عليها الأستاذ حسن عرضاً هي المستوى الثقافي , بمعنى أنه لا تكفي المصلحة لقراءة التراث قراءة نقدية ، بل يجب أن يكون هناك وعي بهذه المصلحة . بمقدار ما يكون الوعي مقارباً لهذه المصلحة تكون قراءة التراث أكثر دقة, لهذا لابد من توفر شرطين لتحقيق قراءة كهذه .
د. طيب تيزيني: ملاحظة سريعة , الحديث هنا عن هاتين القناتين الثقافية والأيديولوجية ليس حديثاً بالمعنى الايجابي بالضرورة , كل كائن يحمل مستوى ثقافياً ما وأنا أستخدم الثقافة هنا بمعنى مستمد من " الإناسة " الأنثروبولوجيا أي العلم الذي ينظر لكل شيء ينتجه الإنسان تعبيراً عن ثقافة , فكيف ينظر الإنسان إلى الوجود سواء كان فلاحا أم بدويا أم مثقفا، كل له ثقافة , أضف إلى ذلك مصالحه ليست بالمعنى الضيق بل المصالح التي هو وليدها في عصر معين , ولذلك القراءة التراثية تأتي أحياناً استجابة غير واضحة لمن يقرؤها , ويقوم بهذا العمل ضمنياً ويأتي الباحث ليفكك هذه القراءة ويكتشف ما وراءها بهذا المعنى يمكن أن نتحدث عن قراءة فردية قراءتي قراءتك وقراءة إذا أردنا أن ننطلق من الجزئي إلى الكلي , قراءة أسرية , قراءة عائلية وقراءة حيية من " الحي " ..قراءة طبقية .بمعنى أنك هنا تكتشف الخصوصيات وتنزلق باتجاه القراءة الطائفية، القراءة المليّة القراءة الشعبية القراءة الطبقية , ضمن الطبقات , أنساق , وحدات , لكن نقول نحن بعلم الحضارة العام: رغم هذه التعددية في الأنساق هناك شيء من الجامع الذي يربط بين كل هذه الأنساق ليجعلنا نتحدث عن القراءة التراثية السورية عموماً. ثم ننزل , القراءة السورية الطبقية , أي طبقة ؟ هذه أم تلك ؟ القراءة البرجوازية . هكذا إذا الأمر مفتوح بصورة لا يمكن إغلاقها, من الخاص إلى العام ومن العام إلى الخاص بصورة مفتوحة دائماً هذا ما عنيته.
نبيل : تكلم الدكتور طيب عن قراءة التراث قراءة علمية تاريخية وفق منهج علمي معين للوصول إلى غاية حضارية منشودة , إلى مشروع حضاري , وهذا المشروع له حامل سياسي . ما أريد أن أتحدث عنه كلام الدكتور عن ايجابية تعامل الحزب السياسي مع قضية التراث , وتعدد الأحزاب السياسية وتعدد تعاملها مع قضية التراث وسلبيته في نفس الوقت , كأني استنتجت أن المطلوب تعامل أكاديمي مع قضية التراث , في الجامعة ننتج هذه المعرفة بقضية التراث لتدخل في مشاريع سياسية متعددة وبشكل مستقل ؟ هل هذه القراءة الأكاديمية وهؤلاء الأكاديميون حياديون ولا ينتمون إلى اتجاه سياسي في قراءتهم للتراث, فلكل منهج في قراءة التراث نتائجه ؟
د. طيب : حينما نتحدث عن مستوى العلم فهو المستوى المطلوب أما أن يكون موجودا فهذا أمر آخر, طبعاً بهذا الحال كل القراءات يجب أن تخضع للمنهج العلمي سواء أتت من الطبقة العاملة أو من الفلاحين أو البرجوازية إنما هذه القراءة العلمية عليها أن تكتشف أن ما ينتجه هؤلاء من قراءات تراثية تأتي مطابقة لمستواهم الثقافي وتوجهاتهم الأيديولوجية فالعلم هنا ليس حالة نخبوية إنه حاجة للجميع , هو الذي يبحث فيما يحدث ويقر به ويسعى إلى تجاوزه , ثم أنت تحدثت عن قراءة التراث وعن حامله أنا أتحدث الآن عن حالة عشتها وما أزال أعيشها وهي أني منذ سنوات أصدرت كتاب بعنوان من " التراث إلى الثورة " الآن تغيرت الأحوال والوضع العالمي والمحلي يعيش حالة من التغير العميق خصوصاً مع سقوط المنظومة الاشتراكية ونشوء النظام العالمي الجديد , تساءلت : أما زال هذا النظام يحمل مصداقيته ؟ الآن أنا في معرض إعادة بناء لهذا الكتاب بعنوان جديد " من التراث إلى النهضة " , لأن مشروع الثورة الآن لم يعد راهناً، لم يعد محتملاً , قد يكون مؤجلاً , وبالتالي أنت لا تفر ض على التاريخ مشروعك، بل هو يفرض عليك, الآن اختلف الأمر في الحامل السياسي الذي كان لقضية التراث قائماً في الستينيات والسبعينيات لم يعد هو نفسه , الآن الحامل الاجتماعي لقضية التراث ولأي قضية علمية هو الأمة ! بعد أن كان الحامل الاجتماعي للثورة هو الطبقة أو التحالف الطبقي , اختلفت الأنساق التي تحمل المشكلة التراثية , نحن الآن في طور جديد لابد من تأسيس جديد لهذه العملية, يمكن أن نستبقي على الكثير مما أنجز بالمعنى العلمي يعني مثلا ما سميته بقانون الاختيار التراثي التاريخي, هذا في ظني مازال يحتفظ بقدر معين من المصداقية المعرفية قد نعمق قليلاً كثيراً, لكنه كآلية عمل تراثي من الداخل نحافظ عليها. أما المشكلة التراثية؛ إشكالية التراث الآن بدأت تتغير مع تغير حاملها الاجتماعي وحاملها السياسي وحاملها الثقافي, لم يعد الثوريون هم حملة قضية التراث العربي ,إنما النهضويون، الوطنيون، العقلانيون، الديمقراطيون، الرجعيون؛ أي بمن في ذلك الإسلاميون , نعم الإسلاميون وهذه مسألة خطيرة جديدة , بتعبير آخر من أقصى اليمين الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي, هذه الهوامش كلها يملؤها الحامل الاجتماعي والسياسي والثقافي , أنت أمام مشروع نهضة وتنوير وعقلانية وحداثة, فاختلفت القيم واختلفت الحدود المنطقية والتاريخية والأدوات السياسة .
نبيل : دكتور كما فهمت منك أن الحالة صراعية، مسألة قراءة التراث من خلال هذه المجموعات الكبيرة من اليمين إلى اليسار من الإسلاميين إلى الليبراليين هذه قراءات صراعية ولا تشكل حاملاً واحداً لنهضة معينة , أنا أعتقد هذه القراءات الصراعية تشكل تمزقاً وأن يغلب مفهوم على الآخر ويصفيه وبناءً عليه هل فعلاً زال مفهوم الطبقة وحل مفهوم الأمة مكانه اجتماعياً ؟ [أي هل حل الثقافي- الحضاري مكان الاجتماعي- الطبقي]، هل فعلاً حالياً الطبقة الموضوعية انحلت لصالح الأمة ؟ وهل هذه الأمة المؤلفة من عدة عناصر متفقة ومتناسقة حول مشروع أمة واحد ؟
د. طيب : نعم إنه سؤال في العمق , سأجيب بكلمات, الطبقة لم تنحل ولن تنحل بفعل هذا العمل الخارجي قد يعاد بناؤها تاريخياً , هي موجودة ولكنها مع غيرها من الطبقات في مجتمع ما تكتشف الجوامع التي توحد بينها في مراحل تاريخية لا تستطيع أن تتجاوزها , والآن إطرحْ مشروع الثورة فستجد أن الوضعية لا تحتملها لآن النظام العالمي الجديد لا يحتمل , قد يأتي في مرحلة قادمة أما الآن بدلاً من الصراعات المحتملة التي تتحدث عنها تنشأ مصادر أساسية تربط بين هذه المجموعات الكبيرة . فلا نقول حين ينشأ المشروع النهضوي تنتهي مكونات المشروع الثوري, لاحظ حين يبرز المشروع القومي لا تنتهي مكونات وعناصر المشروع الثوري طبقاته وفئاته وإنما تتغير الوظائف التاريخية لتلك المكونات الخاصة بالمشروع الثوري , بهذا المعنى حالة تدفق جديدة يريدون أن يكتشفوا شيئاً , من هنا تستطيع أن تستخدم مفهوم تاريخي تعمقه وهو مفهوم " العقد الاجتماعي الجديد " هذا الذي لم يدخل الفكر العربي بل دخل أحياناً ورفضه الماركسيون الشيوعيون على أنه مفهوم برجوازي , الآن تبرز أهمية مثل هذا المفهوم" العقد الاجتماعي" الذي يحافظ على الصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية ولكنه يضبطها من حيث لا تتحول إلى صراعات مسلحة , صراعات من أي نمط إذاً " الصراعات السياسية " وهذا ما ترفضه النظم العربية الآن حينما سحبت السياسة . الآن الصراعات السياسية السلمية مع الإقرار بما هو قائم بكل معنى الكلمة .
الأستاذ نجيب روميّة: أود أن أقارب موضوع التراث من زاوية أخرى , التراث أولاً موضوع معرفي والتراث ليس ترفاً إنما هو قضية سياسية بامتياز بقدر ما هو قضية معرفية بامتياز فالتراث ومعرفته ضرورة سياسية وطبقية أيضاً , التراث العربي وأقولها بالصوت العالي لا يمتلك أدوات معرفته حقيقةً, نحن الآن مطالبون بإنتاج أدوات معرفية لنقرأ تراثنا العربي أدوات معرفية جديدة علمية , في الحديث الطويل والمسهب والجميل مرت مفردات أود أن أدقق فيها كثيراً , النهضة , الحضارة , العقلانية لا أستطيع أن أطرح هذه المفاهيم هكذا بتجريدها إنما أربطها بالبنية الاجتماعية في زمان ما , هذا التراث الذي نقول فيه الكثير مرتبط ببنية اجتماعية في زمان معين وبالتالي ليس هناك عقلانية شاملة وليست هناك نهضة هكذا مع احترامي الشديد لاستخدام هذه المفردة ومشروع النهضة الآن , ما أود قوله هو, مادام التراث هو موضوع صراع طبقي وموضوع صراع سياسي كيف نتعاطى مع التراث بالأدوات العلمية الجديدة التي نقترح ؟ أقول: يجب أن نتحرر من التراث كيف ؟ بأن نحرر هذا التراث من فهم البرجوازية له وتعاطيها معه , البرجوازيات العربية سطت على تراثنا , وكتبت لنا تاريخنا بيدها وخصوصاً بعد مرحلة التغلغل الامبريالي في المنطقة العربية , أتوقف قليلاً عند كلام الدكتور طيب الجميل جداً حين قال: يتوقف التراث بالمعنى الذي نريد عند بدء النهضة هذا صحيح يعنى مع فترة تغلغل الامبريالية في المنطقة أواخر الثامن عشر مطلع القرن التاسع عشر, هنا الرأسمالية في طورها الامبريالي أنتجت أنظمة برجوازية هي الأنظمة البرجوازية الكولونيالية وهذا ثابت , المرحلة اللاحقة التي فيها تم إنتاج الأنظمة البرجوازية الكولونيالية المعاصرة هذه أنتجت تراثاً لا أعني أن هذا ليس جزءاً من التراث لكن ينبغي أن يفهم في ضوء المرحلة الجديدة أما تراثنا القديم فينبغي أن نقرأه بعين طبقية جديدة ومن خلال مصالح طبقية وقد أكون متشدداً في هذه النقطة , الحاضر مفتاح الماضي والدكتور تفضل بها ولا يمكن أن يكون الماضي مفتاحاً للحاضر , إذاً التراث لم يقل بما يملك ما ينبغي أن يقال, نحن الذين ينبغي أن ندخل إلى التراث ونفتح باب التراث بمعرفتنا العلمية الجديدة , عقل فوق الطبقات العلم لا يقر ذلك, الابتعاد عن الطبقية بالأمة العلم لا يقر ذلك , مسألة الصراع في المجتمع مادام هناك من يُسرَق ماله ومن َيسرِق المال , مسألة الصراع حالة معزولة عن رغباتنا وعن إرادتنا مادام هناك من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملك فالصراع قائم, وهو ضرورة وحتمية أيضا.ً النظام العالمي الجديد , نحن نتلطف بالكلمات كثيراً , لماذا أتحفظ ؟ نظام عالمي جديد, العولمة ! هذا نظام رأسمالي دخل في طوره الامبريالي لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها, هذا هو النظام العالمي الجديد , هذا موضوع الحديث فيه يطول, لكن قدر الشعوب أيضاً أن تصنع تاريخها مادامت تدرك أن التاريخ ليس تاريخها, الماركسية علم التاريخ هكذا أفهم المسألة , فحين نقرأ التراث ينبغي أن نقرأه بعين ماركسية , وقد يقول البعض هذه حزبية وهذا انتماء وهذا التزام، الخ.. في هذا الزمن حين صارت الماركسية قمة الفكر الإنساني, وكشفت قوانين الصراع الطبقي تماماً , وأفهمتنا كيف ينشأ رأس المال وكيف نشأ الرأسمال العالمي الجديد , صار من الحيف ومن الخطأ الفادح أن نتجاهل هذه المعرفة وأن نقع ضحايا فلسفات مضللة مشوهة انتقائية تزييفية أحياناً , تراثنا أرادوا طمسه وأرادوا تشويهه وأرادوا استلابه أرادوا قتل التراث , حتى طرحوا مفاهيم حداثة مفاهيم أصالة هذه المصطلحات ليست من مبتكرات من له مصلحة حقيقية في تراثنا , إن الذين أرادوا القضاء على تراثنا ابتدعوا مصطلح الحداثة , قراءة جديدة , ثقافة جديدة , معرفة جديدة مبتورة تماماً . تحت اسم الحداثة جاءتنا البرجوازية العالمية؛ الرأسمالية العالمية بثقافتها بمذاهبها بفلسفتها بكل ما تملك من أدوات معرفية أنا أقول هنا ؛ " الأدوات العلمية المعرفية لا تمتلكها البرجوازية " تمتلكها الطبقة العاملة وفقط لأن الطبقة العاملة هي وريثة التاريخ , بكلام آخر، التناول العلمي للتراث في مصلحة البروليتاريا . البرجوازية تريد أن تشوه التاريخ وتحرفه عن مساره، هذا هو تاريخها قديماً وحديثاً دائماً وأبداً تمد يدها لتلعب بأقدار الشعوب بثقافتها بتراثها بتاريخها, إذاً تاريخنا لم نكتبه نحن إنما كتبوه لنا, علينا أن نحرر تاريخنا من أقلامهم وأن نكتبه بأيدينا , ما فوق السياسة ما ليس بالسياسي أرى أن هذه المصطلحات من جهة يرفضها الواقع ومن جهة أثبتت الحياة بطلانها , يعني التحزب بالثقافة بالمعرفة هذا أمر منطقي وطبيعي, يعني لا يمكن أن أكون حيادياً وأنظر إلى التراث هذه النظرة الحيادية , من أي موقع أتحدث عن التراث ؟ هكذا أسأل نفسي , إلى أي مدرسة فكرية أنتمي ؟إذاً أريد من التراث أن يكون رافعة إن كان يصلح أن يكون رافعة , وإلاّ علي أن أقرأه وأن أعيد قراءته وأن أعيد تقييمه لا أن أميته ولا أن أحييه , أن أجعله فقط موضوع معرفة وأسقط عنه صفة القدسية وأجعله تاريخاً فهو تاريخي ويجب أن أقرأه بعين تاريخية أيضاً وأربط تراث ما قبل النهضة بالبنية الاجتماعية السابقة وأربط هذا التراث الجديد ما بعد النهضة المعاصر بالبنية الاجتماعية المعاصرة حينئذ أصل في نظري إلى فهم متوازن لقضية التراث, والتراث لا يغدو بذلك ترفاً ولا يبدو أداة للتسلية . أسأل نفسي الآن : من كتب كتاب " ألف ليلة وليلة " ؟ ولماذا كتب ؟ من أمطرنا بهذا الوابل من علم الفقه والإسلاميات والمسيحيات في وطننا العربي ؟ مصلحة من هناك ؟ بمعنى: القلم الذي يدون ويكتب قلم ينظر بعين طبقية إلى الأشياء هذا الذي نعده نتاجاً فكرياً روحياً معنوياً ثقافياً تاريخياً لنا , هذا النتاج لم يأت من فراغ ومرتبط ببنية وهذا نتاج أيضاً حافظت عليه شرائح مجتمعية وطبقات مجتمعية هذه الطبقة هي التي نسميها الآن الطبقة البرجوازية, البرجوازية حين تكتب التراث وتتعامل معه تفترق جذرياً عن فلاسفة الطبقة العاملة ومفكريها حين يتناولون التراث, كلٌ يرى إلى التراث من موقعه الطبقي هو , إذ لا شيء فوق الطبقات . هذه القضايا أحببت أن نتوقف عندها ملياً حتى لا نضيع في التراث وأن لا يبقى التراث شيئاً مجرداً بل يجب أن نحول هذا التراث إذا استطعنا تحويله إلى أداة فعل حقيقية .
غياب الثورة اليوم وولادة المشروع النهضوي , تعقيباً على كلام الدكتور, حين أقول مشروع نهضوي والنهضويون هذه مفردة من تعني وما تعني , الإسلامي السلفي والأصولي المسيحي نهضويون بهذا المعنى وهم مشمولون بهذا الوطن وبهذه المفردة لا أظن أن الذي يمسك بالتاريخ ليشده إلى الوراء نهضوياً , أعود إلى القول الطبقة العاملة وريثة التاريخ ينتهي عندها التاريخ وبها يبدأ أيضاً , النهضويون بهذا المعنى هم أولئك الذين يصنعون مستقبل الإنسان , بهوية طبقية صريحة واضحة, لا يمكن أن يعيش الذئب والشاة في موقع واحد , مع احترامي للمثقفين ومع احترامي للموسوعيين ومع احترامي لكل ذوي المناهج في البحث والدراسة والتحليل المعاصرة نستطيع أن نضع النقاط على الحروف بمسألة مركزية كهذه المسألة , مسألة التراث لأنه مجال تجاذب موضوع سياسي طبقي خطير بامتياز لاسيما أن معركة التحرر العربي الوطني انكفأت هزمت وبأسف نقولها , وبالتالي يجب أن نسعى باتجاه أن ننسق ضمن هذا التصدع إذا أمكن عبر النضال ضمن هذا النظام الذي سمي نظاماً عالمياً جديداً.
تعريف العلم علم التاريخ أراه كما ذكر ابن خلدون يوماً هو العلم بكيفية الوقائع وأسبابها , لم تأت الطبقة العاملة وهي وريثة التاريخ من فراغ , حين رأت البرجوازية العالمية أن مصالحها بنشوء الطبقة العاملة بدأت تنزاح وبدأت تتأذى أرادت أن تبطل حركة التاريخ , وهذا ما أردت الإشارة إليه, ماركس، لينين أصلاً , قتلا القديم فهماً . وهذا هو أول الجديد هكذا أرى. بالتالي هؤلاء الكبار الذين أحاطوا بالتراث الإنساني العالمي , وأريد أن أتوقف عند كلمة إنساني وطبعاً هذه الكلمة تحتاج لتدقيق لو سمحتم , هؤلاء لولا إحاطتهم بالتراث الإنساني العالمي هذه الإحاطة الجامعة ولولا هذا الفكر النقدي العلمي الثوري بامتياز لما جاءت الماركسية بهذه الأدوات المعرفية الضرورية , لا أسقط ولا أسلب أحد حقه في شرعية أن يقرأ التراث بالعين التي يرى, ما أردت أن أقوله بصراحة يجب أن نمتلك أدوات علمية معرفية ضرورية في مواجهة هذه القضية الحيوية المحورية وأشرت أيضاً إلى أن العناية بالتراث لا تستمد شرعيتها من كونه شيءً ترفياً جميلاً نشتغل به لا , هو فعلاً موضوع سياسي , البرجوازية جعلت من التراث العربي تراثها وقدمته إلى قرائها كتراث لها؛ زيفته هذا ما أشرت إليه وشوهته وطمست نقاطه المضيئة وقدمت فكرنا السابق على أنه فكرها فحين رأت أن هذا الفكر قد يتعارض مع مصالحها حاولت أن تجهز عليه في البداية وحين رأت الحنين عندها إلى هذا الماضي في خدمة مصالحها قالت بالأصالة, لهذه المفردات أصالة- معاصرة خصوصية أحترمها، لكن بشرط أن لا تتعارض مع القانون الكوني العالمي أنا أفهم الخصوصية على الشكل التالي الخصوصية القومية – الخصوصية المجتمعية الحضارية لبلد , لوطن لمجتمع ما , هذا مظهر من مظاهر الكونية الماركسية فكر كوني كما النظام الرأسمالي اليوم نظام كوني على صعيد الكرة الأرضية بتمامها الماركسية كفكر كوني تقارب الأشياء هكذا لا تنفي الخصوصية لكن هذه القوانين الكونية العلمية المادية تتمظهر هنا وهناك بمظاهر جديدة في وطننا العربي .
د.طيب تيزيني : أنت تشير إلى قضايا هي من ألف باء الماركسية ولكن الخصوصية التي نتحاور فيها الآن تكمن في أن حضرتك كدت أن تحول الفكر الماركسي إلى فكر طبقوي أي (كل ما لا يخرج من الطبقة فهو باطل) .
أ. نجيب : فكر طبقي وليس طبقوي .
د.طيب : هناك أكثر من طبقة أولاً هناك المجتمع من داخله , المجتمع السابق على الطبقات أساساً على الطبقات كلها ثم المجتمع الطبقي الذي لم تظهر فيه الطبقة العاملة إلا بعد مئات الألوف من السنين , وبهذا الحال التاريخ أنتج طبقات لا تحصى الطبقة العاملة منها وآخرها نقول إنها الآخر مع أن البعض يشكك الآن في صدقية وجود طبقة عاملة بعد أن عملت الرأسمالية العولمية على إعادة النظر في الموقف , هذا يحتاج بحثاً طويلاً أنا أشكك في مصداقية هذا البعض على كلٍ .
أ.نجيب : هل لنا أن نسأل ما هو تعريف الطبقة ؟
د. طيب : أنا لا أريد أن أدخل الآن في هذه المسائل . أنا أقول : إن أي تكوّن وأي توضّع اجتماعي له شرعية في النظر إلى ماضيه أي توضع بما فيه الطائفة والوحدة الاجتماعية وأي شيء نواجهه في المجتمع . السؤال الآن أي هذه التوضعات أكثر تقدماً في التاريخ ؟ نحن لاحظنا أن الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي هي كذلك و هذا نشترك فيه لكن هذا لا يكفي للإجابة فالطبقة العاملة بممثليها اختلفوا كثيراً حيث أن بليخانوف أخرج من الحزب الشيوعي وهو الذي قدم الماركسية للشعب الروسي – قال لينين : من لا يقرأ بليخانوف لن يكون ماركسياً – فهو قبل لينين في هذا المعنى , لا يصح أن نتجاوز الاختلافات المحتملة طالما أنها تخضع لقناتين تتلقيان الثقافة و المصالح باختلافات جزئية كثيرة أو قليلة و بهذا المعنى كل الرؤى قابلة لأن تكون محتملة على الأقل من موقع كونها تمتلك شرعية أيديولوجيا مصلحية . السؤال الباقي هو المصداقية المعرفية بهذا المعنى كل القراءات بما فيها الرجعية و الأصولية تحديداً قراءات للتراث تمتلك شرعيتها النصية التاريخية لأن الواقع هو الذي يحتملها وهو الذي أنتجها أم هل تمتلك هذه القراءات مصداقية معرفية ؟ أقول لا , لذلك أصل الآن إلى الفكرة الأخيرة التي أريد أن أقول فيها أن التاريخ خصوصاً في المجتمعات المتخلفة لا يحصر بثورة اجتماعية فهناك احتمالات مفتوحة هناك النهضة , التحرر العربي وهناك المقاومة وهناك الانفجار الطائفي, عشناها كلها بهذا المعنى لا يصح أن نخضع تاريخاً ما لحقل واحد خصوصاً أن تاريخنا يخضع لتحولات قد فرضتها علينا الإمبريالية العولمية فالتحول باتجاه مشروع جديد أمر شرعي خصوصاً أن الحوامل الثلاثة لأي حركة اجتماعية الآن ليست موجودة , ما هي هذه الحوامل الثلاثة التي ندرسها بعلم الاجتماع السياسي و المعرفي ؟ أولاً لا بد من حامل اجتماعي , من هي الحوامل التي تحتمل الآن ثورة الفلاحين أم العمال أم البرجوازية فنحن الآن نبحث عن شيء غير موجود و بالتالي لا يصح أن نقف عند هذه المسألة و نقول ليس هناك الآن فعل , لا هناك فعل وعلينا أن نبحث عنه في زوا ريب التاريخ و الراهن , ما هو محتمل الآن بعد أن أصبحنا أمام نظام عالمي جديد أعرفه كي أصل إلى النتيجة : هو نظام عالمي جديد يسعى إلى ابتلاع الطبيعة و البشر و إلى هضمهم و تمثلهم و إخراجهم سلعاً , هنا الجميع تحت القبضة الواحدة و أنت غير قادر أن تطرح مشروعاً بسيطا في بلدك فكيف تطرح مشروعا ثوريا تاريخيا جديدا , العالم ليس معك وبلدك ليس معك فإذاً لا بد أن توسع الرقعة الحية العضوية التي تحدث عنها غرامشي ضمن الخصوصية الإيطالية , تبحث عن هذه ولا تبحث عن المثل التي في الذهن , نبحث عن الممكن عن القائم هذا ما أجده عند الإسلاميين والماركسيين والشيوعيين والناصريين الجميع شرط أن يستظلوا بظل ما أسميته التحول من الأقصى اليمين الوطني والقومي والديمقراطي إلى الأقصى اليسار الوطني والقومي والديمقراطي يعني هنا مفهوم الإيديولوجيا الذي يفضي بنا إلى الرجعية والتقدمية يتراجع جزئياً لصالح مفهوم وطني أكثر اتساعاً, بمعنى هذا المشروع لا يخفي بأن هناك قوى رجعية فعلية ولكنها قد تكون قادرة على الانضواء تحت راية معينة وطنية إذا لاحظت أن مصالحها تقتضي ذلك . تصوروا لو اجترحنا مشروعاً وطنياً صناعياً فنجد أن البرجوازية بالدرجة الأولى هي من يحمي هذا المشروع . البرجوازية الآن إذا ضمن النهايات الأخيرة التي سماها فوكو ياما وهي ليست كذلك علينا أن نكتشف ما يبقينا في التاريخ وأنا أظن أن هذا يتمثل في مشروع نهضوي خصوصاً أن هذا المشروع لنا فيه الكثير في تاريخنا . الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن السابع حتى الرابع عشر مثلت نمطاً هائلاً من النهضة ثم تأتي النهضة الحديثة في القرن الثامن والتاسع عشر ثم النهضة التي حاول عبد الناصر والحركة الوطنية والقومية انجازها , هناك رصيد كبير لكن رصيدنا من الحركات الثورية الطبقية أيضاً موجود إنما انتقص تاريخيا, لم تنجح حركة طبقية إلا لفترة قصيرة , الحركة القرمطية هي من أهم ما نشأ في تاريخنا وسقطت في قصورها المعرفي التاريخي, تعرفون أن هذه الحركة سعت إلى أن تستعبد العبيد الذين لا ينتمون إليها عرقياً .هذه الأمور مع الصعوبات والمعيار الأعلى هل بمقتضى ما نملكه نستطيع أن ننجز حركة ثورية , أنا في وطني وهذا الذي دعاني أن أعيد النظر في عنوان كتابي " من التراث إلى الثورة " إلى " من التراث إل النهضة " لأن المشروع هو مشروع الجميع .
تدفق عولمي إمبريالي كلي لا يريد أن يبقي على هذا أو ذاك , النتيجة هي : حين نقرأ التراث ونرغب في التأسيس لقراءة تراثية راهنة أظن أن القراءة الأفضل والأمثل هي تلك التي تخرج من رحم مفهوم النهضة دون أن تسقط القيم النبيلة الرائعة التي عشناها في تاريخنا بما في ذلك الحركات الثورية لكن ما الناظم الأساسي لهذه الحركات إنه ناظم النهضة – النهوض .
أستاذ نجيب : أي نهضة نعني ؟
د. نايف : هل سؤال الحداثة والأصالة كما طرح في المنطقة العربية، وكما حدث عبر النقد الأدبي أو الفكري هو إجابة برجوازية في فترة انحطاط البرجوازية العربية من حيث الالتفاف على سؤال التراث العربي ونقده ومعرفته معرفة علمية ؟ بصيغة أخرى : هل كانت الحداثة والأصالة هي التفاف على سؤال التراث فعلاً من قبل برجوازيات بدأ مشروعها بالانحطاط ، أو بدأت مشروعاً منحطاً بفعل تزامنه مع تبلور الظاهرة الإمبريالية للبورجوازيات الأوربية؟
د. طيب : أنا سأجيب عن ذلك بمشهد عشته بالكويت منذ سنين طويلة منذ بداية تكون الكويت الحديثة , مشهد لن أنساه , شاهدت سيارة لم أكن أعرف ماركتها تبين لاحقاً أنا من نوع " روزرايز " وبهذه السيارة أسرة امرأة وأطفالها لكن بعد أن أزيلت المقاعد الفارهة جالسين ومعهم مجموعة من الأغنام , هذا المشهد فتح أمامي أسئلة كبيرة وكنت أشتغل على قضية التراث منذ ذلك الحين . هل الأصالة مرتبطة بالضرورة بالماضي, هكذا الرؤية الميكانيكية للأصالة والمعاصرة , الأصالة مقترنة بالماضي والمعاصرة أو الحداثة مقترنة بالحاضر الراهن, اتضح أن الأصالة والمعاصرة مصطلحان قد يلتقيان على الماضي والحاضر وقد يلتقيان بل قد نبدأ برفضهما, واتضح لي أن الأصالة والمعاصرة هما المسألة التي يجاب عنها من موقع الحاضر في أفقه المستقبلي حتى لا نقع في فكرة الأضداد مرة أخرى .
أعيد الفكرة :إن قضية الأصالة والمعاصرة هي قضية واحدة وهي قضية الحاضر المعاش لكن في أفقه المفتوح التقدمي فكل ما يستجيب لهذا الحاضر هو أصيل ومعاصر, ومعاصر أصيل , بالتالي أن نكسر هذه السياقات لنجمعها في نسق واحد هو الحاضر المعاصر أصيلاً حين يكون منفتحاً ومفتوحاً لذلك البعض رأى في هذه الثنائية ثنائية زائفة وهي فعلاً زائفة إذا ظلت ضمن الحدود التي طرحت بها , ماض وحاضر لكن حينما نكسر هذا السياق ونعيد بناء المسألة أي حين نفككه ونعيد ترتيبه ضمن إطار تاريخي جدلي نكتشف أن أصالة هذه المرحلة ومعاصرتها إنما هما حالة واحدة أن تكون قادراً على الاستجابة البنيوية والوظيفية للاحتياجات التي تطرحها المرحلة المعاصرة المعيشة في – وهذه هي المسألة الحاسمة – أفقها المفتوح .
فيما لو عكسنا السؤال . إذا استطعت أنا البدوي أن أجهز هذه السيارة بكل وسائل التقنية الحديثة من كومبيوتر وانترنت، الخ ..هل أتجاوز بدويتي وأصبح معاصراً .
أنت بهذا الحال قلبت الحداثة تكنولوجياً كما كان يقول عبد الله الوريث اليمني في القرن التاسع عشر "الله سخر لي الآخرين الغرب وجعلهم يكتشفون ويخترعون هذا لي " .
د.نايف : كان هناك سؤال عن النهضة أستاذ نجيب .
أ.نجيب : أسأل أي نهضة نعني؟ وبأي شيء ننهض وبأي أفق نسير؟ الشيء الآخر الاستمرارية التاريخية, التاريخ مستمر الفكر البرجوازي رأى أن التاريخ خط مستمر صاعد ولم يتوقف عند قفزة فجائية, الانقطاع وهو حالة , مظهر من مظاهر السيرورة التاريخية , مظهر من مظاهر الاستمرار التاريخي ذاته, ويجب أن يفهم الانقطاع هكذا في نظري , فحين أقول نهضة وأتحاشى التحدث عن ثورة أنا لا أطرح برنامجاً سياسياً ولا أقول ماذا ينبغي أن أعمل اليوم ليصنع مجتمع الغد , أتحدث عن الثقافة والتراث هذا موضوع هام وتتجاذبه أقلام كثيرة وتتفاوت الآراء فيه والنظر إليه بتفاوت المستويات والثقافات والمنابع الفكرية لكن أقول فقط مادام التراث موضوع معرفة دعنا نتأمل ونقرأ هذا التراث بأدوات علمية جديدة لآن التراث لا يملك أدوات معرفته , هذا ما أردت أن أؤكد عليه , لا ألغي أحداً ولا أبطل أحداً لا أسقط الشرعية عن أحد على الإطلاق الكل من حقه أن يقول ما يريد وما يشاء وكيف يفكر , لكن أنا أريد أن أصنع تاريخاً جديداً لا بإرادة فردية لا أسقط ذاتي ولا رغباتي على التاريخ , حركة الواقع أقوى من الجميع , نقرأ الواقع لكن لا أستطيع أن أبطل الواقع؛ أبطل أن هناك صراعاًً مستمراً مع حداثة نشوء الطبقة العاملة في التاريخ هذا ما أريد أن أقول , لكن حين أريد صنع جبهة عريضة في هذا الوطن أو في ذاك أقيم هذا الحالف مع كل القوى , أمد يدي إلى الجميع من أجل مشروع وطني ، من أجل مشروع تحاوري أيضاً أعرف من خلاله ماذا أريد , أريد في النهاية أن أنتقل إلى زمان جديد هذا الزمان ليس زماننا , الزمان الجديد الذي أطمح في الوصول إليه أنا كشخص هو زمن اشتراكي , قد تقول الزمن الاشتراكي في امتحان الآن صحيح . لكن هو الزمان الذي نصبو إليه جميعاً, كيف نستطيع أن نهيّء أنفسنا لكي نصل؟ هذا موضوع آخر , كيف نقيم التحالفات . لكن يجب أن نعمم ثقافة جديدة ومعرفة جديدة . رؤى جديدة مرتبطة بالواقع قراءة جدلية لهذا الواقع. أن نبطل ثقافة الغيب ؛ ثقافة الطلاسم ثقافة التشويه مع احتفاظنا بحق الجميع بأن يفكر كما يشاء لكنه هو موضوع صراع أيضا, بمعنى أمامي إنسان يتحدث الآن بالقدرية وهذه وجهة نظر لا أصادرها ولا أقول له ليس من حقك, لكن علي أن أدحضه بالوقائع وبالأدلة وبالقرائن , ليس من مصلحة الناس أن تعمم وجهات نظر منافية للعلم مع أن الجميع من حقه أن يفكر كما يحلو له , لكن حين أسمع أو أصغي إلى متحدث يطرح كلاماً غير علمي على الإطلاق ولا على الصعيد المعرفي يكتسب أي قدر من الأهمية, هل لي أن أقول له بوركت, هل أتوقف وأصغي إليه وأسمعه حتى النهاية دون أن أطرح بدائلي , من حقي أن أطرح البديل ومن حقي أن أدحضه , ومن حق الآخر أن يدحضني أيضاً , هذه هي حرية الحركة في الحوار , لا أحد كما تفضل الدكتور طيب يمتلك كلّ الحقيقة إطلاقاً وأنا لا أقول ذلك فالحقيقة نسبية وحزبية أيضاً .
د.طيب : هذا السؤال أعتبره مسك الختام في هذه الندوة , أولاً ما النهضة ؟ النهضة مفهوم مجرد كما مفهوم الثورة , لكن هذا التجرد ينقشع حينما يتشخص عبر الحامل السياسي في لحظة تاريخية محددة . الآن.. الآن أصبح السؤال الآن , سوريا عربية , النهضة الآن تعني أن نؤسس لمشروع الإصلاح الوطني والديمقراطي التحديثي على مستوى كل قطر عربي و خصوصياته , لكن ضمن رؤية عربية قائمة على إيجاد كتلة تاريخية تستطيع أن تواجه تدفق العولمي الإمبريالي كما يحدث في أمريكا اللاتينية الآن هذا مثال ليس احتمالا وإنما أصبح واقعاً لدى مجموعة كبيرة من البشرية, أمريكا اللاتينية التي تنتمي إلى قوميات مختلفة , الآن هذا مطروح في العالم العربي مشاريع إصلاحية وطنية ديمقراطية تحديثية تقوم في كل بلد عربي وفق خصوصياته وبالتالي فإن مشروع النهضة وهنا محط الإشكال لا يقتصر على إعادة النظر في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المهيمنة الرأسمالية وإنما في أعادة بنائها وتقويمها وجعلها مجتمعاً قابلاً للنماء وقادراً على أن يكون أكثر عدلاً , لأن هذا هو الحد الأقصى , أما أننا نعمل من أجل مستقبل آخر مستقبل اشتراكي هذا صحيح لكن في سياق هذه الأعمال الراهنة , وكلكم تعلمون ما قاله لينين و ماركس كان يؤكد عليه "البشرية لا تطرح من المهام أكثر مما تستطيع إنجازه " إذاً فما بالكم بمشروع إصلاح . سأسرد لكم حادثة جرت معي, أبن أخي طالب في المدرسة أخذ يشاغب في الصف هو وأصدقاؤه فقال له المدرس هذا المربي إذا ما شاغبتم أيضاً سآخذ كم إلى الفرع . أنا اكتشفت مقتل وطن كله في هذا , أي فرع ثم ذهبت وقابلته وقلت له يا مجرم وأنت المربي الأعظم إلى أي فرع تريد أن تأخذهم , فإذا كانت الحدود ما قبل الدنيا ما تزال تمثل مسائل راهنة فالأقرب أن نبحث عن مشروع نهضة ينهض بهذه الجموع الكثيرة ضمن رؤية أولية لا تصل إلى تغيير الدنيا كلها وإنما تريد أن تعيد النظر في هذه البنى نظرة وتحديثاً ودمقرطةً وكذلك إصلاحاً أن تنشىء مجتمعاً عصرياً حديثاً ضمن ضوابط قانونية حاسمة السلطة سلطة وطنية "بلدية" تنتمي إلى الطبقات كلها .
د. تغريد : وما هو دور أمريكا الآن ؟
د. طيب : نحن لا نستطيع إلا أن "نساير" أمريكا وفرنسا .. هذا واقع . والذي يريد أن ينشىء حالاً جديداًُ الآن عليه أن يكتشف من أين تؤكل الكتف , أما أن تفكري بتأسيس مشروع جديد وتعتقدين بأن هؤلاء نائمون فهذا أمر غير وارد , من أين تؤكل الكتف بحيث أن ما تخسريه هو الأقل خسارة هنا الفعل السياسي الناضج , هنا نحتاج رئيس الدولة نحتاج رجل الدولة الذي يكشف بالسياسة وبالفعل السياسي إذا هذا هو الأخطر وبالتالي : أما ما ذكر حول القدر فهذا موجود في تاريخنا كله . مهمتنا ضمن هذا المشروع أن ننوره , التنوير , وليس أن نسعى تحديداً إلى إقحامه ولا أن مهمتنا الثقافية الكبرى تكمن في تعميم الفكر الماركسي فقط .
سأنهي فكرتي, من هنا القراءة التراثية العودة إلى الإشكالية الأساسية التي نستطيع أن ننجزها الآن هي قراءة تؤسس لمشروع نهضوي تنويري ديمقراطي هذا المقصد وإذا استطعناه فهذا يحتاج إلى حامل اجتماعي وحامل سياسي وحامل ثقافي وأظن هؤلاء الشباب الذين أمامي هم من سيقوم بهذا الفعل .
نبيل : النهضة والمشروع العربي الديمقراطي يمر وكما قلت يجب أن لا نعتقد أن القوى الأخرى نائمة هل يمكن أن يمر هذا المشروع دون مواجهة مع ما ذكرته من قوى كبرى أي مع الإمبريالية - ولو أن مفهوم الإمبريالية صار يثير الحساسية لدى البعض – ومع الأوضاع الإمبريالية في داخل بلداننا نفسها والتي كما أسلفت من أحد المكونات التي ستدخل في تكوين مشروع النهضة أي الطبقة البرجوازية الرثة الغير أصيلة والغير ديمقراطية وليس لديها برنامج تحديث وتصنيع وأعتقد أنها طبقة غير قادرة على بناء صناعة حديثة وتقف عقبة أمامها .
بشرى: هل من المعقول أن لا تهتدي القوى السياسية والاجتماعية لمنهج لرؤية التراث ورؤية المنطقة وتاريخها , أمريكا أصبحت بالقرب منا عبر احتلالها للعراق وما زلنا نقول أن القوى الإسلامية تطرح مشروع إحياء التراث هي والليبرالية العربية , في الأمس ألمح إعلان دمشق بأن لا مانع لديه من الاستفادة من العامل الخارجي ويقصد ضمنا مساعدة الولايات المتحدة وتدخلها العسكري على الطريقة العراقية . هذا الواقع السياسي للقوى المتنطحة لقراءة التراث , قراءة التراث برأيي يفرض بالضرورة علينا تحديد منهج أكثر وضوحاً في الرؤية الفكرية وأكثر استقلالية وأقصد المنهج العلمي الاشتراكي والانطلاق من خلاله لعملنا السياسي ومن ضمنه إعادة إنتاج التراث ونقده .
حازم: الجهة المتاح لها أن توصل رأيها هي مالكة وسائل الإعلام عبر البرامج الوثائقية والحوارات الفكرية وبالتالي تعمم ثقافة السلطة أي الطبقة المسيطرة في المجتمع .
د. طيب : هناك نقطة مركزية علق عليها الشباب وأشكرهم عيها وهي أننا حين نتحدث عن حامل اجتماعي للنهضة لا نعني أن الحوامل الاشتراكية السابقة والراهنة هي غير موجودة بالعكس القوى الاشتراكية الموجودة هي جزء من صميم من هذا الحامل الاجتماعي وهو المدعو إلى حماية هذا المشروع , هم يملكون الفكر الاشتراكي ولكن هذا الفكر الاشتراكي لا يجد مصداقية فقط حين يوجد مجتمع اشتراكي لا حظوا إنها فكرة تأسيسية مهمة أي أن فاعلية الفكر الاشتراكي ليس فقط عندما يكون عندنا مهمات اشتراكية أو عندما نكون في مجتمع اشتراكي , الآن بعد أن تعمم الفكر الاشتراكي وأصبح عالمياً أصبح هذا الفكر مدعواً لحماية المكتسبات التي تنشأ في أي بلد في العالم ليس من موقع الاشتراكي وإنما من موقع هذا الكفاح الذي نناضل من أجله الآن نحن على صعيد دنا نحن الاشتراكيين وسنوظف كل الطاقات من أجل تأسيس هذا الحامل الاجتماعي لمشروع النهضة ولكننا لا نسعى إلى مشروع اشتراكي بقدر ما نسعى إلى مشروع نهضوي من الجميع ونحن في ظني الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمة انجازاً وحماية عودوا إلى الوراء قليلاً إلى مشروع الوحدة بين سوريا ومصر لماذا أخفق ؟ لأن الوحدويين الحقيقيين غيبوا ولأن أحزابهم فككت وأسر المجتمع السياسي ومن عليه أن ينجز هذه المهمة أسقط نحن موجودون ولكن موجودون من أجل لاشتراكية من أجل مجتمع اشتراكي وهذه قضية هامة .
حسن عكلة : يوجد في مكتبتي أكثر من ألفين عنوان كلها من ثقافات العالم أنا أقرأ من دون تسميات اقرأ الرواية الغربية والشرقية بشغف لا حدود له بتثاقف مدهش وأقرأ الأدب الياباني في غاية المحبة وأتعلم منه وأقرؤه نقدياً ولكني لا أقرأه قراءة تابعة أقرأ تولستوي وبوشكين أقرأ الأدب الروسي قبل الثورة وبعهدها وشكلت ثقافتي ولكنني لم أكن أميز مع أو ضد لماذا ؟ لأنني أشعر بأن الثقافة الإنسانية هي ملك للإنسانية والتصنيفات الفئوية أو الطائفية أو القومية أو الإثننية هي امتيازات بيئية محلية وليست بالمفهوم العنصري لا للعنصرية الثقافية والدينية ولا للحزبية نحن ناقشنا طويلاً مفهوم التراث والمعاصرة بجملة مختصرة ينبغي أن لا نعزل أنفسنا لا عن ماضينا - إذا كان الماضي هو الماضي العربي لأني لا أشعر أن ماضينا هو فقط الماضي العربي وإن إرثي العربي هو الإرث الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو ما قبل اليهودي فحسب , أشعر أن إرثي هو إرث الإنسانية إني لا أنسي نفسي لأنني عربي سوري لبعض الآراء في الثقافة الإنسانية .
أ. منصور الأتاسي : أين نحن من التراث، إن المجتمع قد اعتقل منذ الوحدة عندما أبعدت السياسة عنه والآن لا توجد قوى سياسية تطرح مفهومها للتراث ولا توجد مؤسسة علمية تطرح مفهوم التراث لأن لدينا إشكالية كبرى؛ الإشكالية هي الواقع السياسي ذاته , الآن لدينا سلفية عنيفة ؛ وتتسرب مفاهيمها الغريبة بدون حصانة وبدون مقاومة، برأينا هذا المجتمع مخترق في المفهوم والمصطلح . مفهوم النهضة يفهمه السلفيون غير ما يفهمه الشيوعيون وغير ما يفهمه الليبراليون , الثقافة كذلك الأمر، كل يفهمها على طريقته, علينا نحن التقدميين حتى نستطيع أن نؤسس لنهضة في المفهوم الفكري أن نعطي لكل مفهوم ولكل مصطلح معنى محددا. توجد صعوبة في عرض مفاهيمنا للرأي العام في ظل اعتقال النشاط السياسي وفي ظل اعتقال النشاط المدني. العودة للسياسة التي تحدث عنها الرفاق تشكل أساس لنهضة , لأنه بدون فهم حزبي لا يمكن أن تتشكل المفاهيم . الوضع العام الآن هو قاتم وهو الذي يسمح بتكريس ما نحن عليه الآن وبدون تقديم بدائل , من هذا المنطلق اضمحلال الدولة الوطنية وبداية تشكل بنى مختلفة، لذلك تكلم الدكتور عن العقد الاجتماعي وأنا أوافقه الرأي. نحن نشهد اضمحلال الدولة الوطنية لصالح الدولة الدينية والدولة الطائفية والقبلية . وأخيراً أقترح على الدكتور طيب نقاش كتابه "من التراث إلى الثورة" حتى نقف على مفهوم الثورة ومعناه , فهل يمكن اعتبار ما يحدث في أمريكا اللاتينية ثورة ؟ وهل تبدل البنى الاجتماعية إلى بنى أكثر عدلاً هو ثورة حتى في الوضع الحالي. ما يجري في النضال العالمي من مقاومة للمحتل أليس ثورة؟ أنا برأيي، تغير نمط الدولة الأمنية والنضال من أجل دولة أكثر ديمقراطية هو معنى من معاني الثورة . أجدد اقتراحي بنقاش كتاب الدكتور السالف الذكر عبر ندوة مصغرة، ولكم الشكر .
د. طيب : كتابي " من التراث إلى الثورة " هو عنوان جزء من مشروع له عنوان أكبر هو مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من بواكيره حتى المرحلة المعاصرة , أصدرت منه حتى الآن سبعة أجزاء وبقيت خمسة سيصدر منها جزءان قريباً كتاب " من التراث إلى الثورة " هو الكتاب الذي أسست فيه لمنهجية النظر في التراث , لذلك سأعيد النظر فيه , وبالمناسبة هذا الكتاب دعيت لمناقشته في الإسكندرية ليس هو وحده بل ومناقشة ما أنجزته من أعمال في الجمعية الفلسفية المصرية ومن المركز السويدي وكان التركيز على هذا الأمر- وجاء مفكرون وباحثون عرب وأجانب – كيف نستعمل مفهوم النهضة كبديل وبالتالي كيف تبنى عليه نظرية جديدة في فهم التراث العربي و لذلك أنا أشتغل عليه منذ تلك الفترة .
الآن الأسئلة أصبحت واضحة جداً بعد الذي قيل , الحامل الاجتماعي للنهضة ليس البرجوازية أو ليس البرجوازية وحدها وإنما الحامل الاجتماعي الأساسي القوى الحية في المجتمع العربي والقوى الحية هي التي تمرست تاريخياً وفي مقدمتها القوى الماركسية الاشتراكية والتقدمية وكل ما يلف حولها لكن هذا لا يلغي أن الباب يبقى مفتوحاً لكل من ينتمي إليه وأنا قلت من أقصى اليمين تحديداً بالمعنى الوطني الديمقراطي إلى أقصى اليسار بهذا المعنى الحامل الاجتماعي يلف حوله الكثير . أذكر لكم قصة صغيرة , دعيت على محاضرة أمام طالبات فقط ينتمين إلى التيار الأصولي و أين ؟ بمنطقة عجيبة بريف دمشق اسمها دوما وهي مقتل للنساء فهناك الرجعية الدينية قاتلة و وجدت نفسي أمام مئتين و خمسين فتاة وهي محاضرة مرخصة من قبل الحكومة و كن يلبسن البراقع الكاملة ما عدا التي قدمت المحاضرة و في الآخر تبين أن هؤلاء فعلاً هن ضحايا كحال من ينتمي إلى تلك الظاهرة الشهيرة الموجودة في دمشق و المسماة القبيسيات , بالمناسبة هل قرأتم الرسالة الموجهة من البوطي إلى الرئيس و يقول فيها ولقد وثقت هذه الرسالة : " سيادة الرئيس أنا أقدم لك هذه الباقة الرائعة من الفتيات و النساء اللواتي يدعين لك دائماً- و الكلام حرفي – وهن لا يفكرن بالسياسة ولا يعملن أبداً باتجاه عمل آ خر غير الدعوة لله و لكم " و الآن يوجد حوالي 125000 بنت و امرأة ينتمين للقبيسيات .
عندما خرجنا من المحاضرة أوقفتني فتاة و قالت : أنا أشكرك نحن كنا سجناء أهل اللحى و أهل الإيديولوجيات الطنانة .
قلت: من تعنين؟
قالت: إسلاميو اللحى والشيوعيون والماركسيون
نعم معها بعض الحق الآن ربما اكتشفنا حالة جديدة تحتوي الجميع نحتفظ بآرائنا لكن نحاول أن نقترب من الآخرين . فكرة هائلة وأنا على اتصال معهم دائماً شيئاً فشيئاً العشرات منهن يتحررن من الفكر ا لظلامي و بالتالي المعركة التي نتحدث فيها عن الحامل الاجتماعي لا تعني أن نقبل كل شيء و يبقى على حاله فهناك حالة من التحول و هذه مرتهنة بك فأنت تقبل الناس على عواهنها ضمن مبدئك لكن لا بد أن تعيد بناء فكرهم و هذه مسألة حاسمة وهذا هو عملنا
أ.نجيب : هؤلاء الفتيات كانوا معتقلات ماركسياً ؟!
د.طيب : كانوا معتقلات من أهل اللحى و الإيديولوجيات الطنانة .هذا رأيها, طبعاً الماركسية عاشت مشكلة كبيرة حيث لم تكشف خصوصية البلد الذي كانت الماركسية تريد أن تكون نسيجها الثقافي, تصوروا هذا الخطأ الفادح الذي طبع معظم الفكر السياسي السوري و العربي , كم سوقت فكرة أن ماركس قال " الدين أفيون الشعوب " هل يوجد أحد من الماركسيين أو الآخرين إلا و نقلها , تبين أن هذه العبارة هل تعلم لمن للفيلسوف الألماني ( كانت ). أين التدقيق , أين مراكز البحوث والدراسات , لقد دخل الأمر هكذا خلسة و الآن يجب تصويبه – ولقد قيلت العبارة آنذاك للمديح باعتبار أن الدين يعمل عمل الأفيون لتخفيف الآلام .
إذا الاشتراكيون ليسوا جزء من هذا الحامل فحسب و إنما هم المدعوون إلى حمايته ودائماً استذكر مثال الوحدة .
بالنسبة إلى النهضة , ما هي النهضة ؟ قلت النهضة هنا تعني تحديداً ذلك المشروع الذي يؤسس لإعادة بناء المجتمع السياسي الوطني القانوني يدعو إلى إعادة بنائه و اكتشاف أين توقف بعد انهيار الاستقلالي وكيف نقوم به , ثم أضفت أن هذا لا يظهر بصيغة واحدة في سورية وفي مصر ..... الخ وإنما يظهر بصيغ متعددة فهذه تجربة جديدة الآن معرفة جديدة بعد هذه الانهيارات أن تحتفظ البلدان العربية بخصوصياتها ضمن رؤية مظلة واحدة تقترب من بعضها أكثر فأكثر وهو مشروع تاريخي لأن هذا قد يقود – المادية التاريخية لا تقول بالحتميات الميكانيكية - قد يفضي إلى مشروع ثوري اشتراكي .
أ.نجيب : هل هناك دولة ضمن هذه المرحلة التاريخية ؟
د.طيب : أنا قلت تأسيس هذا المجتمع لدولته الوطنية .
أ . نجيب : تأسيس دولة وطنية يعني أن نعد مشروعا نهضويا ديمقراطيا قوميا عربيا . .هذه الدولة ليست ذات طابع طبقي , بمعنى أنا لا أقر بدولة فوق الطبقات , نقطة أخرى هذا المشروع النهضوي الطبقي للدولة الوطنية , مكونات هذه الدولة الوطنية ، يجب أن نعرف جيداً من تمثل هذه الدولة الوطنية , دولة كل الشعب , دولة كل الناس , أن نحافظ على البنية الاجتماعية كما هي بمستوياتها السياسية و الاقتصادية و الأيديولوجية كبنية برجوازية رأسمالية تابعة , هذه البنية أرممها من الداخل و أطرح مشروعي الوطني القومي النهضوي الديمقراطي المعاصر , في ظل هذه الدولة , أم أن هناك شيء ما زال غامضا أنا لا أريد أن أطرح نفسي في الفراغ , جميل طرحكم دكتور طيب لكن أرى أننا مطالبون بالتدقيق بهذه المسألة.
د.طيب : هذا الذي تراه غامضاً هو أنني لا أستطيع أن أملأ هذا الفراغ وهو أن الصراعات الطبقية والثقافية والاجتماعية والسياسية لن تأتي ضمن هذه الدولة , سوف تحدد هذه الدولة وسوف تحدد هذه الصراعات أيضاً الصيغ والأشكال والاحتمالات التي ستأخذها الدولة لكن هذه الدولة أولا دولة القانون, الآن في القرن الإمبريالي العولمي التجاوزات تكاد لا تحصى لكن هناك ضوابط قانونية عامة ضوابط حقوقية ولذلك ماركس كان يميز بين الضابط الحقوقي والضابط السوسيولوجي الاجتماعي الطبقي, العامل والفلاح والعبد كلهم متساوون أمام القانون هذا ما نريد لكن الصراعات الاجتماعية لن تزال بجرة قلم هذه الدولة ستؤسس لمرحلة الصراعات الطبقية التي ستضبط بمفهوم عقد اجتماعي وفق الخصوصية السورية العربية أي الخصوصية التي تقول بأن هذا العقد لا يوقف الصراعات كما كان ( روسو ) يحلم بأن هذا العقد سينهي كل هذه المشاكل , لا بالعكس سوف يضبط الصراعات حتى لا تتحول إلى صراعات مسلحة, هل تعلم من وضع يده على هذه المسألة إنه لينين كان يقول حين نخير بين أن نأخذ صراعاً أو معركة سلمية ونربح بها أو بين أن ندخل غمار صراع مسلح يدمر كل شيء سنختار الأول .
أ. نجيب : هل هناك في التاريخ تجربة من هذا القبيل ؟
د. طيب : هذا الذي سنؤسس له في ظني , لماذا ؟ الآن الظروف اختلفت عن ظروف لينين , لينين كان يملك القرار نحن لا نملك شيئاً .
نبيل : يجب تحديد القوة المهيمنة في التحالف السياسي من أجل انجاز هذه الدولة الوطنية القانونية لأن وجهة هذا التحالف السياسي سوف تختلف بحسب القوة المهيمنة على هذا التحالف , فمثلاً هيمنة اليسار الماركسي الديمقراطي وقيادته للمشروع الوطني يختلف عن قيادة الإسلاميين , فمن سيكون الطرف المهيمن ؟
د. طيب : أحيل لكم الإجابة عن هذا الموضوع لأن مسألة القيادة رهن بكم وبمن سيقود هذا العمل . فحين تنظم نفسك وتجعل من هذا الوجود وجوداً تاريخياً فاعلاً ولكن كل لحظة تأخر تجعلك تخسر.
وبالمناسبة إجابة سريعة على السؤال الأعظم في عصر العولمة الآن وهذا يخصنا نحن العرب أو بلدان العالم الثالث إذا لم تستطع أن تجيب عن أسئلتك المؤجلة سابقاً من عصر النهضة حتى الآن وعن الأسئلة الراهنة اليوم , فإنك لن تجيب عنها غداً , الزمان العولمي يتقلص بحيث يجب أن تجيب عن أسئلتك الآن وليس غداً سيعبر عنك وعن غياب هذه الإمكانية بما سماه البعض " الخروج من التاريخ " أي الخروج من الفاعلية .
د. نايف : نعم دكتور لقد قلت كلمة حاسمة هنا أريد أن أؤكد عليها , بمقدار ما نكون منظمين وفاعلين بمقدار ما نهيمن كقوة ديمقراطية يسارية.
د. طيب : الآن سمعتم هذه الفكرة, إذا لم تشرع بالتأسيس للجواب سيكون الأمر غير ما نشتهي .
د. تغريد : أنا لدي سؤال لماذا فشلت التجارب العربية النهضوية في العصر الحديث؟ أجيب من وجهة نظري دائماً لأنها بدأت من فوق ولم تنبعث من داخل المجتمع . المجتمع لم يكن مهيأ لها ولا يوجد حامل موضوعي ولا يوجد حامل اجتماعي وأرى الآن نفس الوضع حيث لا يوجد حامل اجتماعي لنهضة, النهضة تتم من فوق , فلقد فشلت نهضة محمد علي مع أنها كانت تبشر بالكثير فلنقارنها بالنهضة اليابانية التي بدأت معها وللنظر أين أصبحت اليابان وأين هي مصر الآن , تجربة جمال عبد الناصر بالنهضة التي قام بها وكان متوقعاً أن تسير البلاد العربية وفي مقدمتها مصر في تطور مذهل أين نحن الآن من كل هذا، نحن في تراجع وانحدار لأن أسئلة النهضة التي مضى عليها أكثر من مئة وخمسين عام لم يجب عليها حتى الآن . حتى الآن لازلنا نسأل نفس تلك الأسئلة وليس هناك من جواب .
د. طيب : ملاحظة على ما قالته الدكتورة لم توجد في التاريخ حتى الآًن ( طبعاً إذا استثنينا الاتحاد السوفييتي ) نهضة أو حركة إلا وقد أتت من فوق بعد ذلك تدفقت باتجاه الأدنى . المقارنة بين مشروع محمد علي واليابان غير واردة لأن مشروع محمد علي بدأ في قلب الحدث العالمي وأنا أذكّرك باعتبارك أستاذة تاريخ " بَنرْمَنْ رئس وزراء بريطانيا عام 1903 جمع علماء أوربا بكاملهم وقدم لهم سؤالاً واحداً, كيف نستطيع أن ننقذ الإمبراطورية الآفلة أو التي في طور الأفول أي بريطانيا؟ أعطوني الإجابة بعد سبع سنين ثم جاؤوا بعد سبع سنين – أنظروا إلى الرؤية الإستراتيجية – قالوا ستستطيع أن تفعل شيئاً إذا ما استطعنا أن نحدث شرخاً بين أسيا العربية وإفريقيا العربية , بمعنى أن المشروع العربي أضخم وأخطر من أي مشروع ياباني , فاليابان كانت جزيرة معزولة .
أخيراً : العقد الاجتماعي هنا محتمل إذا فهم بمعنى ليس المؤسس له وهو (روسو ) وإنما بمعنى الخصوصيات التي تنتج نفسها الآن . المسألة الأخيرة : هل نحن نحن الآن , الدكتورة طرحت هذا السؤال و أ. منصور أثنى عليه وأظن أننا بحاجة للتدقيق فيه ؟ والإجابة نعم نحن نحن الآن, هذا واقعنا ؟ الإجابة نعم , بقدر ما نشغل حيزاً ما في الواقع , أم سنصبح نحن الآخر هذا هو المشروع الجديد أن نتجاوز القائم الذي نقر به أولاً ولا نعتبره بالمعنى الجزئي أنه آفة أتتنا من الخارج , الخارج بالمناسبة وفق جدلية الخارج والداخل, الخارج لا يستطيع أن يفعل شيئاً في داخل ما إلا بمقتضى هذا الداخل , ولذلك حينما احتفلوا في مصر منذ سنوات بذكرى دخول نابليون إلى مصر نشأ حزبان وأنا كنت هناك وساهمت حيث وقف حزب أول وقال : إن التحديث في مصر بدأ مع دخول نابليون إلى مصر , وقال الحزب الآخر : لا , إن الذي أتى غازياَ لا يحدث نهضة أو تحديثاً وبالتالي نابليون أخفق , لماذا ؟ لأنه لم يقرأ البنية الداخلية لمصر فأراد أن يتعسف بها إلى درجة إلى أنه حينما دخل إلى مصر أعلن أنه الشيخ نابليون كي يشتغل على البنية الداخلية نحن الآن بعجرنا وبجرنا علينا أن نبدأ بتأسيس هذا المشروع الذي لابد أن نفعله إذا أردنا أن لا نخرج من التاريخ ولن نخرج من التاريخ وهذا هو مسؤولية هؤلاء الشبان الواعدين , وأرى عندهم الهمة والحس بالمسؤولية . ولكم الشكر على دعوتكم.
د. نايف : الشكر الجزيل للدكتور طيب تيزيني والدكتورة تغريد الهاشمي وللحضور الكريم، وإلى لقاء آخر.
































ردود قصيرة على الندوة الحوارية : "الماركسية والدين" المنشورة في العددين الأول والثاني من "جدل"

متابعة
نعمان عثمان
أثارت الندوة التي نشرتها مجلة جدل في عددها الثاني نيسان 2008 قضايا كثيرة و حساسة فتحركت لدي ّ أفكار عديدة ، لكنها غير مرتبة .
و قد قال الكاتب اليمني ناهض حتــر بما معناه : نحن مادّيون في فهمنا للعالم ، لكننا الأكثر روحانية ً و أخلاقية ً في سلوكنا و طرق عيشنا .
في عمليـة البحث عن جـوهر الشـــيء نصطـدم بكثيـر من العـوائق و الصعوبات ، منها ما هو خاص ّ بالمنقـّب ، و منها ما هو خاص ّ بالظروف الموضوعية ( الزمان و المكان و خصوصية المجتمع المعني ) .
و قد لاحظنا كيف أن الكثير من الأفكار و الطقوس ( الحركات ) بل و السلوك تتحوّل إلى ثوابت ثم تتحول إلى قيود يكون الابتعاد عنها أو الغلط فيها إمـّا مكروها ً أو محرّما ً أو سببا ً للتكفير ، و كلما كثرت هذه الثوابت كلما زاد البعد عن جوهر الفكرة . و هذه الثوابت في الفكرة و السلوك تؤدّي إلى تخلف و جمود في جميع الرسـالات الســماويـّـة و غير الســماويـّـة ، و لم تنـج ُ الدعـوات القوميـّـة و الماركسيـّـة من هذا . مثلا ً ( أنـّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) يعاكسها في الواقع المنافقون في الدين ، و الانتهازيون في التيارات القومية و الماركسية رغم أن سلوك كليهما يبدو كسلوك الرجال الصالحين ( هنا يجري الحكم على الظاهر ) .
مثال آخر: جمع الزكاة عن أرباح الأثرياء و أصحاب الأعمال في باب التكافل الاجتماعي ، هي عملية تشبه عملية إرجاع فضل القيمة إلى مستحقيها ، منتجو الخيرات في المجتمع . مع ذلك ، المبادئ الاشتراكية مرفوضة لدى الكثير من رجال الدين . فهل يعارض الدين ( في الجوهر ) تحقيق عدالة اجتماعـيـّـة بقانون مدني بدلا ً من تحقيقها في جامع أو كنيسة ؟
الدين أيضا ً له وظيفة و له دور في تغيير المجتمع ، ألم يغير الدين المسيحي في أخلاق متـّبعيه ؟ ألم يغير الدين الإسلامي كثيرا ً من العادات و الأفكار التي كانت سائدة قبله ؟
كلا الرسالتين المــيحيـّـة و الإسـلاميـّـة قادرتان على التطـّـور و التأثير لو تابعتا الاعتناء بالجوهر دون تحويل الطقوس و الشكليات إلى قضايا أساسية تســـتهلك المؤمن و تمنـعه من الاجتهـــاد ، بل و تعـيـقه عـن تحقيق التوازن بينه و بين الخالق ، و تمنعه من المصالحة مع نفسه و من التسامح مع المختلف .
كان أوائل المؤمنين هم من المستـَضعفين ، هذا يعني وجود رغبة حقيقية باتجاه تحقيق عدالة ( سماوية أو أرضية ) و لا أجد تفسيرا ً لتحويل هذه النية ، الرغبة ( و هي جوهر ) إلى صراع بين مؤمن و مؤمن ( و بينهما – لا شك – تقاطعات بهذه الدرجة أو تلك ) مع أن المنطق في أن يكونا في الصف نفسه في مواجهة من يقومون بالفعل بتقويض السلام الاجتماعي و مبادئ التكافل الاجتماعي و العدالة ، أي الذين يصرّون على تأبيد استغلال الإنسان لأخيه الإنسان . فإذا ( دخلت امرأة النار في قطة حبستها فلا هي أطعمتها و لا تركتها تأكل من خشاش الأرض ) فكيف يصل بنا الأمر إلى تكفير بعضنا البعض ، و بالتالي استباحة دماء بعضنا البعض لمجرد اختلافنا في تفســير بعض الأمور ( و هي ليست جوهرية ) .
الماركسية ليست ضد الدين ، و يجب أن يعرف المؤمنون ذلك ، إنـّما هي ضد توظيف الدين من قبل حيتـان المال المستثمرين ( بكسر الميم ) لتضليل عامة الشعب ( الطبقات الفقيرة ) بحيث يصبح الفقير عدوا ً لنفسه .
و قد قامت الاحتكارات ، و لعشـــرات الســـنين بدعم العـديـــد من المنظمــات و الأحزاب الدينية ، بما فيها الباباوية ، لخدمة صراعها مع المنظومة الاشتراكية بدعوى أنها أنظمة إلحاد .
حلب 10 أيار 2008











ردٌّ قصير على شكل تعقيب
فواز عبّود
جاء في كلام الأستاذ نجيب رومية وفي معرض حواره مع الدكتور نايف سلوم " الماركسية والدين " : " أن الدين هو ظاهرة اجتماعية تخضع لناموس التطور , واعتبر أنه نتيجة للحالة الاجتماعية التي كانت تفرض على العرب التنقل الدائم وعدم الاستقرار فإنهم لجأوا إلى التوحيد ونبذ الأصنام بينما اعتبر أن اليونان والرومان والمصريين كونهم كانوا أصحاب حضارة وفن بناء فقد كانوا وثنيين " . إني أرى في أن كلام الأستاذ تناقضاً واضحاً لأكثر من سبب : فطالما أنه اعتبر أن الدين هو ظاهرة اجتماعية خاضعة لناموس التطور , فهذا يعني أن تطورها مرهون بتطور النظام الاجتماعي الذي يشكل الحامل الموضوعي لهذه الفكرة , والذي يعكس في الوقت ذاته حالة تطور فكري . لأن شكل الحياة الاجتماعية هو الذي يشرط طبيعة التفكير عند الناس وليس العكس . وطالما أن التوحيد على المستوى الأيديولوجي هو أرقى من العبادة الوثنية المتمثلة بعبادة الأصنام والكواكب وغبرها , وهذا ما أكده القرآن على لسان إبراهيم في سورة الأصنام : " فلما جن عليه الليل رأى كوكب قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين *فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين " الآيات 76 – 77 – 78 - 79 . ألا تعكس هذه الآيات حالة تطور معرفي على المستوى الأيديولوجي تبعاً لحالة التطور الاجتماعي التي كان يمثلها إبراهيم حتى انتهى به الأمر إلى التوحيد, لأن الحنيف في اللغة هو الموحّد. وهذا ينفي نفياً قاطعاً أن يكون نظاماً اجتماعيا قبلياً ناكصاً يكاد ينحط إلى مستوى نظام الرق والعبودية أن يكون حاملاً لفكر أيديولوجي متطور كالفكر التوحيدي مثلاً . وطالما أن الأمر بهذه البساطة بالنسبة للأستاذ نجيب فهل يستطيع أن يفسر لنا إصرار محمد على المسألة التوحيدية والتي كان قد نبه إلى أهميتها جده عبد المطلب وأحد أكبر رموز مدرسة الأحناف زيد بن عمرو ابن نفيل عندما كانا يدعوان إلى العودة إلى أب واحد يجمع العرب هو إسماعيل ابن إبراهيم وإلى رب واحد هو رب إبراهيم وذلك نبذاً للفرقة القبلية وتهيئة للوحدة .
وهذا ما فعله محمد بعبقرية كبيرة عندما اعتبر أن إبراهيم هو المؤسس الفعلي للإسلام وكل الخطوات اللاحقة لا تتعدى كونها خطوات تمهيدية تطورية لظهور محمد كوريث شرعي ووحيد على المستوى الفكري ومن ثم الجغرافي لإبراهيم وهذا ما أكده القرآن بقوله في سورة آل عمران : " ما كان ابراهم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً وما كان من المشركين " الآية 67
ثم هل يستطيع الأستاذ نجيب أن يفسر لنا معارضة قريش لهذه الفكرة مصرة على التمسك بأيديولوجيتها القديمة " الوثنية "واتي كانت تجعل من الكعبة مكة تمثيلاً رمزياً لعبادة القبائل العربية الأخرى ومركز استقطاب لها وما كان يعكس ذلك من مصالح اقتصادية لقريش ومركز اهتمام كبير أثار حسد خصومها مما دفع بأبرهة الحبشي للقيام بحملته المشهورة تاريخيا ومحاولة تهديم الكعبة لتحويل الأنظار إلى الكنيسة التي بناها الأحباش في بلادهم .
كل هذا يشير بما لا قبل الشك إلى أن العبادة الوثنية كانت قائمة قبل الإسلام لا بل ومرتبطة بالنظام القبلي الذي كان سائدا ً وهذا ما عقّد مهمة محمد في طرح مشروعه كفكر بديل أساسه ومنهجه التوحيد ومما شجع محمدا ً على القيام بهذا العمل هو تلمسه لشيء من النضج الديني الفلسفي الذي استعد له ومهد له الأحناف , وهذا النضج كان يتمثل في التفكير بقيام دولة ذات نظام سياسي يجمعهم – " ولم يكن الإسلام " لأنه سيشكل إجماعا ثقافياً فكرياً من جهة ونظاماً سياسياً اجتماعيا من جهة ثانية يكفل قيام دولة ذات نظام سياسي واحد يكفل لهذه الأمة شيئاً من القوة والنهوض , وهذا ما أشار إليه محمد في معرض رده على من جاءه مفاوضاً عن قريش لثنيه عن مهمته بقوله : " إنما أدعوهم أن تكلموا بكلمة تدين بها لهم العرب ويملكون بها العجم " وعندما سئل ما هي هذه الكلمة أجاب : هي " شهادة أن لا إله إلا الله " وكان هدفه من ذلك الدعوة إلى الإيمان بالله وحده عبر الإيمان به كرسول لإله واحد ليؤكد بذلك ضرورة انضوائهم جميعاً تحت إمرته وحده كقائد سياسي ديني للجميع . وما كانت عودته إلى الوراء وأسلمة إبراهيم إلا ليتخطى الخلافات العقائدية التي وقعت بين شيع بني إسرائيل وأحزابهم المتعددة التي فرقت بين الرسل وبين الناس والتي أغرقت القبائل المكية في بحر من الصراعات . جاء في سورة الأنعام : " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم بشيء " الآية 159
وأخيراً نقول : إن التطور الفكري الأيديولوجي الذي أحدثه محمد رافقه تطور اجتماعي بكل ما تحدث الأستاذ نجيب من أن حالة التطور الاجتماعي تنتج حالة تخلف على المستوى الروحي .
يتوجب النظر إلى التاريخ على أنه في الوقت الذي تنحط فيها جماعة أو طبقة تكون هناك طبقة جديدة تطل برأسها . هو ما تعبر عنه الأفكار الجديدة .





المقالات

















1- نايف سلّوم: "إلينا بالغربال"!؛ تعقيب مقتضب على مقالة محمد سيد رصاص: "ماذا بقي من الماركسية؟"
2- محمد سيد رصاص: " الديمقراطية والعلمانية في التجربتين الأوربية والإسلامية"
3- معتز حيسو: " العلمانية"
4- منصور الأتاسي : " ما بعد الانهيار، العدوان الأميركي، والمقاومة ، والمهام"
5- عمران كيالي: "في أزمة الفكر الاشتراكي"
6- توفيق عمران: "الليبرالية الجديدة وتعقيدات المسألة الديمقراطية"
7- نايف سلّوم: "فزيولوجيا النمل في القرآن"








إلينا بالغربال !
تعقيب مقتضب على مقالة محمد سيد رصاص: "ماذا بقي من الماركسية؟"!
نايف سلّوم
يوحي عنوان مقالة رصاص بفهم محدد للماركسية ، فهي حسب وجهة النظر هذه: تراث ماركس النظري وما تم الاجتهاد عليه من قبل غرامشي ولوكاش. ما يعني أن الماركسية هي جهد هؤلاء المفكرين العظام وحسب ، وبالتالي فأي انحراف عن هذا التراث حتى لو كان تحت ضغط الأحداث والوقائع الجديدة، هو انحراف وضلال ، إن من يقرأ المقالة بتأني وتدقيق يجد أن الهدف من غربلة "الماركسية" هو إبعاد لينين وكل التراث البلشفي عن التراث الماركسي و"تكفير" انجلز بتهمة الهرطقة الوضعية ، بالتالي إبعاد ديالكتيك ماركس عن ماديته وإدانة إنجلز لاهتمامه بحقول معرفية لم يتثن لماركس الانشغال بها ، وإدانة نبرته التعليمية في بعض أعماله كأنتي دوهرنغ، مع أن ماركس شارك في هذا الكتاب عبر كتابة الفصول الخاصة بالاقتصاد السياسي ، و كان يطمح وهو يكتب رأس المال لوضع كراس تعليمي عن الفلسفة يلخص فيه ما هو عقلاني في منطق هيغل، يكتب ماركس : "وعلى أي حال ، فإن الأمور تتطور بصورة مرضية. لقد رميت إلى البحر بكل مذهب الربح كما كان موجوداً حتى الآن . وفي منهج المعالجة ، فإن نظرية جديدة ألفيتها بمحض الصدفة ، في منطق هيغل أدت لي خدمة جليلة. لقد عثر فرايلغراث على بعض المجلدات لهيغل كانت في الأصل تخص باكونين وأرسلها إليّ كهدية . وإذا ما سنحت لي ذات يوم الفرصة من أجل مثل هذا العمل مرة ثانية، فلشد ما سوف أود أن أضع في متناول الذكاء الإنساني العادي ، في ملزمتين أو ثلاث ملازم مطبوعة، ما هو عقلاني في المنهج الذي اكتشفه هيغل لكن لفه بالصوفية في الوقت ذاته.."
يقول محمد سيد رصاص: "استخدم كانط نظرية المعرفة للوصول إلى مفهوم للوجود، وكذلك هيغل النظرية التاريخية ، وأيضاً أوغست كونت عبر استخدامه للعلم كأساس لفلسفته، فإن ماركس قد استخدم الاقتصاد السياسي كأساس معرفي لرؤيته الفلسفية الشاملة للكون والمجتمع والإنسان، .."
هذه المقاربة الأنطولوجية لفلسفات متنوعة تبدو غير مجدية ومضللة لأنها تقوم على تشابهات سطحية لا تعطي إمكانية رصد دور كل منها عبر تطور أوربا، كما أنها مصابة كونها أنطولوجيا بعيب الوضعية التي لا تستطيع تفسير الانقطاعات في التاريخ الأوربي، إضافة إلى عجزها عن تفسير معنى فلسفات انحطاط وفلسفات صعود تاريخي. (فلسفة رجعية و فلسفة ثورية)
على سبيل المثال فقد لعبت "لا- أدرية" كانط في نظرية المعرفة دوراً تقدمياً على مستوى التطور التاريخي الأوربي. فقد استخدم كانط مفهوم "الشيء في ذاته" الذي لا يمكن معرفته ، بحيث تم الفصل هكذا بين الجوهر والمظهر؛ لقد قال باستحالة معرفتنا لجوهر الموجودات وأن معرفتنا تقتصر على المظهر من هذه الموجودات . إن سر تقدمية رأي كانط في سياق الصراع الاجتماعي الأوربي هو السعي من قبل مفكري البورجوازية التجارية الصاعدة (القرن الثامن عشر) لكف يد الدين كمعبّر وحيد واحتكاري للحقيقة ، أي التمهيد النقدي والسلبي لكسر احتكار الحقيقة من قبل الكنيسة ورجال الدين كمفكرين اكليريكيين (ظلامين) عضويين للإقطاع. لقد كان عمله الفلسفي سلبياً ، ولكنه كان جباراً على مستوى قدرته على التشكيك بقدرة مثقفي طبقة بائدة على معرفة حقيقة الكون الاجتماعي والتاريخي. كان ضمنياً هجوماً خجولاً على الأيديولوجيا الدينية المستبدة وعلى هيمنة الإقطاع.
أما هيغل فقد تقدم خطوتين إلى الأمام: واحدة عبر انتقاده لـ لا أدرية كانط وسلبيته ، والثانية إشارته العبقرية إلى قدرة الطبقة الجديدة ومثقفيها على معرفة حقيقة الكون الاجتماعي الجديد ، لقد أشار هيغل إلى الأدوات الجبارة الجديدة التي جاءت بها الطبقة الجديدة ؛ أدواتها في الكشف العلمي والاجتماعي التاريخي عن حقيقة كونها. إحدى هذه الأدوات التي هي الديالكتيك كانت من عمل هيغل ذاته، أما الأخرى وهي العلم التجريبي الحديث فكان غاليليو أبرز رموزها. كل ذلك كان مع شروق جديد للشمس؛ شمس الثورة البورجوازية الفرنسية.
"كونت" كان تعبيراً عن بداية انحطاط الدور التاريخي لفكر البورجوازية، حيث نكست البورجوازية عن مهمة كشف حقيقة الكون الاجتماعي إلى المهمة الأصغر وهي كشف حقيقة الكون الطبيعي عبر الوضعوية في الفلسفة . سوف يتم نقل مهمة الكشف العلمي من الحقل الاجتماعي التاريخي إلى الحقل الطبيعي في حركة تاريخية ناكسة تشير إلى بداية انحطاط الطبقة البورجوازية وبداية تدهور دورها التقدمي التاريخي.
لقد أعاد ماركس الاعتبار من جديد لدراسة التشكيلة الاجتماعية عبر دراسة تنظيمها الاقتصادي ، وأعاد الاعتبار لاكتشاف هيغل العظيم؛ اكتشاف الديالكتيك، لكن بعد أن أعاد توجيهه من جديد وبعد أن جعل مقولة التناقض في موقع الهيمنة في الديالكتيك الجديد (المادي)، بالتقابل مع الديالكتيك المثالي عند هيغل . كان ماركس يعبر بهذا عن الدور التاريخي الصاعد لطبقة متقدمة جديدة هي البروليتاريا الأوربية بعد ثورة 1848 في فرنسا. لقد كان "البيان الشيوعي" 1847 نشيد البداية لمرحلة لاحقة من الكشف العلمي التاريخي الاجتماعي عبر كتاب الرأسمال. يكتب ماركس : "إن الهدف النهائي لمؤلفي (رأس المال) هو الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع المعاصر(البورجوازي)" كان على ماركس أن يدمج كل انجازات العالم القديم والحديث في عمل عبقري واحد هو الرأسمال. وكان عليه أن يعمل قطعاً مع الميتافيزيقا القديمة عبر تضمين الديالكتيك في الرأسمال، أي القطيعة مع التجريدات الميّتة الفارغة والانتقال إلى دراسة التشكيلة الفعلية ؛ الرأسمالية في كونها الخاص في القرن التاسع عشر وعبر النموذج البريطاني. يكتب لينين: " إذا كان ماركس لم يخلف وراءه "منطقاً" (بالحرفL الكبير Logic ) فقد ترك لنا منطق الرأسمال ، ويجب أن نستفيد من ذلك على أكمل وجه ممكن . فيما يخص هذه المسألة (المنطق في رأس المال) يطبق ماركس على علم واحد ؛ وهو الاقتصاد السياسي كل من (المنطق، الديالكتيك، ونظرية المعرفة المادية. لا حاجة لثلاث كلمات ، إنها أمر واحد)، آخذاً كل ما له قيمة عند هيغل ومطوِّراً إيّاه."
ليس س. ج. أرثر ولا لوكاش ولا اكتشاف "مخطوطات ماركس الاقتصادية- الفلسفية 1844 " جميعها هي التي أشارت إلى استخدام ماركس للديالكتيك في رأس المال ، بل ماركس نفسه أشار إلى فضل هيغل على رأس المال، لكن بعد قلبه وإعادة توجيه جميع مقولات الديالكتيك الذي غدا مادياً. وسوف اقتبس من ماركس عدة فقرات لأبين أنه هو من أشار صراحة إلى ذلك في عدة مناسبات، يقول ماركس: "إن المعلقين الألمان يزعقون، بطبيعة الحال، بصدد السفسطائية الهيغلية . أما مجلة "فيستنيك يفروبي" الصادرة في بطرسبورغ فتجد ، في مقالة مكرسة على وجه الحصر لطريقة "رأس المال" (عدد أيار / مايو عام 1872 ) أن طريقة بحثي واقعية بصورة صارمة ، أما طريقة العرض فهي ، لسوء الحظ، ديالكتيكية على نحو ألماني." .. إن المؤلف ، بوصفه على هذا النحو الموفق لما يسميه بطريقتي الفعلية وبنظرته بعين الرضا إلى أساليبي الشخصية لتطبيق هذه الطريقة ، لم يصف بذلك شيئاً آخر سوى الطريقة الديالكتيكة... صحيح ، أن أسلوب العرض لا يمكنه من ناحية الشكل إلا أن يتميز عن أسلوب البحث . فعلى البحث أن يحيط بالمادة في تفاصيلها وأن يحلل شتى أشكال تطورها وأن يتتبع الصلة الداخلية لهذه الأشكال . وفقط بعد أن يتم انجاز هذا العمل يمكن تصوير الحركة الفعلية كما ينبغي . وإذا أفلحنا في ذلك وحصلت حياة المادة على انعكاسها الأمثل فقد يبدو أننا أمام بنيان مجرد صرف. إن طريقتي الديالكتيكية من حيث أساسها لا تختلف عن طريقة هيغل وحسب، بل وتناقضها بصورة مباشرة . وبالنسبة إلى هيغل فإن عملية التفكير ، التي يحولها حتى تحت اسم الفكرة إلى ذات مستقلة ، هي خالق مبدع الواقع الذي لا يشكل سوى مجرد مظهر لتجليها الخارجي . أما عندي فعلى العكس ، فالمثالي ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحول فيه. .. إن الديالكتيك بشكله العقلاني لا يثير لدى البورجوازية وأيديولوجييها المتحذلقين الجامدين سوى الحقد والذعر، إذ أنه يتضمن إلى جانب الفهم الإيجابي لما هو موجود فهم نفيه أيضاً وهلاكه المحتوم ، وينظر إلى كل شكل مجسد من خلال الحركة، وبالتالي من خلال جانبه العابر أيضا ، والديالكتيك لا يعبد أي شيء وهو انتقادي وثوري من حيث جوهره ذاته. "
نتابع السيد رصاص حين يقول: "هذا النص (يقصد كتاب رأس المال ) تكثيفاً ملخصاً لآلاف الصفحات التي استغرقتها الكتب الثلاثة من "رأس المال" ، من حيث كونها قد عرضت آليات الانتقال من (الضرورة ) ، والقوانين الناظمة لها نحو (الحرية)"
لا يمكن اختزال جهد رأس المال النظري بهذه الصيغ العامة التي تميل للحنين إلى المقاربات الأنطولوجية (الوجودية العامة) ، كما تميل إلى رد هذا الجهد المركز أصلاً على بنية تاريخية بعينها و محاولة استنباط تنظيمها الاقتصادي وقوانينه إلى مجرد عرض للانتقال من الضرورة إلى الحرية . لقد قال هيغل مرة أن الحرية هي وعي الضرورة ، ونقلها عنه الكثير من الماركسيين من دون وعي كاف بالعبارة. إن أولى أهداف رأس المال هي وعي الشرط البورجوازي من حيث كونه شكلاً تاريخياً للتنظيم الاقتصادي واكتشاف وصياغة قانون هذا التنظيم ، واكتشاف حدوده التاريخية، ولادته وموته بالاعتماد على الديالكتيك المادي المُضمَّن في رأس المال. في هذه المرحلة من العمل يبقى ماركس بالمعنى الأخلاقي في الحقل الهيغلي، أي يبقى "عند محاولة الفهم" يكتب هيغل في تصدير كتابه "أصول فلسفة الحق": "هذا الكتاب ، إذن، وهو يحتوي على علم للدولة ، لا يريد أن يكون أكثر من محاولة لفهم الدولة ورسم صورة لها بوصفها شيئاً عقلياً في ذاتها. ولا بد له - بوصفه عملاً فلسفياً - أن يكون بعيداً عن محاولة بناء دولة ما على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة ... إنه لا يبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالماً أخلاقياً. هنا رودس هنا نقفز"
إن تقدم التاريخ الأوربي وظهور البروليتاريا كطبقة جديدة على المسرح السياسي جعل مهمة ماركس بحاجة إلى تكملة ، وهي أنه لا يكفي تفسير العالم ، بل لا بد من تغييره. لقد طرح التاريخ على ديالكتيك ماركس مهمة أخلاقية جديدة وهي، إضافة إلى فهم الشرط البورجوازي في تنظيمه الاقتصادي ، مهمة تغيير هذا الشرط وتجاوزه . بكلام آخر: ليس فقط الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع البورجوازي المعاصر ، بل العمل على تغييره وتجاوزه عبر بناء الحزب الثوري للطبقة الجديدة (البروليتاريا) وبناء إستراتيجيتها الثورية في التحالفات الطبقية وعبر تكتيكاتها السلمية والحربية. لم تعد النظرية الماركسية معنية بالفهم وغبطته فحسب، بل بات مطلوب منها أن تشير إلى الطريق الذي يؤدي إلى تجاوز الشرط البورجوازي. لقد غدت قضية التنظيم هي التكملة الضرورية للكمال العلمي الذي أنجزه رأس المال. وبات مفهوم العلم ذو وجهين نظري وعملي يربطهما برنامج الطبقة الجديدة السائرة نحو هيمنتها التاريخية. يكتب ماركس: "لم يفعل الفلاسفة حتى اليوم سوى تفسير العالم بطرق مختلفة ، لكن الأمر الهام هو تحويله"
وماركس لا يرسم ملامح الحقبة القادمة ولا الأشكال العينية للمجتمع الجديد، بل هو يعرّفه سلبياً ويعتبره نتاج التجاوز الفعلي للمجتمع القائم البورجوازي. يكتب في الأيديولوجية الألمانية: "إن المقصود بالنسبة إلى المادي العملي، يعني بالنسبة إلى الشيوعي ، هو تثوير العالم القائم، مهاجمة الأوضاع القائمة ، كما يصادفها وتحويلها عملياً" .. ويضيف: "تختلف الشيوعية عن جميع الحركات التي سبقتها حتى الآن في أنها تقلب أساس جميع علاقات الإنتاج والتعامل السابقة ، وتعالج بكل وعي ، للمرة الأولى، جميع الشروط السابقة الطبيعية على أنها صنائع البشر الذين سبقونا حتى الوقت الراهن، وتجردها من طابعها الطبيعي وتخضعها لسلطان الأفراد المتحدين، ولذا فقد كان تنظيمها اقتصادياً بصورة جوهرية، ألا وهو الإنتاج المادي لشروط هذه الوحدة.. إن الأوضاع التي تخلقها الشيوعية هي على وجه الدقة الأساس الحقيقي الذي يجعل من المحال وجود أي شيء كان بصورة مستقلة عن الأفراد" . إن الشيوعية بقضائها على علاقات الملكية الرأسمالية الخاصة تمهد الأرض للقضاء على كل بنيان طبقي وعلى كل استغلال ، وتمهد الأرض لتنقل علاقات إنتاج البشر من علاقة "تحوم" فوقهم وتستعبدهم إلى علاقة بينهم تغني فرديتهم وتجعلها تزدهر وتتطور بشكل لا نهائي.
إن العيب في مقالة سيد رصاص هو أنه يقتبس عن قراء لماركس وانجلز ولينين ولا يقتبس من المصادر الكلاسيكية مباشرة ، وهو ما جعل "العامل الاقتصادي" يلتبس عليه ، كما أن هذا الالتباس جعله يغفل الدور الحاسم لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في تحديد الهوية التاريخية لهذه التشكيلة ، وأن هدف الشيوعيين النهائي هو تحطيم هذا الشكل من علاقات الملكية والتعامل التي تجعل الأفراد في غربة عن قوة عملهم ومنتجات هذه القوة.
كذلك يلتبس الأمر على سيد رصاص في ضبطه لعبارات من نوع "التحديد" و"الشرط". حيث يجعل الشرط لأسلوب الإنتاج، والتحديد لفاعلية الإنسان الذهنية التي تختار أيديولوجيتها طبقاً لانتماءاتها الاجتماعية.
يحدد تطور القوى المنتجة على المستوى العالمي حالة انقسام العالم (تقسيم العمل) إلى بلدان رأسمالية مركزية غنية (بورجوازية إمبريالية) وبلدان طرفية هامشية فقيرة (بورجوازية متخلفة)، وتسود في المراكز والأطراف علاقات متبادلة بين الناس في عملية الإنتاج الاجتماعية ؛ وهي علاقات إنتاج رأسمالية قائمة على الملكية الرأسمالية الخاصة ، وعلى السوق الرأسمالية (التداول والتبادل الرأسماليين/ علاقات السوق ). لقد عممت البورجوازية الإمبريالية علاقات الإنتاج الاجتماعية الرأسمالية (علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية) لكنها احتكرت تطور قوى الإنتاج في أقطارها القومية المركزية، وأعاقت هذا التطور في أطراف النظام الرأسمالي.
يسمّي ماركس مجمل علاقات الإنتاج باسم بنية المجتمع الاقتصادية ، بيد أن مثل هذه العلاقات لا تعدو كونها العلاقات المتبادلة بين الناس في عملية الإنتاج الاجتماعية . وبنتيجة ذلك فإن أي تغيير يطرأ على علاقات الإنتاج هو تغيير في العلاقات القائمة بين الناس ؛ تغير ناجم عن النشاط السياسي للطبقات الهامشية ضمن هذه العلاقات الاقتصادية للمجتمع.
نحن نرى أن ما يحدد فعالية الأفراد الذهنية وغير الذهنية في آخر المطاف هو أسلوب إنتاج الحياة المادية ، أو شكل التنظيم الاقتصادي للمجتمع ، وهذا الأسلوب مكون من نقيضين هما علاقات الإنتاج التي هي في جوهرها أو أساسها علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية (علاقات اجتماعية طبقية)، وعلاقات السوق أو علاقات التبادل والتداول والتوزيع تظهر على السطح (علاقات اقتصادية بحتة). العلاقات الاجتماعية تعمل وفق قانون فضل القيمة أو استغلال قوة العمل من قبل الطبقة المسيطرة ، والعلاقات الاقتصادية يحكمها قانون القيمة أو تبادل سلع متساوية في السوق الرأسمالية.
إذن، يرجع التحديد لأسلوب الإنتاج، بينما الشرط مقولة ترجع للصراعات الطبقية/ السياسية . البورجوازية تحاول تأبيد الوضع القائم عبر إعادة إنتاج رأس المال الموسّع والذي يكرس سيطرتها، ويؤبد تنظيمها الاقتصادي للمجتمع، والبروليتاريا الثورية تريد تجاوز هذا الوضع القائم عبر تحطيم و تجاوز التنظيم الاقتصادي البورجوازي للمجتمع المعاصر عبر صراع طبقي/ سياسي طويل الأمد ، ذو جولات وكرات. إن بروز المستوى السياسي على سطح الصراع يعني أننا في راهنية عمل ثوري، أما تواريه خلف صراع نقابي/ اقتصادي يعني أن البروليتاريا ما تزال في كنف البورجوازية ووضعها القائم.
يظهر سوء فهم آخر في مقالة رصاص وهو شكل فهمه للمنهج عند ماركس أو في الماركسية. إنه يفهم الديالكتيك المادي عند ماركس على أنه "منهج تحليلي معرفي.." ، ونحن نعرف أن الديالكتيك هو منهج تحليلي /تركيبي في ذات الوقت. يكتب ماركس: "إن الطريقة المستخدمة في رأس المال قد أسيء فهمها ، وهذا ما تدل عليه التقييمات المتناقضة لهذه الطريقة. .. يكتشف السيد م. بلوك أن طريقتي تحليلية ويقول فيما يقول: "لقد أثبت السيد ماركس في هذا الكتاب أنه واحد من أبرز أصحاب العقول التحليلية".. أما مجلة revieu positive فتلومني على أنني أعالج الاقتصاد السياسي بصورة ميتافيزيائية.. أما مجلة فيستنيك يفروبي .. فتجد أن طريقة بحثي واقعية بصورة صارمة ، أما طريقة العرض فهي لسوء الحظ ديالكتيكية .. حيث يورد المؤلف مقطعاً من مقدمتي لـ "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي " برلين 1859 حيث عرضت الأساس المادي لطريقتي.." . وهنا يذكر ماركس كلمة المادي وكلمة الديالكتيك والتي يتجنبهما سيد رصاص في مقالته مدعياً أن ماركس لا يذكرهما.
التباس آخر يظهر في فهم رصاص لعلاقة المنهج بالمعنى المجرد مع النظرية الماركسية في أشكالها التاريخية. لقد قدم رصاص المنهج الماركسي على أنه تحليلي معرفي، وأن النظريات التي خرج بها ماركس وانجلز ولينين ما هي إلا خلاصات مجسدة لتطبيق المنهج التحليلي . بهذا الشكل غاب عن السيد رصاص تاريخية المنهج الديالكتي أو ماديته، بقول آخر غاب عنه المحتوى العلمي التاريخي للمنهج الديالكتيكي. بالتالي أفلت من يده ديالكتيك "المنهج- الشكل" مع النظرية-المحتوى العلمي التاريخي. فعلى سبيل المثال لا يمكن أن يتضمن ديالكتيك هراقليطس ولاحقاً أفلاطون على مقولة القيمة وفضل القيمة لأن الأخيرين ظهرا تاريخياً كمحتوى علمي بعد أفلاطون بقرون. أيضاً لم يتضمن ديالكتيك ماركس كمحتوى تاريخي على نظرية الإمبريالية إلا بشكل جنيني بينما تضمن ديالكتيك لينين نظرية الإمبريالية كظاهرة اقتصادية/سياسية جديدة في الرأسمالية (الاحتكار) وما نتج عنها من انتهازية الطبقة العاملة الأوربية ولا حقاً انقسام البروليتاريا العالمية، وما نتج عنها من ظاهرة تفاوت التطور وتركّبه ومن تراكب وترابط الثورتين الديمقراطية والاشتراكية ومن بروز المسألة القومية في الأطراف الرأسمالية كمسألة ديمقراطية بامتياز، الخ.. يكتب لينين: "نمت الإمبريالية من جنين إلى نظام سائد، وشغلت الاحتكارات الرأسمالية المكان الأول في الاقتصاد الوطني والسياسة، وتم حتى النهاية اقتسام العالم... الإمبريالية هي عهد الرأسمال المالي والاحتكارات التي تحمل في كل مكان النزعة إلى السيطرة ، لا إلى الحرية. ونتائج هذه النزعة هي الرجعية على طول الخط في ظل جميع النظم السياسية (ديمقراطية كانت أم فاشية أم بونابرتية) .. يشتد بوجه خاص الظلم القومي والميل إلى الإلحاق، أي الاعتداء على الاستقلال الوطني (ذلك لأن الإلحاق ليس إلا الاعتداء على حق الأمم في تقرير مصائرها) ويشير هلفردنغ وهو على حق إلى الصلة بين الإمبريالية واشتداد الظلم القومي .. إن كاوتسكي إذ ينكر تشديد الإمبريالية للرجعية السياسية يحجب مسألة غدت في منتهى الوضوح، هي مسألة استحالة الوحدة مع الانتهازيين في عهد الإمبريالية" ويشير لينين إلى أنه من الخطأ الظن أن ميل الرأسمالية إلى التعفن والاحتضار في عصرها الإمبريالي "ينفي نمو الرأسمالية بسرعة أكبر" يقول : "بالإجمال تنمو الرأسمالية بسرعة أكبر جداً من السرعة السابقة ، إنها تنمو ولكن " بشكل متفاوت إلى حد كبير، وتنمو اقتصادياً بسرعة كبيرة "أشبه بسرعة السيارة الحديثة التي تخترق الطرقات بشكل يعرض للخطر الراجل الغافل وركابها أنفسهم"
لم يستطع رصاص التقاط هذا الديالكيك بين الشكل والمحتوى في المنهج الماركسي بالتالي غابت عنه تاريخية المنهج؛ أو المحتوى التاريخ للمنهج الديالكتيكي. وهكذا كان من الطبيعي أن يتهم انجلز ولينين بالوضعية الفلسفية ، مع أنه قال أن ثورة أكتوبر مرت عبر المنطق الكبير لهيغل. يقول مرقص: "إن الطريق الذي قاد إلى أكتوبرالروسي مر بـ "المنطق الكبير" لهيغل في مجادلات لينين اللاحقة مع "الماركسية اليسارية"، "مع روزا لوكسمبورغ، مع بوخارين، بيتاكوف، حول الإمبريالية والمسألة القومية .. تحتل الديالكتيك (أي الفلسفة) مكاناً بارزاً " ... "بالنسبة للينين، الديالكتيك والمادية لا ينفصلان "المنطق، الديتالكتيك، النظرية المادية للمعرفة...هذا شيء واحد"" . إذاً لا يجوز علمياً وضع لينين في سلة واحدة مع كل من بوخارين وستالين ولا حتى مع بليخانوف في مسألة المنهج أو الديالكتيك الماركسي.
بخلطه هذا بين بوخارين ولينين ينسى رصاص جدالات لينين مع بوخارين حول "الديالكتيك والاختيارية" في موضوع النقابات ، وجدالات لينين مع بوخارين وروزا حول العدمية القومية والاقتصادية الإمبريالية (كاريكاتير الماركسية). إن غرامشي الذي يستشهد به رصاص كثيراً ، يفرّق بشكل واضح بين لينين (العقل الديالكتيكي النابض) وبين الكتيب التعليمي الشعبي لبوخارين . كما أن لوكاش يصيغ بطريقة ملتوية جداً التجربة التنظيمية للبلشفية تحت عنوان "ملاحظات منهجية عن قضية النظيم " في كتابه الشهير "التاريخ والوعي الطبقي"
يقول رصاص: "أليس من الضروري القيام بهذه الغربلة؟" وأقول ، نعم إلينا بالغربال/المسرد! لكن مسرد السيد رصاص بلغ من اتساع الثقوب أنه هرّب الحب وأبقى على العيدان الجافة!!
الديمقراطية والعلمانية
في التجربتين الأوروبية والإسلامية
محمد سيد رصاص
لم يرتبط مفهوما " الديمقراطية " و "العلمانية " بشكل متزامن أو عضوي في التاريخ الغربي الحديث . بل نجد أن الأشكال الرئيسية لمقاومة كنيسة روما و هيمنتها على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، الممتدة من فترة الحروب الصليبية وحتى القرن السادس عشر، كانت تأتي مع حركات دينية مضادة، مثل البروتستانتية و البيوريتانية الإنكليزية، أو الكلفينية في سويسرا و هولندا، وقبلها من حركة جون ويكليف (1320-1384) الذي ترجم الكتاب المقدس إلى الإنكليزية، وحركة جان هس التشيكي (1369-1415)، اللتين دخلتا في صدام مع الفاتيكان.
-1-
لم تخرج السياسات الدولية عن إطار الحروب التي أخذت شكلاًً دينياً، مثل حروب أسبانيا المتحالفة مع الفاتيكان ضد إنكلترا التي انشقت عن روما دينياً في عام1534، إلى أن تم حسم هذا الصراع في معركة الأرمادا عام 1588 بهزيمة الأسبان ، كما أن آل هابسبورغ، الحاكمين في فيينا ، تدخّلوا في شؤون ألمانيا الداخلية،ضد انتشار البروتستانتية في وسط ألمانيا وشمالها، وقد استطاع اليسوعيون، المدعومون من ملوك فيينا أن يجعلوا بولندا كاثوليكية بعد أن قضوا على الأرثوذوكسية ، قاطعين بذلك الجذور الواصلة لبولندا مع روسيا وكافة العالم السلافي، وعلى اللوثرية والكلفينية اللتين انتشرتا بقوة في بولندا في القرنين السادس عشر والسابع عشر،
لقد عبّرت تلك الحروب عن بدايات تشكّل الدول القومية تحت زعامة سلطة الملك ضد النبلاء والبرلمانات المحلية، وفي البلدان التي اختارت خطاً مضاداً لروما ، كما في إنكلترا، نجد أن قانون السيادة الذي فصل كنيسة إنكلترا عن روما(عام1534) قد جعل الملك هو الرئيس الأعلى للكنيسة الأنجليكانية ، فيما عزز الملوك سلطتهم القومية في البلدان الكاثوليكية عبر التحالف السياسي مع البابا ، أو عبر المؤسسة اليسوعية التابعة لروما التي سمحوا لها بالسيطرة على التعليم والنواحي المختلفة للحياة الاجتماعية والثقافية في البلد المعنيّ.
إن المحاولة التنظيرية الأساسية في فلسفة السياسة لتقديم منظور لا دينيّ ، أي بعيد عن الإكليروس، في السياسة ، قد أتت عبر مكيا فللي (1469-1527) الذي أدرك التعارض بين الارتباطات الدولية لكنيسة روما وبين موضوع الوحدة الإيطالية ، الأمر الذي جعله يراهن على أن مصير ايطاليا يجب فصله عن البابا لصالح أمير إيطاليّ "مّا" يقود عملية التوحيد الإيطالية . ولا يمكن عزل محاولة مكيا فللي عن المناخ الفكري الذي ساد أوروبا الغربية، بين منتصف القرن الخامس عشر وأواسط القرن السادس عشر، والذي عبّر عن تنامي دور الفرد والمجتمع في وجه المؤسسة الكنسية التي احتكرت النشاطات الثقافية و سيطرت على كثيرٍ من جوانب الحياة الاجتماعية ، وتدخلت بشكل كثيف في العملية السياسية في القرون القليلة السابقة لعصر مكيا فللي. إن كلمة laity تعني جمهور المؤمنين (أو: سواد الناس) الذين لا ينتسبون إلى رجال الدين ، وقد اشتُقت منها كلمة laic التي تعني "مدني" أي غير منتسب إلى فئة الكهنوت ورجال الدين، ومنها أتت كلمة laicism التي تعني "النظام العلمانيّ" الذي لا يوجد فيه نفوذ كهنوتي في جهاز الدولة أو في السياسة ، وهذا المصطلح لا يعني العداء للدين مثل المصطلح الآخر secularism الذي يعني العلمانية كتنظيم للمجتمع والتعليم، حيث لا يُسمح للدين وللكنيسة بأي دور فيهما ، بل يقتصر الدين على مجال الشعور الأخلاقيّ الجوانيّ في الفرد ولا يسمح بإعطائه أبعاداً مؤسساتية أو اجتماعية أبعد من ذاتية الفرد المؤمن .
في العالم البروتستانتيّ انتصر مفهوم laicism لأنّ البروتستانتية بكلّ تفرعاتها – من لوثرية وكالفينية وبيوريتانية –لا تتضمن وجود فئة الإكليروس Clergy . فالإصلاح البروتستانتيّ عنى أن لا وسيط بين المؤمن والله ، ومن هنا أتت المكانة المتفوقة للإنجيل على القس في البروتستانتية ،وحرية المؤمن في التفاعل مع النص الدينيّ بمعزلٍ عن الكنيسة. إلا أن هذا لم يمنع من أن تفرز البروتستانتية اتجاهاتٍ سياسيةً تحاول السيطرة على المقاليد الاجتماعية والثقافية و السياسية، كما نجد عند كالفن( 1509-1564) الذي أسس دولة جنيف؛ أو عند الكلفينيين الهولنديين الذين انتفضوا ضد السيطرة الأسبانية عام 1598 وأسسوا جمهوريةً كانت عماد النفوذ الهولندي التجاريّ العالميّ ؛ أو عند البيوريتان الإنكليز الذين قادوا ثورة البرلمان ضد الملك (1642-1649) و أقاموا حكمهم (1649-1660) ففرضوا منظورا تهم الفكريةّ والأخلاقيةّ والسلوكيةّ على المجتمع بوصفهم أفراداً متدينين لهم رؤيةٌ في السياسة والمجتمع والثقافة لا من موقعهم كرجال دين جدد بدلاً من الإكليروس الكاثوليكيّ ،وحتى في فترة عهد " الإعادة" (restoration ) ، حيث طغى النفوذ الثقافيّ الفرنسي ّعلى إنكلترا والمجلوب مع الأسرة المالكة العائدة من النفي الفرنسيّ في عهد البيوريتان ، نجد أنّ محاولات تشارلز الثاني الخفية لإعادة الكاثوليكية أو محاولات جيمس الثاني الصريحة قد أدت إلى "الثورة المجيدة" عام1688 ضد الأخير، على خلفية التوحد البروتستانتيّ المجتمعيّ ضد الكاثوليكية و الملكية المطلقة ، و لصالح سلطة البرلمان وجعل الملك يملك ولا يحكم . و أما في فرنسا الكاثوليكية ، فإننا نجد أنّ حكم لويس الرابع عشر (1643-1715)- عبر نقضه عام 1685 لمرسوم "نانت" (الذي صدر عام 1598 ليسمح بتعايش الكاثوليك مع البروتستانت في فرنسا) وما أدى إليه من اضطهادات عنيفة للبروتستانت الفرنسيين دفعتهم إلى الهجرة إلى سويسرا وإنكلترا – قد كرّس تحالف حكم الملكية المطلقة مع رجال الإكليروس الكاثوليكيّ في فرنسا.و لذلك فإن علمانيّة مفكّري عصر الأنوار الفرنسيين (فولتير، ديدرو، مونتسكيو، روسو...الخ) قد اجتمع فيها العداء لرجال الإكليروس والكنيسة بعدائهم للدولة القائمة ؛ وغالبيتهم(كديدرو، ودوهلباخ) كانوا يتبنّون الإلحاد ، أو اللامبالاة الدينية أو اللاأدرية (كما عند مونتسكيو) ، أو النزعة إلى الدين الطبيعي المتجاوزة لإطار ديني محددٍ (كما عند روسو) . ورغم أن هؤلاء جميعاً قد كانوا متأثرين بالتجربة الإنكليزية ، ولاسيما صيغة الحكم الملكي الدستوريّ ، ويريدون نقلها إلى فرنسا، فإنّ خصوصية فرنسة قد جعلت علمانيتهم عدائيةً للدين وفي حالة صدام معه، نتيجةً لتحالف الكنيسة مع الحكم المطلق .
لقد أدت الثورة الفرنسية إلى تحطيم الحكم المطلق عام 1789 ، كما أدّت إصلاحات نابليون (1799-1815) إلى علمنة فرنسا ، رغم أن الكنيسة الكاثوليكية أبدت مقاوماتٍ كبيرة ، مستندةً إلى جذورها الاجتماعية القوية، واستخدمت كثيراً من نفوذها في عهد الإمبراطورية الثانية (1852-1870) ، وخاصةً على صعيد التعليم ، لكنّ الثورة الفرنسيّة حسمت الأمر بعدم السماح للكنيسة أو لرجال الدين بممارسة أيّ نفوذٍ أو دورٍ سياسيٍّ . غير أن هذا لم يمنع أن يكون ثمة في الحياة السياسية الفرنسية أفراد مدنيون كاثوليك متدينون ، لهم منظوراتٌ ثقافية أو سياسية مستلهمةٌ من الكاثوليكية. وقد أبرزت فترة حكم فيشي(1940-1944) مدى قوة هؤلاء الأفراد التي لا تعود إلى فترة الاحتلال فحسب ، بل إلى العشرينيات و الثلاثينيات حيث برزت فلسفة " التو مائية الجديدة " التي استندت إليها الأحزاب الديمقراطية المسيحية في البلدان الأوروبية والأمريكية اللاتينية .
في فرنسا القرن التاسع عشر، لم نعد نجد ملحدين عظاماَ على طراز ديدرو ودوهلباخ ، بل صرنا نجد علمانيين راديكاليين يؤمنون بفصل الكنيسة عن الدولة وإقامة مدارس علمانية ، كما في برنامج الحزب الراديكاليّ في انتخابات عام 1881 ، وكان كليمنصو من أبرز زعمائه . والحقّ أنّ العلمانية التي انتصرت في فرنسا ، أخيراً، لم تكن علمانية فولتير وديدرو وعصر الأنوار الفرنسيين ، بل العلمانية الأنكو- ساكسونية التي تفصل المدنيّ عن الإكليريكيّ ، ولكنها لم تمنع وجود تيارات ثقافية وفكرية وسياسية دينية يتبناها مدنيون في الحياة الاجتماعية للمجتمع الذي تسوده العلمانية laicism لا تلك التي يمثّلها مفهوم secularism
-2-
من ذلك كله نستخلص أنّ العلمانية الموجهة ضد الكنيسة قد فرضتها حركات دينية منشقة عن الكاثوليكية ، ولم تكن هذه العلمانية تعني أكثر من منع تدخل الكنيسة و رجال الدين في شؤون الدولة السياسية .
لم تؤدّ العلمنة هنا ، بما تعنيه كلمة laicism من نزع سلطة الكنيسة والإكليروس عن الدولة السياسية ، إلى الديمقراطية السياسية ، بل أدت إلى تقوية سلطة الحكم المطلق. وكان الملك هو من قاد العملية ، كما في حالة ملك إنكلترا هنري الثامن الذي قاد انشقاق 1534 ، كما أنّ كالفن أقام ديكتاتورية سياسية عنيفة في دولة جنيف، وهو ما ينطبق على الفترة التي حكم فيها البيوريتان الإنكليز . وعملياً ، فإنّ إنكلترا عندما وصلت إلى الديمقراطية السياسية عام 1688 ، كانت قد تعلمنت قبل ذلك بفترة طويلة في كافة المناحي الاجتماعية والثقافية، ولم تكن العمليتان العلمانية والديمقراطية متزامنتين أو مرتبطتين بشكل عضويّ، وكان المسؤول عنهما في الحالتين (1534و1688) بنية اجتماعية بروتستانتية متدينة معادية لروما والكاثوليكية، لا معادية للدين أو ملحدة أو لا أدرية . كما أن أول من قام بالعلمنة في فرنسا ، وأقصد نابليون ، قد كان ديكتاتوراً ، وقد تابع تقاليد أسلافه اليعاقبة العنيفة في الحكم السياسيّ وفي نزع سلطة الكنيسة والنبلاء، و عملياً لم تصل فرنسا إلى الديمقراطية السياسية المستقرة إلا بعد فشل الحركة المناصرة لعودة الملكية بقيادة بولانجيه عام1889 ، بعد تجارب من عودة الملكية (1815-1870) ، فحكم الملك لوي فيليب (1830-1848) ، فالجمهورية الثانية (1848-1852)، فالإمبراطورية الثانية (1852-1870) ، وانتهاءً بالجمهورية الثالثة التي قامت على جثث عمال كومونة باريس عام 1871 .
-3-
بعد عام 1989، وإثر الانهيار العمليّ للنموذج السوفييتيّ، انتعشت أفكارٌ ليبرالية جديدة في العالم العربيّ (بعد أن ماتت الليبرالية القديمة إثر ظهور الناصرية )، و رفد تلك الأفكار الجديدة ، بشكلٍ أساسيّ ، بعض من كان في الأحزاب الشيوعية العربية التقليدية التي كانت مواليةً للسوفييت،أوالمختلفة فقط في السياسة مع السوفييت . وقد قامت الطروحات الجديدة على الربط العضويّ بين الديمقراطية والعلمانية ، معتبرةً أنه من غير الممكن أن يكون المرء ديمقراطياً إن لم يكن علمانياً و"حداثياً"، كما أنها راحت تخلط في المصطلحات بين laicism و secularism وحين حاولت التأصيل التاريخيّ للعلمانية الغربية ، توهمت أنها نابعة من عصر الأنوار الفرنسي في القرن الثامن عشر . لكنّ تجربة العالم الإسلاميّ لا تتضمن ذلك التوازي والارتباط العضويّ بين الديمقراطية والعلمانية . فتجربة الأتاتوركية قد قادها ديكتاتورٌ عنيفٌ علمانيٍ secular معادٍ للدين . كما أن علمانية شاه إيران ، الذي قاد التجربة العلمانية الأخرى المهمة بعد أتاتورك ، قد كانت موجهةً أساساً ضد فئة رجال الدين الشيعة وتدخّلهم في السياسة وشؤون الدولة ، وهم الذين تشبه مؤسستهم في هيكليتها ومراتبيتها تلك الموجودة عند الإكليروس الكنسيّ الكاثوليكيّ . وقد اتبع الشاه وسائل عنيفةً من أجل تحجيم المؤسسة الدينية الشيعية ، كما حاول عبر الإصلاح الزراعي ّعام 1963 تحجيم نفوذها الاقتصاديّ ، الأمر الذي أدى إلى ثورة الخميني الأولى في ذلك العام وما أعقبها من نفيه إلى خارج إيران . وأما في الفترة الراهنة ، فنلاحظ أنّ علمانييّ تركية غير ديمقراطيين ، سواءٌ من كان منهم في المؤسسة العسكرية أو في الأحزاب السياسية العلمانية. وقد تحالفت هذه الأحزاب الأخيرة مع الجيش في أوائل صيف1997من أجل إسقاط حكومة "أربكان" الإسلامية، وكان جميع هؤلاء المتحالفين مستعدين لتأييد انقلاب عسكريّ جديدٍ ضد الحكومة الإسلامية التي وصلت إلى الحكم عبر الوسائل الديمقراطية ، كما أنّ أساليبهم في قمع المدارس الدينية والنشاط الثقافيّ الإسلاميّ، وفي قمع عملية ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية، توحي بأنهم في نقطةٍ بعيدةٍ جداً عن موقع اللعبة الديمقراطية . وفي الجزائر نجد أن جنرالات الجيش الذين ألغوا العملية الانتخابية في كانون الثاني 1992 يستلهمون الاتاتوركية في تجربتهم . كما أنّ من أيّدهم في ذلك الانقلاب قد كان إما علمانيّاً بربريّاً متغرّباً يميل إلى الفرانكوفونية (مثل سعيد سعدي "زعيم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية")، أو علمانيّاً يسارياً معادياً للإسلاميين (مثل "حزب التحدي") ، أو من رجال الإدارة والتكنوقراط والسياسيين والمثقفين المتغربين(مثل بلعيد عبد السلام ،ورضا مالك ، ومحمد بو ضياف، الخ...) إنّ معظم العلمانيين العرب المعاصرين هم من خلفياتٍ غير ديمقراطية، وقد أتوا بمعظمهم من أحزاب قامت على مفاهيم "الطليعة الثورية"و"النخبة" أو التفريق بين " الديمقراطية السياسية" و"الديمقراطية الاجتماعية" وبين"الديمقراطية" و" الديمقراطية الشعبية" . فهم بعد أن تبنوا "الديمقراطية" الآن عقب طول تضادٍ معها ، يحاولون ربطها ب " العلمانية " وهذا ما يؤدي إلى وضع شروطٍ أمام من يدخل في العملية الديمقراطية، والمقصود الرئيسي من ذلك: القوى الإسلامية التي يشعر هؤلاء العلمانيون أنها قد تخرج فائزةً من العملية الديمقراطية الانتخابية ، وهم يريدون منعها من الدخول إلى الملعب واستئصالها من العملية السياسية . ومن الواضح أنّ الكثير من هؤلاء مستعدون للمضيّ بعيداً في هذه اللعبة ، على نحو ما تبين تجربة تحالفهم مع الأنظمة ضد الإسلاميين (كما في مصر وغيرها) أو مع العسكر(كما في الجزائر)
-4-
في الإسلام السنيّ الذي يشكّل غالبية سكان الوطن العربيّ، لا يوجد إكليروس أو مؤسسةٌ دينيةٌ تراتبية هرمية تجمع رجال الدين، بخلاف ما عند الكاثوليك والشيعة؛ وحالة السنّة هنا أقرب إلى البروتستانت . إلا أن الإسلام يختلف عن المسيحية والهندوسية والبوذية ، التي هي ديانات تقتصر على الجوانب الروحية والأخلاقية ، في أنه يمتد إلى تقديم تصوراتٍ سياسيةٍ للمجتمع والدولة، وقد أقام حضارة وإمبراطوريةً مترامية الأطراف على أساس إيديولوجيته التي لا تفصل الدين عن السياسة.
وبخلاف حالة الخميني ، فإن من يستمد اتجاهه السياسيّ من تصورٍ معيّن عن الإسلام ، هم أساساَ أفراد مدنيّون في العالم العربي . وهؤلاء لا يتمتعون بوضعية المراتبية الدينية ، ولا يملكون سلطةَ دينيةًََ أو مراتبية على مؤسسة معينة أو على أبناء الطائفة ، مثل بابا الفاتيكان والخميني . ووضعهم لا يختلف عن وضع الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب ، أو عن وضع حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسيّ الأصولي في الهند الذي استمد إيديولوجيته من إطار دينيّ رغم الطابع الذاتيّ الفرديّ للديانة الهندوسية.
والمسألة ليست في امتلاك الحق أو في عدم امتلاك الحق في أن تشكل تصوراً سياسياً مستمداً من ينابيع دينية، وخاصة إن كان الدين يحمل مضامين سياسية ، ولا في كونك علمانياً أو غير علماني، بل في كونك ديمقراطياً أو غير ديمقراطي. فالديمقراطية ليست عقيدة أو أيديولوجية سياسية، بل هي شكل معين لتنظيم العملية السياسية و قوننتها، سواء من حيث علاقة الثالوث(فرد- مجتمع- دولة)، أو من حيث علاقة السلطة بالتعبيرات السياسية للطبقات والفئات الاجتماعية إحداها بالأخرى، أو من حيث علاقة السلطة بالمعارضة. والموضوع،في الحقيقة، يتركز في مسألة القبول بالتعددية الفكرية السياسية، وفي القبول بمبدأ تداول السلطة وفقاً لحركية "صندوق الاقتراع" الذي هو مرآةٌ للحراك السياسي في المجتمع . ووفقاً لهذين المقياسين يتحدد من هو ديمقراطيّ ومن ليس بديمقراطيّ، لا عبر مقاييس أخرى مثل "الحداثة" و "العلمانية" اللذين هما مصطلحان إشكاليان ولا يوجد إجماعٌ على ماهيتهما ضمن مختلف الاتجاهات الفكرية و السياسية: فالإسلاميّ يقبل "الحداثة" كتقنيةٍ و علوم، معتبراً إياهما محايدتين عن المناخ الفكريّ والفلسفيّ للمجتمع الذي ولّدهما ؛ وأما "الحداثي" العربيّ فيرفض ذلك معتبراً الأمور متكاملة. و إننا لنجد مزيداً من التخبط و الجهل و الأفكار المسبقة في موضوع تحديد ماهية العلمانية، وكيف تولدت في الغرب الأوروبيّ.
-5-
لا تدّعي هذه الدراسة محاولة تقديم حلٍّ لهذه الإشكاليات ؛ فهذه مهمة الجميع . إلاّ أنّ هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أدرك الجميع الترابط العضويّ للد ينيّ مع السياسيّ في الإسلام، بخلاف المسيحية، رغم أنّ الدين المسيحيّ قد أفرز- بعد الإصلاح البروتستانتيّ والإصلاح الكاثوليكيّ المضادّ(اليسوعية)- اتجاهاتٍ دينيةً سياسيةً من دون فئة الإكليروس. وإذا كان من حق الإسلاميين أن يبنوا اتجاههم السياسيّ على تفسيرٍ معيّنٍ للإسلام، فإن الإسلام ( بوصفه المحدّد الرئيس للهوية الحضارية العربية) هو ملكٌ لجميع العرب، من مسلمين وغير مسلمين ، متدينين وغير متدينين ، ومن حق الكل أن يستمدوا منه،جزئياً أو كلياً ، اتجاهاتهم الفكرية و السياسية. فالإسلام أوسع من حدود التيار الإسلاميّ السياسيّ. كما أنّ من الضروري إدراك الفرق بين دور الإسلام في الحضارة العربية (و كيف أنّ الأول هو الذي أقام صرح الثانية)، ودور المسيحية في الحضارة الغربية (وكيف أن سيادتها في روما قد ترافقت مع أفولها و دخول الغرب في العصور الوسطى، فيما قامت النهضة الأوروبية بالتزامن و الترافق مع تحجيم الكنيسة واستدعاء كثير من عناصر وثنية أثينة وروما القديمتين).
هذا الوضع في البلدان الإسلامية يخلق إشكاليتين:الأولى هي محاولة عزل دين، تشكل السياسة جزءاً أساسياً من بنيته العضوية ، عن السياسة . والثانية هي محاولة تطبيق التجربة العلمانية الغربية، بشكلٍ إتباعي ،على البلدان العربية و الإسلامية من دون إدراك الفرق بين دور المسيحية في الغرب ودور الإسلام في الحضارة العربية الإسلامية. ومن الواضح أنّ تجربة العلمانية في نصف القرن العشرين الأول عند العرب قد تحطمت على هاتين الصخرتين، والوقائع تدل أنّ الليبرالية العربية الجديدة المعاصرة لا تحاول أثناء طرحها للعلمانية أن تقدم شيئاً جديداً على هذين الصعيدين .
-6-
من الممكن أن تشكل عملية فصل الديمقراطية عن العلمانية ، أي إدراك عدم الترابط العضويّ ألمفهومي بينهما، حلاً لهذا المأزق الذي يواجهه العلمانيون العرب. إذ من الممكن بعد تشكيل المشهد الديمقراطيّ، وهو الشيء الذي لا يمكن الوصول إليه بدون تعاون التيارات الأربعة الرئيسية في الحياة العربية (الإسلامية والقومية والماركسية والليبرالية )، أن يطرح العلمانيون العرب برنامجهم ، أسوةً بغيرهم. إلا أن التجربة الماضية تدل على أنّ العلمانيين العرب لا يمكن أن يلاقوا تجاوباً اجتماعياً إذا لم يستطيعوا تغيير محتوى العلمانية التي قدّموها سابقاً في البلدان العربية ، وإعطاءها منحىً جديداً يراعي الخصوصية العربية الإسلامية.








العلمانية
معتز حيسو
تُعبّر العلمانية عن جملة قوى وتحولات وتصورات تاريخية تستغرق في سياق تطورها السياسي والاجتماعي والمفاهيمي جملة القوانين العلمية الدالة عليها وفق منظور تحليلي علمي للواقع الاجتماعي المحدد على المستويين الاجتماعي والطبيعي . وبذلك تدلل العلمانية على ضرورة إعمال العقل النقدي في التحولات الاجتماعية والطبيعية وغيرها ، وعلى ضرورة التجدد والتجديد في سياق التطور التاريخي بعيداً عن الثبات والركود والركون للماضي وللموروث الثقافي بأشكاله ومستوياته السلبية .
وتنعكس العلمانية في أشكال الحكم والسلطة السياسية من خلال علمنة المكان والزمان والتحولات القانونية والدستورية المواكبة والمعبرة عن المتغيرات المجتمعية . وعلى هذا فالعلمانية متساوقة ومحايثة لحركة المجتمع والفكر الذي يميل إلى تنحية الأشكال والأنماط الفكرية القائمة على الخرافة والنقل والتسليم .. مكرسة فصل السلطة الدينية ورموزها عن السلطة السياسة بعيداً عن مفهوم الإلحاد وتكفير المجتمع ونفي التدين بكونه ظاهرة اجتماعية موضوعية .
فالعلمانية بذلك ليست وصفة أو صيغة جاهزة تختارها جماعة معينة في لحظة تاريخية معينة لتطبيقها إرادوياً بقدر ما هي آليات وأشكال تفكير وممارسة وتحليل تجارب الواقع في سياق تجاوزه الموضوعي .
لكن وكما هو ملاحظ بأن الأشكال والتعبيرات السياسية التي سيطرت بوصفها علمانية لم تتجاوز الأنماط الثقافية السائدة بل اعتمدت عليها وساهمت في تنمية بعض التشكيلات العشائرية والطائفية والدينية لضمان استمرار سيطرتها السياسية . وقد نمت في أحضانها بعض التشكيلات الدينية المسيسة التي تعتمد الأشكال الانقلابية في ممارستها السياسية. لنصل إلى لحظة يتزايد فيها المد الأصولي بأشكاله السلفية والجهادية على حساب التدين الموضوعي والدين المتنور.
إن المجتمعات الإنسانية تعبر في صيرورة تطورها ، عن مكنوناتها الداخلية ومفاعيلها المتنوعة والمتعددة.بالتالي يكون المحقق واقعياً تعبيراً وتجلياً موضوعياً عن فاعلية البنى الاجتماعية في سياق تطورها الموضوعي .
لقد استطاعت الكثير من المجتمعات التي شهدت ثورات معرفية ، فلسفية ،علمية من إيجاد إمكانيات حقيقية في بناء أشكال وأنماط ثقافية تقطع مع أساليب وأشكال التفكير الأصولي السلفي .ولن نجافي الحقيقة عندما نؤكد بأن معظم المجتمعات التي حققت تطوراً واضحاً كان للعامل العلمي و الثقافي والفلسفي الدور الأساس في إنجاز القطع المعرفي المتجاوز للماضي والمتحررة من السيطرة الذهنية السلفية وآليات التحليل والممارسة الفكرية الأصولية ، والتأسيس لأشكال وأنماط فكرية تقوم على نقد ونقض البناء المعرفي الأصولي.
هذا يقودنا إلى القول بأن أنساق التطور المعرفي مفتوحة دائماً على التطور والتغير .ويمكننا التأكيد أيضاً بأن المفتاح الرئيسي والبوابة الحقيقية لتجاوز الإستنقاع والركود المعرفي والذهني يتمثل في إقامة الحد على المفهوم وإقامة الفصل والقطع المعرفي مع عوامل وأسباب التخلف لتكوين وتأسيس آليات إدراك وتحليل علمي يساهم في بناء آليات تفكير موضوعية وعقلانية تساهم في تحطيم التابوات والذهنيات الأصولية المتزمتة التي مازلت تتحكم بمفاعيل التطور الثقافي وتقيم الحواجز في وجه التطورات والمتغيرات العلمية .
لقد خضعت المجتمعات العربية بشكل عام لأشكال من السلطات السياسية التي عمقت الوعي الديني على مدى عدة قرون ، لينعكس هذا لاحقاً في استمرار الوعي الديني وسيطرته على آليات التفكير وأساليب الحياة الراهنة . بخلاف المجتمعات التي أسست لوعي علمي كان من نتائجه انحسار الوعي والإدراك الديني إلى المستوى الذاتي للإنسان، وعلى ممارسة الطقوس الإيمانية بعيداً عن الحياة السياسية ، و إقامة الفصل بين الدين والسياسة بخلاف ما نلاحظه في بلداننا العربية حتى الآن من سيطرة الفكر الديني على آليات التفكير والممارسة النظرية والسياسية لبعض النظم العلمانية الشكلانية ، ومحاولة الكثير من الأطراف التوفيق و المصالحة بين الفكر العلماني و الفكر الديني . إضافة إلى أن بعض رموز الفكر الديني الأصولي السلفي يعملون على تسييس الفكر الديني لتكريس شكل دولة دينية يتماهى مع نموذج الدولة الإسلامية التي كانت سائدة في صدر الإسلام ، وكأن عجلة التاريخ وصيرورة تطوره توقفت، أو أن التاريخ يعود القهقرى .
ونلاحظ حتى اللحظة سيادة الفكر المطلق الذي يتجلى في بعض من جوانب شخصية الحاكم المتماهى بالصفات الألوهية المكرَّسة بالممارسة السياسية . وقد ساهمت التجربة السوفيتية في تعزيز سيادة الفكر الشمولي والنظم الاستبدادية التي قادت إلى تغييب الفرد في الأنا الجمعية المتمحورة حول الحاكم المطلق المعبر عن المجتمع والناطق باسمه.. . لنلاحظ بأن ما هو سائد حالياً ليس وليد اللحظة الراهنة، بل يعود إلى سيرورة تاريخية طويلة ساهمت فيها الممارسات العامة لسلطة الدولة المركزية لفترات زمنية طويلة لأسباب (مناخية ،اجتماعية، سياسية، سيكولوجية ، اقتصادية ....) . وهذا لايعني مطلقاً بأن نظمنا الحالية تحكم باسم الدين أو تمثل سلطة دينية ،أو تسعى إلى إقامة دولة دينية ، باستثناء بعض الدول ، لكنها تستفيد وبشكل واضح وملموس من مزاوجة الوعي الديني مع منظومتها المعرفية، و مع نمط الدولة العلمانية الشكلانية .
وهذا يفترض العمل على تدقيق آليات ممارستنا النظرية وأدواتنا المعرفية ، وآليات العمل السياسي . و تعميق وتوسيع الإنتاج النظري والمعرفي القائم على نقد ونقض المنظومات والأنماط المعرفية الأصولية التي ما زالت تؤثر في ممارستنا السياسية ، والعمل على إنتاج هوية معرفية تقوم على ترسيخ فكرة الفرد الديمقراطي الحر. والتأكيد على ضرورة المساهمة النظرية لتجسيد فكرة الدولة الحديثة القائمة على الفكر العلماني الديمقراطي.
لقد أدى تقاطع الفكر الماركسي / الشيوعي في البلدان العربية مع الفكر الديني وبعض مستويات الفكر العروبي المتخلف في الممارسة السياسية لبعض الأحزاب الشيوعية الرسمية إلى تكريس السلطة الفردية المطلقة المتمثلة في شخص الأمين العام ، وإلى تحويل الماركسية إلى عقيدة ومذهب ونص مقدس يتحول فيها النسبي إلى مطلق .
و قد جرى العمل من قبل بعض الأحزاب الشيوعية على تكييف الواقع مع معايير المنظومة المعرفية الماركسية بأشكال دوغمائية حولت المنظومة الماركسية العلمية إلى نص معرفي جامد .
إن الماركسية تمثل فكراً علمياً يتجاوز الفكر الغيبي نقدياً ، وأيضاً تمثل الماركسية فكراً مواكباً للتطور ومتجاوزاً له ومستغرقاً للمعارف العلمية التي يتطور على أساسها ، و تشكل أداة معرفية علمية تساهم في تحليل الواقع الموضوعي الملموس لتغييره وتجاوزه في سياق بناء مجتمع علماني ديمقراطي ، لكنها تحولت بفعل دوغمائية وجمود بعض الأحزاب الشيوعية العربية إلى أداة مثلومة لا تعكس مجريات اللحظة الراهنة التي تتسم بالتشظي والتحلل المجتمعي وتراجع القدرات الوطنية والملكات الثقافية ، وغير قادرة على تغيير الواقع الراهن لما يسود العمل الاجتماعي والسياسي والثقافي من تأزم وانسداد للآفاق .... ويتساوق استنهاض العلمانية مع تزايد المد الأصولي وتنامي آثاره الاجتماعية و استمرار السيطرة لأنظمة سياسية حكمت وما تزال باسم العلمانية ، لكنها أسست بفعل ممارستها السياسية لأشكال متنوعة من الشمولية والاستبداد ، وآل فشلها التنموي والسياسي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية . وعليه فمن الضروري التنبيه لأهمية التربية التي تكرس مفاهيم التحرر والإنعتاق من سطوة المفاهيم الغيبية والتسليمية ، و العمل على تكريس وتطوير آليات تفكير وإدراك وتحليل وممارسة اجتماعية علمانية بعيداً عن الفكر التكفيري أو الإلحادي .
8 / 6 / 2008 / م
[email protected]

















ما بعد الانهيار!
العدوان الأميركي، المقاومة، المهام
منصور الأتاسي
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فرض سيادتها على العالم، عبر ما سمي "سيادة القطب الواحد" ، وفي الوقت نفسه تابعت معركتها الإيديولوجية وأعلنت " نهاية التاريخ"! وحتى تستطيع السيطرة على العالم، كان لا بد من السيطرة على شرايين الصناعة الأوروبية واليابانية أي النفط، ولهذا الهدف ركزت جهودها للسيطرة على منابعه الرئيسية، التي هي: نفط قزوين, والنفط العربي, والإيراني، ومنذ سنوات ومنطقتنا ملتهبة، حيث الصراعات المختلفة والاحتلال المباشر, والضغوط المتعددة الأشكال, الهادفة إلى إحكام السيطرة على المنطقة. ونشرت شعارات عديدة منها " الشرق الأوسط الكبير, وسربت بأشكال مختلفة خرائطه المقترحة والتي تؤكد السعي لتفتيت الدول القائمة وإعادة تشكيلها على أساس أثني أو مذهبي أو طائفي، مما يضعفها ويدفعها للاقتتال المستمر فيما بينها، بحيث تصبح إسرائيل الدولة الأقوى والأكبر في المنطقة... وهكذا ارتبط المشروع الأمريكي في المنطقة بدور إسرائيل الرئيسي الذي زاد من عدوانيتها في محاولات ضرب المقاومة؛ اغتيالات واسعة لقادة تيارات المقاومة- إعادة احتلال الضفة والقطاع- اعتقال أكثر من ثلث أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني- الحرب العدوانية على لبنان صيف 2006 .
وحتى تستطيع أمريكا البدء بمعركتها استفادت من نشاطات وعمليات متطرفة لتنظيم القاعدة كان أخطرها عملية /11/ أيلول, وبدأت بحرب واسعة على ما سمي "بالإرهاب" حيث استطاعت اتخاذ قرار في الأمم المتحدة بالهجوم على أفغانستان, ودفعت عشرات الدول للمشاركة في الاحتلال المباشر لأفغانستان, ثم طورت هجومها باتجاه العراق متجاوزة الشرعية الدولية التي رفضت الموافقة على الاحتلال. واحتلته كما هو معروف بمشاركة إنكلترا حليفتها الرئيسية وعدد من الدول الأخرى وبموافقة عدد واسع من الأنظمة العربية المتواطئة مع ما يجري. وتحت شعار محاربة الإرهاب أعلنت اعتمادها على ما يسمى الحرب الاستباقية، أي أطلقت يدها لتنفيذ أي هجوم على أي دولة دون تقديم أي مبرر أو تأمين أي موافقة من الجهات الدولية, ومنح الكونغرس بوش صلاحيات القرار، بما فيها إعلان الحرب ودفعت بالصراعات الأثنية والمذهبية والطائفية والدينية إلى الأمام كمقدمة لتنفيذ سياستها التقسيمية الجديدة, مستفيدة من عوامل الضعف والتخلف المسيطر على منطقتنا العربية حيث انتشرت معارك مذهبية بين الشيعة والسنة, وشجعت الصراعات الأقوامية و الأثنية، الخ... ثم انطلقت لتقضي على المقاومة الفلسطينية واللبنانية؛ القلاع الأخيرة التي تسمح بالاختراق لكامل المنطقة إذا تم الإجهاز عليها، ثم تنطلق لضرب سورية وإيران. وكما هو معروف فقد كلفت إسرائيل بضرب المقاومة العربية في فلسطين ولبنان وأمنت لها كامل الدعم والتغطية العربيين والدوليين, وحققت أمريكا في البداية بعض النجاحات.
إن النجاحات التي حصلت عليها أمريكا في منطقتنا والتي لا تزال تشكل عوامل ضعف المطلوب إيجاد أشكال العمل القادرة على التخفيف من تأثيراتها هي:
1"- ضعف مفهوم الدولة الوطنية وعدم استكمال بناها الفوقية
2"- تفكك ووهن في النظام العربي " جامعة الدول العربية "
3"- التأثيرات الخطيرة لانهيار الاتحاد السوفييتي
4"- هزيمة " المشروع القومي" وعدم قدرة تياراته المختلفة على الخروج من الهزيمة، وتوقف عملية التنمية
5"- سيادة الأنظمة الاستبدادية وما أنتجته من فئات اجتماعية جديدة لا وطنية, ومن إبعاد للسياسة عن المجتمع مما أدى إلى ظهور سيادة العلاقات ما قبل السياسية، التي ذكرناها
6"- الفقر الشديد للشعوب العربية الناجم عن شدة نهب الأنظمة وضخ الأموال المنهوبة باتاجاه أوربا الغربية وأمريكا ، بالإضافة للنهب الذي مارسته الولايات المتحدة على الدول النفطية
7"- ومن جهتنا كيسار ماركسي: الإرباك الشديد الذي ساد قوى اليسار والناجم عن التأثر بهزيمة حركة التحرر العربي، ثم الانهيار السوفييتي مما أدى إلى بعثرة قوانا وانعكس في ضعف شديد لقدراتنا أفقدنا الفعل والمبادرة.
كل هذه الأمور وغيرها كما نرى، هي التي وضعت الدول العربية في حالة الوهن الشديد الذي يسمح بالاختراق المطلوب. وكان يمكن للمشروع الأمريكي أن يتابع تطوره باتجاه الهيمنة على إيران وإضعاف سورية وتحطيم مقاومتها- نقول سورية وليس النظام السوري - لولا بدء عمليات المقاومة في العراق- ثم صمود المقاومة في لبنان- حرب تموز 2006- وانتصار المقاومة في فلسطين إذاً، المقاومة هي التي أربكت وبعثرت الاندفاعة الأمريكية لتحقيق شعار "سيادة القطب الواحد" وزاد تطور المقاومة الأفغانية من الإرباك ومن حجم الخسائر في أوساط قوات التحالف المحتلة وكانت أهم نتائج المقاومة هي:
- سحب عدد من الدول قواتها من العراق
- أدت الخسائر البشرية الكبيرة الذي تكبدها الجيش الأمريكي إلى رفض سياسة بوش هناك وإلى نجاح الديمقراطيين الذين تبنوا شعار خروج القوات الأمريكية من العراق عنوانا لحملتهم الانتخابية.
- سقوط بلير حليف أمريكا الأساسي في بريطانيا كمقدمة لسقوط حزبه وتأكيد لسقوط سياسة المحافظين الجدد التي تبناها بلير.
- بداية تمايز في السياسة الروسية
- بداية ظهور موقف جديد في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن مع لحظ تقدم بسيط للسياسة الصينية في المجال الدولي.
- بداية لحظ تحرك شعبي أقلق الزعماء العرب حاولوا قمعه بقسوة.
إذا لعبت المقاومة العربية دورا في إرباك السياسة الأمريكية وإيقاف اندفاعاتها وفي تبديل الرأي العام العالمي بما فيه الأمريكي وأسست لبداية علاقات عالمية جديدة.
كيف نرى هذه المقاومة وكيف يتوجب العمل لتفادي عيوبها؟
- رغم التأثيرات الجدية للمقاومة على مجمل السياسة الأمريكية، إلا أننا نريد أن نحذر من بعض الظواهر الجديدة أهمها على المستوى العالمي:
- بداية ظهور يمين متطرف في أوربا؛ فرنسا بعد ألمانيا ونعتقد أن الانتخابات البريطانية قد تؤدي وهي أدت إلى إيصال اليمين الأكثر ارتباطا بأوربا
وبغض النظر على كل الاحتمالات التي يمكن إيرادها نتيجة صعود اليمين الأوربي, إلا أن الأكيد هو التأثير الخطير لصعود هذا التيار على بلدان العالم الثالث, خصوصا وأن مركز دعاية هذا التيار هو ضد الهجرة, وتبني سياسة عدائية ضد شعوب الدول الفقيرة, ويجري تركيز إعلامي كثيف لإعادة الاعتبار للشخصية الأوربية المتفوقة.
ونحن نرى أنه أصبح من المفيد والملح مناقشة هذه الظاهرة الجديدة ودراسة أسباب ظهورها والتنبيه إلى خطورتها اللاحقة.
وعلى المستوى العربي: - رغم الإرباك الذي ساد بعض الأنظمة العربية إلا أنها ما تزال قوية، وقادرة على اتخاذ خطوات تحاول فيها احتواء النتائج السياسية للمقاومة بهدف تدميرها لاحقا. وهذا ما نلاحظه ( ظاهرة أبو مازن في فلسطين – ظاهرة الحكومة اللبنانية وموقفها من مجمل نتائج حرب تموز- الاعتراف بإسرائيل من قبل القمة العربية وتسمية وفد للتفاوض معها باسم الجامعة العربية).
– الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني – محاولة الدفع نحو الاقتتال اللبناني اللبناني. هذا الواقع يتطلب منا دراسته بشكل أفضل واعتماد السياسات اللازمة للاستفادة من النتائج السياسية للمقاومة وتحويلها إلى واقع جديد قادر على تغيير الخارطة السياسية المتعفنة والكابحة لأي احتمال للتطور.
وهناك العديد من الظواهر والمفاهيم التي تتطلب منا مراجعة دقيقة وجريئة نستطيع من خلالها توسيع علاقتنا وتحديد القوى القادرة على الفعل بهدف توحيد الجهود لزيادة التأثير.
وأول ما نرغب بحثه هو ظاهرة الإرهاب: والسؤال المطروح: هل منطقتنا هي بؤرة لإنتاج الإرهاب، أم متأثرة بالإرهاب؟!
نحن نعتقد أن منطقتنا متأثرة بالارهاب، فوجود إسرائيل وتهجير شعب بكامله من أرضه هو أبشع أشكال الإرهاب الذي مورس في التاريخ، والاحتلال الأمريكي للعراق هو إرهاب الدولة الكبرى للدول الصغيرة، والحرب الاستباقية هو شعار إرهابي موجه ضد جميع الدول الصغرى.
– إن أحداث أيلول هي عمل إرهابي نفذ داخل الولايات المتحدة ومسؤولية الحكومة الأمريكية حماية مواطنيها ومؤسساتها من الاعتداءات الإرهابية وهذه ليست مسؤولية أي شعب أو حكومة أو أشخاص آخرين
– إذا إن منطقتنا تتعرض للإرهاب منذ عقود إن ما يجري هو رد فعل طبيعي لما تتعرض له منطقتنا. والحل كما نراه لا يتم عن طريق تصفية المنظمات الإرهابية كما يجري حاليا بل بتصفية أسباب الإرهاب وهي حل القضية الفلسطينية عن طريق عودة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها وإقامة الدولة الديمقراطية التي تضم العرب واليهود وكل القوميات والاثنيات والديانات التي تسكن فلسطين، وجلاء قوات الاحتلال الأمريكي عن العراق.
وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي فإن أسباب ظهور الإرهاب تعود لشدة النهب والقمع التي تتعرض لها شعوبنا العربية. وبدون حل اجتماعي ديمقراطي للواقع فإن العنف والإرهاب سيستمران وسيتطوران, ومن هنا فإن إدانة الإرهاب التي تطلقها بعض المنظمات والتي تدين فيها عمليات الدفاع عن النفس لا مبرر لها. والحل كما نؤكد ثانية هو العمل لإزالة أسبابه
الظاهرة الثانية: طبيعة المقاومة ودورنا:
بداية نرى أن كل مقاومة موجهة ضد الاحتلال وعملائه هي مقاومة وطنية ولكن إرباك قوى اليسار العربي والتيار القومي، وعدم الفاعلية التاريخية للتيار الليبرالي, فقد تصدت للمقاومة تيارات دينية ولعبت دوراً فعالا في النضال الوطني.
وهكذا فقد نهضت تيارات هي متناقضة معنا تاريخيا خضنا ضدها مرحلة صراع مريرة، إلا أن موقفها الحالي ورفضها للهيمنة الأمريكية وللاحتلال الإسرائيلي وضعنا في خندق واحد معها، بالإضافة إلى وجود تطورات داخلها دفعتها للموافقة على الديمقراطية والتعددية – حزب الله – حماس ، الجهاد الإسلامي في فلسطين، الخ.. بمعنى أن المعركة فقد صقلت أقسام منها. وهكذا تكوّن وضع جديد، يجب أن يقرأ من قبلنا على الأقل. يجب أن نؤمن صيغة للعمل المشترك بشرط أن لا يتنازل أحد منا عن أي من مبادئه. إن الوصول لصيغ للعمل المشترك تعطي المقاومة بعدها الوطني الحقيقي. واتحاد القوى يخفف من حجم الخسائر الناجم عن بعثرة جهودنا ويضاعف القدرة على الحركة ويؤدي إلى اتساع مدى النشاط. إننا نعتقد أن أقساما واسعة من رفاقنا لا زالوا يرون أن الموقف من هذه التيارات يجب ألا يتغير، أي أنهم لم يستطيعوا رؤية التطورات الجارية بعد الانهيار والتزموا بثوابت أصبحت مضرة لمجمل العمل الوطني.
الظاهرة الثالثة: بالمقابل لا زال الموقف من أنظمة الدول الوطنية السابقة كما هو تأييد ودفع نحو التحالف والتعاون مع بقاء روح ونبرة انتقادية لهذه الانظمة.
بداية نحن نرى أن هذه الأنظمة اتخذت موقف في الحرب الباردة لصالح الاتحاد السوفييتي، وقامت بإجراءات ذات طبيعة اجتماعية تقدمية مثل التأميمات والإصلاح الزراعي، وكان مفهوما عندنا اتخاذ مواقف سياسية تؤدي إلى شل قدرة الطبقات المتضررة ( الإقطاع والرأسمالية ) ولكن مع بدء عمليات التنمية كان لا بد من تأمين نظام سياسي قادر على دفع التنمية وإنجاحها. وبسبب التعددية الاقتصادية والاجتماعية كان لا بد من عكسها بتعددية سياسية, ورفع كل المحظورات عن العمل السياسي- إلا أن السلطات الحاكمة التي تنتمي إلى فئات اجتماعية برجوازية صغيرة وفلاحين متوسطين ومثقفين وضباط من أصول فلاحية لم تستطع حسب طبيعتها تأمين التعددية السياسية المطلوبة لإنجاح التنمية, رغم الشعبية التي كان يتحلى بها بعض زعمائها – عبد الناصر – بن بلا ، الخ.. إلا أن ثقتهم التاريخية بالعمل السياسي وبالنشاط الشعبي كانت ضعيفة جدا. فسيطرت على شعوب هذه الأنظمة الأجهزة الأمنية التي أنتجت طبقة برجوازية طفيلية هي أسوأ أشكال البرجوازية في التاريخ, اعتمدت على النهب في تراكم الثروة وسيطرت على مراكز القرار السياسي، وبدأت تتأقلم مع الرأسمالية العالمية ، وأنهت الصراع العربي الإسرائيلي في بلدانها (نظام السادات) وبدأت تضغط على قوى المقاومة، ولم يعد يهمها سوى السلطة.
هذه الأنظمة انتقلت من أنظمة ذات توجه وطني إلى أنظمة استبدادية معادية بطبيعتها لأي تطور اجتماعي أو ديمقراطي ، لذلك لا نستطع أن نصنفها في تركيبتها الحالية ضمن الحلفاء، والحوار حول طبيعة هذه الأنظمة يشكل أساس الصراع والاستقطاب والانقسام في الحركة السياسية والفصائل الماركسية في سوريا مثلاً. ولا بد من رؤية جديدة تنطلق من مجمل التطورات التي أثرت في هذه الأنظمة. إن الموقف من النشاط الأمريكي هام ولكنه في ظروف منطقتنا غير كافي إذا لم يقترن بنشر الديمقراطية في الداخل واتخاذ مواقف واضحة من التنمية الاجتماعية وحل مشاكل الفئات الكادحة ومن النهب. هذه الثلاثية نحن نعتمدها في تقييمنا لأي نظام وهي الموقف الوطني والديمقراطية – والموقف الاجتماعي الطبقي..
والظاهرة الأخرى تقييم واقع حركة التحرر العربية ، هل هي في أزمة أم تمر بصعوبات يمكن الخروج منها؟
هذا الحوار الجاري منذ 1967 أي منذ أربعين عاما وبعد هزيمة حزيران مباشرة لا زال موجود حتى اليوم لقد تلمست الأحزاب الشيوعية خطورة التطورات اللاحقة في ندوة الخرطوم 1970 بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد لينين ونبهت الندوة إلى خطورة سيطرة العسكرتاريا على السلطة بعد الهزيمة وفي منطقتنا جرى حوار واسع للعنوان نفسه /هل تعيش قيادة حركة التحرر في أزمة أم صعوبات/ الحزب الشيوعي اللبناني اعتبر أنها أزمة وأقدم على المقاومة وأصبح في قلب الحركة الوطنية.
قيادة الحزب الشيوعي السوري وحتى لا يغضب حلفاؤها اعتبرت أن هناك صعوبات تمر بها قيادة حركة التحرر الوطني ودخل هو في الأزمة وتبعثر الحزب ولا يزال منهكا حتى اليوم، ولا تزال قيادة حركة التحرر تعيش أزمتها, فتراجعت عن مبدأ المقاومة ولم تعد هناك فصائل مقاومة تمثل قيادة حركة التحرر القديمة، وتراجعت عن الموقف الاجتماعي وتأقلمت مع سياسة السوق العالمية إن كل ذلك أفقدها دورها.
ولأن غالبية الأحزاب الشيوعية لم تبحث في ظاهرة الأزمة وكيفية تجاوزها, والتقدم لقيادة حركة التحرر ووضع مهام محددة, فإن الأحزاب الشيوعية تأثرت كثيرا وتراجع دورها في الحياة السياسية وانحسر تأثيرها بالوسط الشعبي كل ذلك قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.
والظاهرة الأخيرة هي تأثير الانهيار على الأحزاب الشيوعية كجزء من قوى حركة التحرر. لقد حدث الانهيار والأحزاب الشيوعية تعيش أزمة حقيقية كما تحدثنا عنها في الفترة السابقة هذه الأزمة أمنت الأجواء اللازمة لتفكك بعض الأحزاب وتراجعها عن الماركسية، وعن الدور التاريخي للطبقة العاملة، وبدأت تتأقلم مع الرأسمالية، وقسم من هذه الأحزاب تبنى سياسة اقتصاد السوق متراجعا عن أفكاره ومبادئه، كما حدث عندنا في سوريا. ولم يؤد هذا التراجع سوى إلى البعثرة والانقسام والتشتت وزيادة الإرباك كما نشاهد الآن.
وهناك بعض الأحزاب الشيوعية المعارضة بدأت تقتنع وبسبب شدة القمع أن التغير في أوطانها لا يتم إلا عبر الاعتماد على الخارج وتدخله لتغيير التركيبة السياسية؛ مثل هذا الرأي تبناه الحزب الشيوعي العراقي. وانعكس في مواقف العديد من الشيوعيين العرب, وكان له صدى واسعا عندنا في سورية أيضا.
لقد أدى هذا الموقف إلى إرباك شديد داخل الأحزاب المعنية حيث فقدت وظيفتها الاجتماعية ودورها الوطني, فلم يخفف موقف الحزب الشيوعي العراقي من تفجير الاقتتال المذهبي وقتل مليون عراقي وجرح /3/ ملايين وتشريد /4/ ملايين وانحسر دوره في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية فقط، بل أثر سلبا على مجمل الأحزاب الشيوعية في المنطقة. وبكل الأحوال فإن ما وصل إليه الوضع في العراق أربك ما يمكن تسميتة تيار الاعتماد على الخارج وبعثرته في المنطقة العربية ومنها بلادنا, وموقف الحزب الشيوعي العراقي أربكنا جميعا وأخّر القدرة على العودة للتأثير الإيجابي داخل حركة التحرر العربي. وعلينا أن نعرض موقفنا من مسألة العلاقة مع الخارج.
نحن نعتقد أن مهمتنا هي إنضاج الظروف الموضوعية للتغير الديمقراطي السلمي الذي لن يتأمن دون وجود شرط دولي مناسب. وهكذا فالعلاقة مع الخارج ليست مهملة عندنا تاريخيا، ولكن للاستفادة منه وليس الاعتماد الكلي عليه كما انتشر مؤخرا. ثم تحديد من هو الخارج، لأننا لا نزال نرى أننا نعيش علاقة تناقضية مع الإمبريالية الأمريكية والعالمية ومع الحركة الصهيونية وإسرائيل ونشكل بديلا تاريخيا لهما, والعلاقة معهما لا تعطي أي مبرر تاريخي لاستمرارنا. وهذا ما يدفعنا للمشاركة في تشكيل تيار أممي واسع مقاوم لنشاطات الإمبريالية وقادر على التأثير الفعال في مجمل السياسة العالمية.
أثر انهيار الاتحاد السوفييتي علينا كثيرا من جميع النواحي الفكرية, والسياسية, والاجتماعية وحتى الوطنية وعلينا أن نستعيد دورنا في هذه المجالات جميعها.
على الجبهة الإيديولوجية، نلاحظ
1"- هجوم كبير على الايدولوجيا من قبل أجهزة الإعلام الأمريكية وتأثر عدد من المثقفين الماركسيين والتيارات الماركسية بهذا الهجوم ورغم أن الإعلام الأمريكي يعتمد في تنفيذ سياسته على نشر الايدولوجيا الدينية ويقدم بوش كمبشر ديني كلفه الرب بتنفيذ مهام محددة، واعتماد الإعلام ومجمل السياسة الأمريكية على هذه الإيديولوجيا وإشاعة ما يسمى بالعودة للحروب الصليبية كما وصفها بوش، وتبرير الحروب الاستباقية والتعدي على الحريات العامة حتى داخل الولايات المتحدة واعتقال ألوف الأشخاص من كل دول العالم دون الاستئذان من أحد واعتقالهم لسنوات دون تحقيق ومحاكمة, وافتتاح معتقلات سرية في العديد من دول العالم وحجز آلاف المعتقلين دون ذكر أسمائهم وأماكن اعتقالهم كما تقضي كل الشرائع الحقوقية في العالم، كل هذه الإرتكابات تمت تحت شعار الحروب ضد الإرهاب. إذا فإن اللاإيديولوجيا هي إيديولوجيا كما أكد لينين أما نحن الماركسيين فقد تأثر قسما منا بالحملة الإعلامية، وتراجع نشاطنا الفكري إلى أدنى درجاته فلم تعد توجد نشرة أو مجلة فكرية ماركسية في سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر مثلا سوى مجلتنا- الفجر الجديد- التي لم يزد عمرها عن العام، رغم أنه في هذه البلدان كانت تصدر مجلات فكرية تركت تأثيرات كبيرة في الحياة الفكرية العربية.
وأخيرا نعرض رأينا في عدد من القضايا المثارة في ورقة العمل المقدمة لندوتنا باختصار:
1"- نحن لدينا ثوابت وطنية لا يمكن تجاوزها أولها رفض الاعتداء على أية دولة وخصوصا العدوان العسكري والتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
2"- دعم مقاومة الشعوب للاحتلال ولأي تدخل وتبرير كل أشكال المقاومة وتقديم كل أشكال الدعم اللازم لانتصارها .
3"- حق الشعوب في امتلاك الطاقة النووية واستخدامها للنشاط السلمي. وتدمير الأسلحة النووية وكافة أسلحة الدمار الشامل المنتشرة في العالم.
وحتى يتم ذلك نؤيد حق امتلاك الشعوب والدول الصغيرة المهددة هذه الأسلحة لتأمين شيء من التوازن يمنع أي تعدي عليها.
4"- اعتبار أن الإمبريالية الأمريكية هي السبب الرئيسي لكل آلام الشعوب ولكل المشاكل في المنطقة واعتبار أن الاعتراف بأي عدوان لها في المنطقة أو على أي من دولها لا يخدم مصالح شعوبنا ويحقق الخيانة الوطنية .
5"- حق البشرية في اقتسام الثروة العالمية والمطالبة بإعادة توزيعها بشكل عادل بين الدول الفقيرة المنهوبة والدول الغنية وواجب الدول الغنية تقديم المساعدة للتخفيف من الويلات الناجمة عن الفقر مثل الأوبئة والأمراض والتخلف ، الخ...
6"- حق الحياة عن طريق الحفاظ على البيئة و حمايتها من الانهيار الناجم عن الصناعات الخطيرة، والانبعاث الكربوني.

مداخلة ألقيت في ندوة نظمها حزب العمل الاشتراكي التركي في اسطنبول
يومي 10- 11 / حزيران / 2007

















في أزمة الفكر الاشتراكي
عمران كيالي

بداية ، أعتقد أن الأزمة هي حالـة من عدم التطابق بيــن الفكرة و الواقع ، و كلما ازدادت الفكرة مثالية كلما استحال انعكاسها على الواقع ( أو تطبيقها )
تم تحميل الاشتراكية ، من حيث هي فكرة ، الكثير من المثاليات ، هذا التحميل جاءها من قصور معتنقيها أنفسهم .
في لقاء تم في (القاهرة – منشية البكري) ، بين القائد الراحل جمال عبد الناصر مع بعض الشخصيات ، إبان الوحدة بين الشعبين السوري و المصري، توجه الرئيس بالحديث إلى سامي الجندي ( رحمه الله ) قائلا ً : دي الوحدة يا ابني عايزه وحدويين و الاشتراكية عايزه اشتراكيين .
و كما أن آليات عمل الوحدة بين الشعبين السوري و المصري كانت غير منسجمة مع الواقع الموضوعي ، و اعتمدت على عواطف جماهير متحمسة للوحدة أكثر من اعتمادها على العلم و الواقع و الظروف القائمة ، حيث أن أي إجراء لا يراعي الزمان و المكان و الظرف الموضوعي سوف يدخل في حالة تعارض ، استعصاء ، و تراكم هذه ( الاستعصاء آت ) يؤدي بلا شك إلى أزمة .
الاشـــــتراكيـون أيضاً ، في ابتعــادهم عن التفكيـر العـلمي ، الموضـوعي، و لأكثر من مرة ، و في أكثر من مكان ، أوصلوا الفكر الاشتراكي إلى حالة من التعارض مع الواقع ، مما أخلى الساحة لتيارات أخرى أكثرها غيبي ، عدمي
ما العمل ؟
حتى نجيب على هذا السؤال لا بد من معرفة أسباب التراجع .
أعتقد أن بداية الخلل كانت مع قصورنا الفادح في فهم الاشــتراكيـة العلمية ( حصراً العلمية ) إذ أن أي اشتراكية غير علمية ستدخلنا لاحقاً في اشتباك شكلاني ( غير جوهري ) و تعارض مع الواقع و الطبيعة و مع الطبيعة الإنسانية أيضاً .
هذا القصور أدى إلى قصور آخر هو اللجوء إلى آليات عمل لا تتناسب مطلقاً مع جوهر الفكر الاشتراكي ، و بالتالي أخطاء عديدة بالمنهج ، فبالإضافة إلى عدم مراعاة الظروف الموضوعية لكل بلد ( أو مجتمع ) تم استيراد رؤى دون تدقيق ، و دون أن نسأل أنفسنا هل هذه الرؤى تتناسب مع هذا الواقع المشغول عليه أم لا ؟
من هذه الأخطاء المنهجية:
- اعتراف بعض الأحزاب الشيوعية بدولة إسرائيل مع علمها بأنها دولة صهيونية ، رجعية ، عنصرية ، و جزء لا يتجزأ و أساسي من النظام الرأسمالي العالمي .
- القبول بحل الأحزاب الشيوعية لنفسها و تسليم قيادة حركات التحرر إلى أحزاب برجوازية صغيرة؛ أي التخلي عن الدور الطليعي .
- الترويج لرأسمالية الدولة ، و طريق التطور اللّارأسمالي .
- التهجم على الثورة الاشتراكية في الصين .
- التدخل العسكري من قبل الاتحاد السوفييتي في بعض الدول الأخرى مثل تشيكوسلوفاكيا ، أفغانستان ، أثيوبيا ، مما سمح بالحديث عن إمبريالية سوفييتية .
- سيادة حكم الحزب الواحد ( إلغاء التعددية ) مما أدى إلى تشويه الحياة السياسية ، و مهد لظهور الاستبداد ( رومانيا و غيرها )
- انتشار ظاهرة التملق و التسلق و الرشوة بين بعض القياديين في الأحزاب الشيوعية ، مما سهل تغلغل النفوذ الصهيوني إلى قيادة هذه الأحزاب
- الإهمال الشديد لبناء الإنسان الشيوعي ( حسب رأي الأمين العام لحزب البلاشفة لعموم الاتحاد السوفييتي نينا أندرييفا ) و أنا أعتقد أن عملية بناء الإنسان الشيوعي لم تأخذ الاهتمام الكافي الذي يتناسب مع ضرورتها ، بل أن صفات ديمتروف للكادر الشيوعي أهملت عن قصد في الكثير من الأماكن .
- الهيمنة على النقابات و إفراغها من محتواها الطبقي , و تحويلها إلى جهاز ملحق بالدولة ( النظام ) ، مما أفقدها دورها في النضال الطبقي ، و شل قدرتها على الدفاع عن مصالح المنتجين في المجتمع ، و هي ( النقابات ) المدرسة التي يتعلم فيها العمال دروس النضال المطلبي و السياسي .
- غالباً ما تحولت الاشتراكية العلمية إلي نصوص مقدسة ، و القادة إلى أصنام ، تأمل هذه العبارة ( إن مذهب ماركس كلـّي القدرة لأنه صحيح ) !!!
- لم يجر التركيز على الأفكار الجوهرية ، الحلقات الأساسية ، أي أقل ما يمكن من الثوابت .
- تجاهل مساهمات بعض المفكرين الماركسيين أمثال غرامشي ، بوخارين ، الخ...
- إن المشاركة في أشد البرلمانات رجعية ( حسب لينين ) لا تعني أبداً التخلي عن النضال المطلبي و السياسي و تحويل الشيوعيين إلى عرضحالجية . و العمل في ظروف ديمقراطية لا يعني التخلي عن التنظيم السري و عن هدف إقامة سلطة المنتجين .
- إهمال النضال الديمقراطي ، و إلغائه أحياناً ، كأحد مهام الشيوعيين ، مع أنه لا يقل أهمية عن النضال من أجل الاشـتراكية ( حسب ماركس )
لا شك بأن الوقت قد حان من أجل إعادة قراءة ماركس ، خاصة و أن نظام الاحتكارات قد وصل في أزمته إلى مرحلة خطرة تدفعه إلى مغامرات حربية ضد شعوب الأرض .
إعادة القراءة يجب أن تكون بعد نزع القداسة عن الأفكار و الأشخاص، قراءة نقدية متمفصلة مع الأرض ، الواقع ، دون اللجوء إلى مثاليات ( النوايا الطيبة لوحدها لا تكفي )
إعادة القراءة تؤدي بعد قليل إلى تدقيق برامج الحركة الشيوعية ، و تؤدي إلى تغيير في آليات عملها .
أعتقد الآن ، و بعد أن تراكمت لدى الحركة الشيوعية خبرات و تجارب مائة عام أو أكثر ، و بعد التطورات الهائلة التي حصلت في مجال الاتصالات ، و التقنية العالية التي عمـّـت جميع مناحي الحياة ، أصبح من السهل على الحركة الشيوعية إجراء هذه المراجعة و التدقيق ، بشكل متزامن مع عملية التوحيد الجارية في الأحزاب الشيوعية و العمالية و اليسار بشكل عام ، بعد الإقرار بضرورة الاختلاف في الرأي أثناء عملية التوحيد ، و تغيـّـر طبيعة العاملين المنتجين ، أي توسـّع جبهة المستفيدين من الثورة الاشتراكية .


حلب: 12 حزيران 2008


























الليبرالية الجديدة وتعقيدات المسألة الديمقراطية
توفيق عمران

يعتبر الكثير من المفكرين أن تاريخ البشرية هو تأكيد لكون الاقتصاد والسياسة يشكلان في الحياة الاجتماعية كلاً لا يتجزأ، ومن العبث استخراج أحدهما من الآخر، وإن الترابط الاجتماعي في كافة الثقافات المتطورة ليس تطوراً أساسياً بحتاً ولا ترابطاً اقتصادياً بحتاً بل هو كل اقتصادي ـ سياسي ـ أيديولوجي ـ جمالي متكامل ومن هنا فإن رأي الكثير من النخب السياسية ذوي الآراء اليسارية للبحث عن جذور الظاهرات السياسية في الاقتصاد ليس فعل معرفة بل هو تعبير عن إرادةٍ أي عدم معرفة القوانين المحددة للتفاعل بين الاقتصاد والسياسة وهذا يتيح استنتاجات ليست بريئة ولا دقيقة من وجهة المصالح الطبقية.
في مثل هذه النظرة تبرز بوضوح المواقف الأيديولوجية الأساسية للمدافعين عن الرأسمالية العالمية فيما يتعلق التفاعل بين الاقتصاد والسياسة. حيث أن عدم رؤية ومعرفة القوانين المحركة لهذا التفاعل ملائم جداً برفع المسؤولية عن الديكتاتوريات إزاء ما تقوم به من جرائم ومخالفات وكذلك من أجل الحصول على سند فكري في معرض القيام بمحاولات الافتراء على القوى اليسارية الحقيقية ومثلها الاجتماعية العليا، وهي تفكير اقتصادي خاطئ عن رؤية أهمية كافة الظروف والقوى المحركة للتطور الاجتماعي والمنتمية إلى حقل السياسة.
وبالنظر لكون قضية الديمقراطية تشكل اليوم مكانة محورية في المناقشات الفكرية والسياسية وعنواناً نتصدر مهام وبرامج القوى السياسية كان لزاماً علينا أن نحدد جانباً من معاني الديمقراطية الملتبس في إطار علاقتها بالليبرالية الجديدة وتعقيد الواقع الموضوعي بهذه العلاقة.
في وقتنا الراهن مازالت تحظى فكرة لينين باهتمام كبير وبمزيد من التأكيد القاطع بأن (الامبريالية هي رفض للديمقراطية عموماً ورفض للديمقراطية بأكملها) التي تستند إلى التحليل العلمي والدقيق لجوهر الامبريالية المبني على الرأسمالية الاحتكارية ذات السياسة الرجعية القائمة على استغلال الشعوب وتدميرها.
إن الرأسمالية في الطور الامبريالي من التطور ترفض الديمقراطية الاقتصادية والسياسية وترفضها حتى حين تنتحل ظاهرياً دور المدافع عنها، وبالتالي فإنها تهدد الديمقراطية بالهلاك وفي العمق حيث تقوم بعمليات بشديد وتقطيع للصفات الديمقراطية في جملة من مجالات كيان الدولة والحياة الاجتماعية. وذلك عن طريق توسيع حقوق هيئات السلطة العليا ولا سيما التنفيذية والحد بعض الشيء من حرية الصحافة والعودة إلى الوراء بنزعة توسيع المنافذ المفضية إلى مؤسسات التعليم العالي والثقافة وما إلى ذلك وتعتبر أن إنقاذ الديمقراطية في مصادرتها تدريجياً.
وعلى الرغم من كل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها النظام الرأسمالي (كالبطالة والتضخم والانحلال الأخلاقي وحتى بعض مظاهر التأزم في الديمقراطية) فإنهم يبررون ذلك بأن قيمتها الحقيقية (أي الديمقراطية) تتجلى فقط بشكل (الديمقراطية التمثيلية) أي (البرلمانية) وعليه فالاعتراض على الديمقراطية هو اعتراض على الرأسمالية، كما أن النزوع نحو تقليص الديمقراطية يجري في ظل التناقض الاجتماعي الناشئ عن تسلط الاحتكارات وأزماتها الداخلية والخارجية المستعصية والتي وصفها لينين (بأنه تناحر بين الامبريالية الرافضة للديمقراطية والجماهير التي تتوق لها) وبالتالي فإنها تمارس دور حفار القبور لها. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإنها تسعى لتأخذ دور مولد الطموحات الديمقراطية للجماهير.
من هنا يتجلى الدور والمفعول الجدي الذي وضع مؤسسو الماركسية اليد عليه في صيرورة تمركز وتمحور رأس المال وهو أن هذا إذ يشدد سيطرته إنما يلد وينظم تلك القوى الاجتماعية. وبالتالي يوسع حجم النزاع الاجتماعي والسياسي بين القمة الرأسمالية وبين باقي طبقات وفئات المجتمع التي ترى المصلحة في الذود عن الديمقراطية الحقيقة التي تعبر حقيقة عن مصالح الطبقات الاجتماعية وليس عن ديمقراطية رأس المال والقوى الاحتكارية.
إن هذه التطورات في البنية الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية المعاصرة المعولمة تطرح قدراً غير قليل من القضايا الجديدة المرتبطة بموقع وتكتل القوى الاجتماعية في النضال من أجل الديمقراطية ولذا ليس من المصادفات أن تكون هذه القضايا محط اهتمام القوى والنخب السياسية وفي مسار أبحاثها النظرية والسياسية مهتمة بدورها والقضايا المتعلقة بها وآمالها في التغيير إلى مجتمعات جديدة ووضع حد لتسلط الديكتاتوريات الكبير وتنفيذ التحولات السياسية والاقتصادية التي ستوفر أكثر الظروف ملاءمة لمواصلة عملية النضال من أجل هذا التطور.
إن توسع جبهة القوى الديمقراطية يعتبر عاملاً عظيم الأهمية بمساهمة أوسع القوى المتباينة اجتماعياً يعد بالنسبة لها مدرسة ضرورية للخبرة الثقافية والسياسية وطريقة فعالة لتمكينها من إدراك مصالحها الطبقية ومن التحديد الدقيق لمواقفها في النزاع الجذري بين قوى صف العمل وقوى الرأسمالية.
إن تشوه المفاهيم الديمقراطية والتي تسوغها دوائر رأس المال العالمية تحولها إلى مفاهيم مجردة غير محددة لا طبقياً ولا اجتماعياً ولا وطنياً ومنها (ديمقراطية المكونات) التي أثارت لعاب الكثير من القوى والنخب السياسية في بلدان المحور وفي بلدنا بالتحديد.
إن الفهم الليبرالي الجديد لديمقراطية المكونات والتبشيرية والعمل على آليات تحققه فكرياً وسياسياً واقتصادياً لا يختلف بالكثير عن فهم النظم الاستبدادية والرأسمالية له ويدعمها بكل الوسائل والإمكانات لتسويقه.
تعتبر الديمقراطية فكرة جديدة في الشرق جاءت على أعتاب الحرب الباردة وهي تفرض نفسها اليوم على أنها الشكل الطبيعي للتنظيم السياسي لحداثة يعتبر اقتصاد السوق الرأسمالي شكلها الاقتصادي والعولمة تعبيرها الثقافي. ومهما كانت هذه الفكرة مطمئنة لبعض من النخب السياسية فإنها من الخفة وتعقيد الواقع ما يثير القلق. فالسوق الاقتصادية المفتوحة والتنافسية لا ترى هويتها في الديمقراطية أكثر مما يشكل اقتصاد السوق مجتمعاً صناعياً متطوراً.
إن منهجاً سياسياً واقتصادياً مفتوحاً يشكل الشرط اللازم لكنه غير كاف للديمقراطية. فتحديد طبيعة السلطة والاستجابة لطلبات الأغلبية وتحقيق الضمانات الدستورية والقانونية للتطلعات الفردية والجماعية، تشكل شروطاً لازمة لتحقيقها وهذا يعني غياب كل أشكال القهر والقسر ووجود تلاحم اجتماعي ووعي بالانتماء إلى مجموعة مترابطة ثقافياً وتاريخياً وجغرافياً.
وإذا كانت الأنماط الديمقراطية قد شهدت تحققها في بلدان العالم الرأسمالي أو بلدان أخرى في حديقتها الخلفية فإنها قد صبغت تعبيراتها السياسية بأشكال ليبرالية متعددة أخذت على عاتقها تحقيق الديمقراطية بالطريقة والأسلوب الذي تراه مناسباً لها ولكنها جميعها جاءت كنتيجة طبيعية لتراكم فكري وثقافي وسياسي واقتصادي هائل عاشته واختلطت به وأنتجت مستوى يصح لها وحدها دون غيرها ولا يمكن تحقيقه في بلدان ذات أنماط اقتصادية واجتماعية مختلفة.
أما في بلدان العالم الثالث والبلدان النامية والمتخلفة فإن الأنماط الليبرالية وتعبيرها الديمقراطي ما زالت تعيش مراحل ضعف كبيرة ومعقدة للأسباب التالية:
1- ليس لليبرالية الجديدة لا إرث تاريخي ثقافي واقتصادي ولا أنتجت تراكماً فكرياً وسياسياً يمكنها من الاعتماد عليه لتحقيق أحد الأنماط الديمقراطية.
2- إن الليبرالية الجديدة تضحي اليوم بكل شيء من أجل تحديد السلطة وتحويلها إلى سلطة أمنية مهمتها حماية الامتيازات الاقتصادية وإمبراطوريات المال ومنتجةً ثقافية لسوق وفكر الليبرالية باعتبارها مالكة لكل أجهزة الدولة ومؤسساتها الاجتماعية والثقافية والإعلامية.
3- إن نظرة الليبرالية الجديدة إلى المجتمعات باعتبارها سوق للمضاربات قد تجعل الإمبراطوريات المالية تهيمن وتتلاعب ببقية المجتمع عبر المفاسد الاستهلاكية والخدمية.
إن مقارنة بسيطة بين المفهوم الليبرالي الجديد للديمقراطية وفهم النظم الاستبدادية لها قد يقود إلى رسم صورة واضحة للمنحى الديمقراطي المرسوم والذي تتماهى فيه هذه الليبرالية مع نظم التسلط والاستبداد. وهذا التطور قد يقود إلى تحديد المخاطر المترتبة على الديمقراطية في ظل وجود مؤسسات أمنية وعسكرية تمتلكها هذه الأنظمة وقد تقود في لحظة تحديد السلطة وتطور فهم الديمقراطية إلى الانقلاب على هذه العملية الديمقراطية بفعل قوة هذه المؤسسات وتناقض مصالحها المباشرة مع التطلعات الحقيقية لقوى المجتمع وقواه السياسية من خطر الديمقراطية على هذه المؤسسات، لأن فعل الديمقراطية في تحديد الفعل السياسي قد يقود إلى تحطيم المؤسسات الأمنية والعسكرية، أما الخطر الآخر الذي يهدد الديمقراطية فهو الخطر القادم من قاع المجتمع والمتمثل بالخطر الأصولي والديني والطائفي الذي يشكل المجتمع وشرائح كبيرة منه كتلة قوية لهذه التوجهات وتعارض مصالحها وبالتالي يمكن استخدامها في تحطيم أي فعل ديمقراطي لأنه يختلف معها في المسائل الجوهرية المطروحة فكرياً وثقافياً وأخلاقياً واقتصادياً.
هذان العاملان يؤججهما دور العامل الخارجي السلبي الغير ديمقراطي وإن كان رافعاً لشعار الديمقراطية.
فكثيراً ما تتعارض مصالحه عامة بفعل العامل الديمقراطي ولذلك ينقلب بصورة فعلية على كل ما هو مخالف لمصالحه وعامل مدمر لبنى المجتمع وقواه التي تفعل فعلها كالثقافة والتاريخ والحضارة وغيرها.
وانطلاقاً من ذلك فإننا نعتبر أن الفهم الليبرالي الجديد للمسالة الديمقراطية وبالتحديد "ديمقراطية المكونات" وتناغمها مع حالة الاستبداد القائمة والذي يدفعها قوة رأس المال والامتيازات الاحتكارية إلى تحديد سلطة تعبر بوضوح لا يقبل مجالاً للشك عن توجهات لصالح اقتصاد السوق الرأسمالي وليس الاجتماعي.
إن هذا التوجه لا يفيد في العملية الديمقراطية شيئاً ولكنه يشكل خطراً حقيقياً على مستوى الفعل الجماهيري والسياسي.
إن هذا يفترض رؤية جديدة ودقيقة واستخدام المنهج العلمي في جدل فهم المسالة الديمقراطية وارتباطها بالمسألة الوطنية وذلك لأهمية هاتين المسالتين من الناحية التاريخية وتعقيداتها وخطورتها وتأثيرها على كل شيء في العمل السياسي الوطني ولأنها تعتبر واحدة من الأزمات الأكثر خطورة التي تجمع بصورة جدلية أو اشتراطيه كل منها في حالة تأزم وتعقيد داخل مجتمعاتنا...إنها الأزمنة المتعلقة بالمسألة الوطنية وحالة الانتقال الديمقراطي وما يرتبط بها من وسائل ومسارات مرتبطة بالمسالة الوطنية وعلاقة وتأثر ذلك بالعامل الخارجي. إن ذلك يدحض ثقافة الليبرالية الجديدة وثقافتها الجديدة بـ"ديمقراطية المكونات".


فزيولوجيا النمل في القرآن
فَسْرُ عبارة أدو نيس: "نملة تطعم جيش الاسكندر من حليبها"!

نايف سلّوم
ذكر القرآن النمل مرة واحدة في سورة النمل: (حتى إذا أتوا على وادي النّمل قالت نملةٌ يا أيها النّملُ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمانُ وجنودُهُ وهم لا يشعرون )
والقول يحتاج إلى لسان ، وحسب الفزيولوجيا "العلمية" الحديثة، وحسب التشريح "العلمي" الحديث فليس للنمل لسان ناطق . لكن لا تتعجل ، وهدئ من روعك أيها القارئ فالأمر أبعد من ذلك إذا ما علمنا لسان العرب، بلاغتهم، ومجازاتهم. ونبدأ بتعريف القول: "القول: ؛ الكلام، أو كل لفظ مذل به اللسان، تاماً أو ناقصاً .. القول في الخير والقال والقيل و القالة في الشر" ويقول ابن هشام : " واو؛ ضمير الذكور نحو "الرجال قاموا" وهي اسم، وقال الأخفش والمازني: حرف، والفاعل مستتر ، وقد تستعمل لغير العقلاء إذا نُزّلوا منزلتهم، نحو قوله تعالى: (يأيها النّمل ادخلوا مساكنكم ) وذلك لتوجيه الخطاب إليهم"
والنّمُل: واحدته نَمْلة ، وقد تُضم الميم ، والجمع نِمال . وطعام مَنمول: أصابه النمل.. والنَّملة: النميمة وهو نَمِل، ونامل ومُنْمِل: نَمّام وفيه نملة: فيه كذب .. وامرأة مُنمِّلة: لا تستقرّ في مكان . ورجلٌ نمِلٌ: خفيف الأصابع لا يرى شيئاً إلا عمله، أو رجل حاذق. وتنمَّلوا : تحركوا ودخل بعضهم في بعض. والنَّملان: الإشراف على الشيء ، والمُنمول: اللسان.. والمُناملة : مشية المقيّد"
وقد أختلف في نملة سليمان هل هي أنثى أم ذكر : "نملة سليمان عليه السلام أنثى لقوله تعالى: (قالت نملة) لا لقوله نملة لأن التاء [المربوطة في نملة] للوحدة لا للتأنيث . قلت وفي "الحيوان" [للجاحظ] ما نصّه: عن (قتادة) أنه دخل الكوفة وأنه اجتمع عليه ناس ، فقال: سلوا عما شئتم. وكان (أبو حنيفة) حاضراً وهو غلام حدث. فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى، فسألوه، فأفحم، فقال أبو حنيفة كانت أنثى فقيل له كيف عرفت ذلك . فقال: من قوله تعالى: (قالت) ولو كانت ذكراً لقال: قال نملة ، لأن مثل الحمامة والشاة ، في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينها بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ".. " واعترضه أبو حيان التوحيدي؛ وحاصل اعتراضه أن لحوق التاء في قالت لا يدلّ على أنها مؤنثة ، لأن نملة ممن لا يتميز فيها المذكر من المؤنث.." ويقول الزمخشري في تفسيره : (حتى إذا أتوا على وادي النمل ): "قيل: هو واد بالشام كثير النمل . فإن قلت لم عدّي [الفعل] (أتوا ) بـ (على) ؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما؛ أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء [على] ، كما قال أبو الطيِّب المتنبي:
فلشُدَّ ما جاوزت قدرك صاعداً ولَشُدَّ ما قربت عليك الأنجم . لمّا كان قرباً من فوق.
والثاني [الوجه الثاني] أتى على الشيء ؛ إذا أنفذه وبلغ آخره ؛ كأنهم أرادوا [أي سليمان وجنوده] أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يُخاف حطمهم . وقرئ: قالت نملة يا أيها النَُّمُل ، بضم الميم وبضم النون والميم [أي: النَّمُل، و النُّمُل]، وكأن النَّمُل بوزن الرَّجُل، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم "السَّبُع في السَّبْع" . "
".. قيل : كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس" قوله تتكاوس في الصحاح : كوسته على رأسه تكويساً، أي قلبته. وكاس هو يكوس : إذا فعل ذلك . وكاس البعير: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. وهذا يذكرنا بعقلة الدابة : وقولهم للدية عقل والأصل أن الإبل كانت تجمع وتعقل بفناء ولي المقتول فسميّت الديّة عقلاً" وعكل فلان : حبسه، أو صرعه وقول أبي بكر: لو منعوني عقالاً "
ولكن ما علاقة العقل بالنمل؟ لنستمع إلى حكاية صاحب السفرة التي يرويها محي الدين بن عربي، يقول: " أما حكاية "صاحب السُّفرة" فهي أن شيخاً من المشايخ جاءه أضياف ؛ فأمر تلميذه أن يأتيه بسفرة الطعام، فأبطأ عليه . فسأله : "ما أبطأ بك ؟" فقال: "وجدت النمل على السفرة، فلم أرى من الفتوة أن أخرجهم؛ فتربَّصت حتى خرجوا من نفوسهم" فقال له الشيخ : "لقد دقّقت!" فجعل هذا الفعل من تدقيق باب الفتوة" ونعم ما قال ونعم ما فاته!"
الضّيف للواحد والجميع ، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان، وضافت تضيف: حاضت (أنثى) . وضيفته: نزلت عليه ضيفاً. والضّيف: فرس من نسل الحرون . والضِّف بالكسر: الجنْب. والمَضيفة: وبالضم (المُضيفة) الهَمّ والحزن. وضاف: مال. وأضفته: أملته وأضفته إليه ألجأته، وأضفته منه : أشفقت، وحذّرت، وعدوت، وأسرعت وفررت وأشرفت .. والمستضيف: المستغيث"
"فلو قال أحد لهذا الشيخ : "كيف تشهد له بالتدقيق في الفتوة - على جهة المدح- والأضياف متألمون بالتأخير والانتظار، ومراعاة الأضياف أولى من مراعاة النمل ؟" فإن قال الشيخ: "النمل أقرب إلى الله ، من حيث طاعتهم لله ، من الإنسان لما يوجد فيه من المخالفة وكراهة بعض الأمور التي هي غير مستلذة " قلنا: وجلد الإنسان ، وشعره ، وبشره (كل ذلك) ناطق بتسبيح الله تعالى كالنمل، ولهذا تشهد يوم القيامة على النفس الناطقة ، الكافرة الجاحدة" أي أن مراعاة متطلبات الحرص والكسب كمراعاة متطلبات العناية بالشعر والبشرة والجلد ، وكما يستهلك الحرص والكسب وقتاً على حساب النفس كذلك العناية بالبشرة والجلد والشعر . وعلاقة النفس بهذه الملحقات والأعضاء كعلاقة العقل بالحرص والكسب يكون الاعتناء بها على حساب النفس ولكن النفس مسؤولة أيضاً عن هذه "الأعمال" ، وشهادة هذه الملحقات والأعمال والأعضاء على النفس؛ يعني أن شكل حضورها يشهد على حالات النفس في النطق، والكفر والجحود بما يخص الإعراب عن حقيقة الأمور.
يقول ابن عربي: "والفتوة (هي) العمل في حق الغير إيثاراً على حق نفسه .. والفتى هو الماشي في الأمر بأمر غيره ، لا بأمر نفسه وهو الماشي في حق غيره لا في حق نفسه ؛ لكن بأمر ربه فهما طرفان " والطرفان هما النفس وحقوق النفس من جهة ، والأمر ؛ أمر رب الإنسان ؛ أي أمر حقيقة شرطه وعصره. والفتى هو من ينزّه نفسه ويعمل بأمر حقيقة شرطه وعصره ، ويحافظ في نفس الوقت على نفسه وعلى أعضائه وملحقاته من شعر وبشرة وجلد ومتعة النفس وراحتها . لكن الفتى من يهيمن عنده العمل في أمر حقيقة عصره وشرطه على حق نفسه عليه.. وأضيف: هما طرفان؛ أي حق نفسه بأمر ربه ، وحق غيره بأمر ربه. وهنا الإنسان الفرد معرّف مقابل الفرد الآخر ؛ أي نفس مقابل بشرة وجلد وشعر. وهي علاقة تبادلية أفقية كعلاقة سلعة تضع نفسها مقابل سلعة أخرى . السلعة الأولى لها امتياز أنها قيمة نسبية (نفس) والسلعة الأخرى لها امتياز المعادل لهذه القيمة وهذا المعادل له جسد بضاعة (سترة أو قميص) تماماً كأن له بشرة وشعر وجلد. إنها تتقابل عند التبادل السِّلعي في السوق كالأفراد يتقابلون أثناء التعامل الاجتماعي. ولكن ما هي حقيقة القيمة؛ قيمة السلعة، بمعنى آخر ، ما هي حقيقة الإنسان الفرد؟ فإذا قلنا أن حقيقة السلعة الأولى هي جسد السلعة المقابلة وصلنا إلى تكرار فارغ: قيمة السلعة هي جسد السلعة؟! ولكن ما قيمة ورقة نقود ذات بشرة متجعدة مهترئة من الناحية الجسدية؟ وما قيمة هذه البشرة المتعبة لدى فرد من أفراد قبيلة لا تعرف البيع والشراء؟ الواضح أن حقيقة النقود في "مكان" أعمق ، تماماً كحقيقة الفرد ؛ فهي ليست في الفرد المقابل ولكن في "مكان أعمق" وهنا تظهر الفتوة على أنها مرحلة انتقالية في طريق معرفة حقيقة الإنسان ، تماماً كمثل القيمة النسبية للسلعة كمدخل لمعرفة ماهية القيمة، لكن يتوجب تجاوز العقبة الجسدية أو الحسية لمعرفة حقيقتها . وكما أن الجماعة البشرية تزيل نفس الفرد وتظهر على صورته كنفس فردية ، كذلك الأمر في العلاقات الاجتماعية السلعية التي تظهر في السوق على شكل أشياء حسية فيزيائية اجتماعية ، أو علاقات إنسانية مشيّأة ومغتربة.
يقول ابن عربي : "فالعارف إذا أقيم في مقام أداء الحقوق إلى أصحابها ، وتعينت عليه لأصحابها ، لم يتمكن له أن يتفتّى مطلقاً ، فيؤثر الغير على الإطلاق. فإنه بأداء حق نفسه يبدأ ؛ وإذا بدأ به قدح في شطر الفتوة [التي هي الإيثار] ؛ وإذا لم يبدأ به قدح في الطرف الآخر من الفتوة الذي هو امتثال أمر الله"
نلاحظ في الفتوة التناقض الحاصل في النفس بين طرف الذاتية من جهة وطرف الموضوعية من الجهة الأخرى، فهما طرفان في النفس. وهذا التناقض في النفس سوف يتم تجاوزه بالارتفاع إلى العقل في النفس ؛ أي موضوعية الأمر الحاصل في النفس بالعقل (نفس الأمر)، أو الحاصل بالفعل والممارسة والعمل . بكلام آخر: رفع هذا التناقض إلى مقام العقل في النفس أو إلى شخصه.
يقول ابن عربي : "سورة النمل، بسم الله الرحمن الرحيم: طس أي (تلك) الصفات العظيمة المذكورة في طسم التي أصلها الطهارة من صفات النفس وسلامة الاستعداد في الأصل عن النقص هي آيات القرآن ، أي العقل القرآني وهو الاستعداد المحمديّ الجامع لجميع الكمالات باطناً فإذا برزت وظهرت إلى الفعل في القيامة الكبرى كانت فرقاناً وقوله (هدى وبشرى) قائم مقام الميم (م) في (طسم) لأن الهداية إلى الحق والبشارة لا يكونان إلا بعد الكمال العلمي . إذ الهداية للغير التي هي التكميل ملزومة العلم الذي هو الكمال فيحصل الاكتفاء بها عنه وهما حالان معمولان لتلك المشار بها إلى الصفات المذكورة في (طسم) كما ذكر، أي هادياً ومبشراً للمؤمنين الموقنين بعلم التوحيد الذين يقيمون صلاة الحضور والمراقبة ويؤتون الزكوة عن صفات النفوس أي يزكون بالتجريد والمجاهدة "
تبدأ (سورة النمل) كالتالي: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) بينما تبدأ (سورة القصص) ،وهي بعدها في الترتيب في مصحف عثمان أو المصحف الرسمي، على الشكل التالي: (طسم* تلك آيات الكتاب المبين،) .
في السورة الأولى لا يوجد فصل بين "طس" وبقية العبارة ، بينما في السورة الثانية يوجد فصل بين طسم والعبارة التي تليها وفيها ذكر للكتاب دون ذكر القرآن . وهي إشارة إلى وجود لحظة أو مسافة بين الكمال العلمي والبدء بالهداية والبشارة أي البدء بالدعوة أو التكميل (تكميل العلم عن طريق بناء الحزب السياسي الثوري) . وأقصد بالمسافة أنه يوجد انقطاع بين الأمرين. فحضور الميم في سورة القصص أظهرت تلك، الفاصل بين وجود العلم في النفس بالعقل وبين الدعوة للحق.
نقرأ عند غاستون باشلار: "لماذا لا نتقبل طرح التجريد بوصفه المسار الطبيعي والمخصَّب في العقل العلمي؟".. ويضيف: "عندما نبحث عن الشروط النفسانية لتقدم العلم سرعان ما نتوصل إلى الاقتناع بأنه ينبغي طرح مسألة المعرفة العلمية بعبارات العقبات، وأن المطلوب ليس اعتبار عقبات خارجية مثل تركيب الظواهر وزوالها ، ولا إدانة ضعف الحواس والعقل البشري : ففي صميم فعل المعرفة بالذات تظهر التباطؤات والاضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية . وبذلك سنبين أسباب الجمود وحتى أسباب النكوس ، وكذلك سنكتشف الأسباب الركودية التي سنسميها عقبات معلومية. إن معرفة الواقع هي نور يعكس دائماً ظلاله في مكان ما ، فهي ليست أبداً معرفة مباشرة ومليئة . وتجليات الواقع ليست دائماً متواترة ... ويكون الفكر التجريبي واضحاً في النهاية ، عندما يكون جهاز العقول عاملاً. وبالعودة إلى ماض من الأخطاء ، نجد الحقيقة في توبة عقلية حقيقية ... بما يتخطى عملية الروحنة في العقل بالذات"
أما ماركس فيقول في تقديم كتاب رأس المال: "إن البحث العلمي الحر في مجال الاقتصاد السياسي لا يواجه فقط ألئك الأعداء الذين يواجههم في المجالات الأخرى . فالطابع المتميز للمادة التي يدرسها الاقتصاد السياسي يستدعي إلى حلبة الصراع ضد البحث العلمي الحر أهواء النفس البشرية الأشد ضراوة وخسّة وشناعة ؛ أي ضواري المصلحة الخاصة"
ففي محاربة أهواء النفس التي تقف عقبة أمام البحث العلمي الحر، يكتب ابن عربي: "وحشر لسليمان جنوده من جن القوى الوهمية والخيالية ودواعيها وأنس الحواس الظاهرة وطير القوى الروحانية بتسخيره ريح الهوى وتسليطه عليها بحكم العقل العملي جالساً على كرسي الصدر [الرياسة] موضوعاً على رفرف المزاج المعتدل (فهم يوزعون) يحبس أولهم على آخرهم ويوقفون على مقتضى الرأي العقلي لا يتقدم بعضهم بالإفراط ولا يتأخر البعض بالتفريط"... "(حتى إذا أتوا على وادي النمل ) أي نمل الحرص في جمع المال والأسباب في السير على طريق الحكمة العملية وقطع الملكات الردية (قالت نملة) هي مَلَكَة الشَّره ؛ ملكة دواعي الحرص وكانت على ما قيل عرجاء [تتكاوس ] لكسر العاقلة رجلها ومنعها بمخالفة طبعها عن مقتضاه من سرعة سيرها (يا أيها النمل)؛ أي الدواعي الحرصية الفائقة الحصر (أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده)؛ أي اختبؤا في مقاركم ومحالّكم ومباديكم لا يكسرنكم القلب والقوى الروحانية بالإماتة والإفناء وهذا هو السير الحكمي باكتساب الملكات الفاضلة وتعديل الأخلاق وإلا لما بقيت للنملة الكبرى ولصغارها عين ولا أثر في الفناء بتجليات الصفات" .. وسليمان القلب وداوود الروح . وسليمان يعني الرحمة ؛ فأتى سليمان بالرحمتين: رحمة الامتنان ، ورحمة الوجوب اللتان هما الرحمان الرحيم . فعدم الظهور بما أقدر عليه هو ظهور سليمان ؛ أي ظهور الرحمة"
ألا تلاحظ معي أيها القارئ أن التغييب الكامل والإفناء للحكمة العملية ولدواعي الحرص المادي أمر يزهق الروح ذاتها.
يكتب ابن قتيبة الدينوري: "(منطق الطير) قال (قتادة): النمل من الطير" جاء في سورة (ص): (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أوّاب) [ص/ 30] ،. وجاء أيضاً: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيّه جسداً ثم أناب ) [ص / 34] . الأوْب؛ والإياب: الرجوع.. والأوْب: السحاب والريح والسرعة .. وريح مؤّبة: تهب النهار كلّه .. والمآب: المرجع والمنقلب بينهما ثلاث رحلات بالنهار. والمأؤَّب: المدوَّر والمقور والململم ..والأوبات: القوائم واحدتها أوبة" وسليمان أوّاب: أي سريع الرجوع إلى العقل .
والنوْب: القوة والقرب ونزول الأمر ، والنوبة : الفرصة والدولة والجماعة من الناس ومنها جاءت نوبتك ونيابتك .. وناب عنه نوباً ومناباً : قام مقامه .. وناب إلى الله : تاب"
وقد ناب سليمان مناب الملك ، ونابت الحكمة أو المعرفة النظرية مناب الحكمة العملية أو مناب المهارة في البناء والتقنية والصناعة، وذلك حتى لا نقع في عبادة الأساليب التقنية أو وثنية (بُدّية) الأساليب التكنولوجية. نقرأ عند مؤرخ الحضارات البشرية أرنولد تونبي العنوان التالي: "آفة الإبداع- عبادة أسلوب تكنولوجي فـ ٍ: إذا ما تحولنا الآن إلى النظر في وثنية الأساليب التكنولوجية ، قد يكون في وسعنا البدء باستعادة أمثلة سبق أن برزت إلى فكرنا ، وفيها بلغت نقمة الإبداع أقصى مراتبها. ففي النظامين الاجتماعيين العثماني والإسبارطي ؛ تحول مفتاح الأسلوب التكنولوجي المتصل برعي القطيع البشري أو اقتناص الصيد البشري، إلى وثنية تقف جنباً إلى جنب مع النظم التي تنفذ من خلال أوجه النشاط هذه. وإذا ما انتقلنا من الحضارات المتعطلة التي استثارتها التحديات البشرية ، إلى تلك التي استثارتها الطبيعة البشرية ، نجد أن العبادة الوثنية لأسلوب تكنولوجي، تضم بين ظهرانيها مأساتها بأسرها. فإن البدو والأسكيمو قد هبطوا إلى مرتبة التعطل الحضاري ، بسبب مغالاتهم في تركيز جميع ملكاتهم في الأساليب التكنولوجية المتصلة بالرعي والصيد. فانتهى بهم هذا السبيل الوحيد إلى الرجوع صوب الحالة الحيوانية التي تعتبر نقيضاً لتعدد المزايا البشرية." أي ، مسخوا و هبطوا إلى مرتبة النمل.
إن عكل الروح/العقل لهذه الميول نحو التحجر التكنولوجي يجعلها تتكاوس وتعرج ، توزع من قبل الروح/ العقل كما توزع الدابة المعكولة وتعرج في مشيتها . وإن شعباً أو قوماً يسعون في الحرفة أو الحرص والادخار ، حرص النمل وسعيه ينكسون إلى مرتبة النمل ؛ أي إلى حالة الحيوان أو الطير.
يكتب توينبي: "وإذا ما رجعنا القهقرى إلى الفصول السابقة للحياة البشرية من تاريخ الحياة على هذا الكوكب ؛ سنجد أنفسنا محاطين بأمثلة أخرى لنفس القانون " قانون التنمُّل والمناملة ؛ إنه تيه ؛ طريق مسدود لا منفذ له يتمثل في الإفراط في التخصص التكنولوجي ، مثلما أفرط الأسكيمو والبدو من قبل . جاء في سورة (يس): (فمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون ) [يس/ 67]
كتب الشاعر الروماني أوفيد: "بعد أن يسرد أياكوس أحداث المحنة القاسية التي مرت بها إيجينا حيث عمّ الطاعون وضرب البلاد ؛ مُهلِكُ أرسلته علينا الإلهة جونو غضباً وحقداً على بلادنا التي تحمل اسم غريمتها حسب كلامه . يقول آياكوس: "وأصابني هول الكارثة بالأسى العميق فأدرت وجهي للسماء أتوسل متضرعاً : إي جوبيتر ، إن حقاً ما يقال أنك ضاجعت أمي إيجينا ابنة أوزوبوس ، وأنك تقر أيها الإله القدير ببنوتي من غير حياء ولا خجل، فأعد إليّ رعاياي أو فلتميتني معهم " وإذا أنا أرى وميض برق وأسمع قصف رعد، فأيقنت أن جوبيتر استجاب لدعائي ، فانطلق لساني يقول:"إلهي، لقد لُقنتُ معنى إشارتك التي أرجو أن تكون بشارة خير لي، ثم أهلاً بهذا الوعد الذي وعدتني به" ونظرت إلى شجرة البلوط القريبة المتفرعة الأغصان التي هي وقف على جوبيتر والتي هي نبتته من بذرة من أجمة دودونا المقدسة فإذا أنا أرى رتلاً طويلاً من النمل في أفواهه ذرات وهو يسير بها في شق من تجاعيد جذع الشجرة ، فتأملت معجباً أعداده الغفيرة واتجهت إلى الإله داعياً : "يا أجلّ إله ، هب لي عدد هذا النمل أناساً يملؤون بلادي الخاوية" فإذا شجرة البلوط ترعد وإذا فروعها تتمايل ولا وجود لريح عابرة. ومع أنني كنت أرعد خوفاً وتأثراً انتصب معهما شعر رأسي هرعت لألثم الأرض والشجرة بقبلاتي وقد امتلأت نفسي آمالاً كتمتها في أعماقي دون أن أبوح بها لغيري. وأرخى الليل سدوله واستسلمنا للنوم تحت وطأة الهموم ، ورأيت في منامي شجرة البلوط بفروعها وأعداد النمل الغفيرة عليها وهي تهتز هزتها التي رأيتها في اليقظة ، وجموع النمل تتساقط منها حاملة الذرات منتشرة بها وسط الحقول . وعلى حين بغتتة بدأت تظهر من الأرض مخلوقات صغيرة أخذت تكبر ثم تكبر حتى انتصبت وقد اختفت سيقانها الدقيقة وألوانها الداكنة. فإذا هي على صورة البشر . وعندما زايل النوم جفوني حتى إذا عاودتني اليقظة إذ الحلم هباء لا حقيقة له ، فعزّ علي ما حرمتني إياه الآلهة . غير أن جلبة مدوية في أنحاء قصري لفتت سمعي، وخيل إلي أنني أستمع إلى أصوات بشرية ما أطول حرماني من الاستماع إليها ، وخلت أن هذا لم يكن إلا بقية من آثار النوم، وإذا تيلامون يدفع علي باب حجرتي ويخطو نحوي قائلاً: "هلمّ يا أبي فسوف تشهد شيئاً فوق الآمال والخيال" وخرجت فإذا أنا أرى الرجال أنفسهم الذين رأيتهم في منامي في صفوف نفسها التي كانوا فيها . فأنست بهم ، وإذا هم يقبلون عليّ يحيونني تحية المليك. عندئذ وفيت نذري لجوبيتر ، وفرقت دور المدينة وحقول الريف التي مات أصحابها بين أفراد هذا الشعب الجديد الذين سميتهم باسم المرميدون حتى يبقى ذكر الأصل الذي منه نبتوا مرتبطاً بالاسم الذي غدوا يحملونه ، ولقد رأيتهم أنت رؤية العين ، غير أنهم ظلوا يحتفظون بطبعهم فهم لا يزالون يحسنون الاقتصاد والتدبير ، ولا يقعدهم الجهد ، ويحرصون على ما يقتنون ، ويختزنون ما يجمعون ، ولسوف يكون لك منهم في الحرب جنود يتماثلون سناً وشجاعة حالما تسكن ريح الشرق التي جاءت بك هنا لخيرنا [وكانت ريح الشرق هي التي جاءت به فعلاً فينفسح المجال لريح الجنوب ] " جاء في القرآن: (وحشر لسليمان جنوده من الجِنّ والأنس والطير) ومعنى كلمة "ميرميس" باليونانية النَّملة، و "ميرميدون" مشتقة منها . نقرأ عند توينبي: "تنبئ الحقيقة التاريخية بأن الجندي المدرع الآتي إلى فلسطين بفعل الهجرة التي أعقبت سقوط العالم المينوي- جالوت الجاني أو هكتور الطروادي - لم يستسلم لمقلاع داوود أو قوسه الفليلوكتيتي لكنه استسلم إلى الفيلق الميرميدوني وكان شيئاً مخيفاً اجتمع فيه حشد من الجنود المثقلين بالسلاح؛ الكتف إلى الكتف، والترس إلى الترس. وبينما كان كل جندي في الفيلق ، صورة منقولة عن هكتور أو جالوت في عدته الحربية، كان يكمن في روحه صورة من الجندي اليوناني المثقل بالسلاح. فإن جماع جوهر الفيلق هو النظام العسكري الذي قد حول فرقة من المحاربين الأفراد إلى تشكيل عسكري استطاعت حركاته المنظمة أن تنجز من الأعمال عشرة أمثال ما تنجزه جهود غير متناسقة ؛ يبذلها عدد مساو من أبطال أفراد يتساوون معاً في العتاد . اتخذ هذا الأسلوب الحربي الجديد .. سبيله الوطيد على مسرح التاريخ في شكل الفيلق الأسبارطيّ الذي زحف بين تضاعيف أشعار تيرتاوس إلى انتصاره الاجتماعي المدمر في الحرب الأسبارطية الميسينيّة الثانية. بيد أن هذا النصر لم يكن نهاية القصة : فإن الفيلق الأسبارطيّ بعد أن وحّد كافة القوى المناهضة له في الميدان ، ارتاح على مجاذيفه (أي استكان) وألفى نفسه في سياق القرن الرابع قبل الميلاد يُهزم هزيمة شائنة : أولاً ، هزمته زمرة أثينية مدرّعة بالترس الجلدي . ثانياً، هزمه تكتيك الطابور الذي ابتكرته طيبة. على أن الأسلوبين التكنولوجيين الأثينيّ و الطيبيّ، أصبحا قديمين وغير صالحين، بسبب ضربة واحدة وجهها إليهما عام 338 قبل الميلاد تشكيل مقدونيّ ، بمقتضاه يتكامل المناوش وجندي الفيلق المدرَّب تدريباً عالياً في وضع يتسم بالحذق مع الفارس المسلح تسليحاً ثقيلاً ، في وحدة مقاتلة مفردة ، ويعتبر غزو الإسكندر للإمبراطورية الأخمينية - ومنهم شعب المرميدون أو النمل - الدليل على الكفاية الأصيلة لنظام المعركة المقدوني" . لقد فتح الإسكندر "بلاداً كثيرة حتى بلغ ملكه إلى أقصى الهند وأوائل حدود الصين. وسمي ذا القرنين لبلوغه قرني الشمس وهما المشرق والمغرب" . ودرس الاسكندر هو درس سليمان أو تيلامون . وكلمة تلاموس: thalamus تعني المهاد أو السرير البصري في الدماغ . والمهاد : ما انخفض من الأرض أو نشز في سهولة واستواء . ومهده : بسطه ، وامتهد : كسب وعمل .. " وجاء في القرآن قوله: (ألم نجعل الأرض مهادا) وكلمة telamon تعني "تمثال رجل يقوم مقام عمود في مبنى " . نقرأ عند ابن العبري: "سئل الإسكندر بناء السد ؛ سد ياجوج فبناه بحجارة الحديد والنحاس وأضرم عليه صخراً واحداً طوله اثنا عشر ذراعاً وعرضه ثمانية أذرع ، ولما فرغ من بناء سد ياجوج جاء إلى موضع السد الأعظم وهو المكان الذي يعرف بالباب والأبواب في مروج بلاد القفجان فحفر موضع الأساس ومده في الجبال حتى ألحقه ببحر الروم . فلم تزل ملوك فارس في طلب هذا الأساس فتجشّموا معرة في الترك والخزر من بلاد العراق والجبل وأذربيجان وأرّان وأرمينية حتى وجد الأساس يزدجر ابن بهرام ابن يزدجر ابن سابور . فابتدأ ببناء السد من حجارة ونحاس ورصاص ولم يتممه . وكان أكثر همّ ملوك الفرس بعده في بنائه فما اتفق لهم الفراغ منه حتى سهّل الله ذلك على يدي كسرى أنو شروان فأحكم بناءه وأصله برؤوس الجبال ثم مده في البحر على ميل ثم غلّق عليه أبواب الحديد وأقام على بنائه سنة وأكثر . فصار يحرسه مائة رجل بعد أن لم تكن تطيقه مائة ألف رجل من الجند . وأذن للمرزبان الذي يقيم هناك بالجلوس على سرير الذهب ولذلك يسمى ملك تلك الناحية ملك السرير"
نقرأ ايضاً عن عبد الوهاب النجّار، تحت عنوان حلم سليمان: "ورأى سليمان "يَهْوَه" ربه في الحلم ، فقال له : "اطلب ما أعطيناك" فقال المليك الشاب: "يهوه" يا إلهي أنك ملكت عبدك مكان داوود أبي ، وأنا غلام صغير السن ، لا أعرف أن أخرج وأدخل ، فأجاب الرب: هاأنذا قد أعطيك قلباً حكيماً فهماً حتى أنه لم يكن قبلك مثلك ولا يقوم بعدك نظيرك ، وأيضاً ما لم تسله قد أعطيتك إياه. "الغنى و المجد" . وغمر اليسر والإقبال الأمة ومليكها ، وأصاب ابن داوود "الطيبوما" أي الدهاء في العمل التي كانت الأمثال تضرب عن رغبة الناس فيها أكثر من رغبتهم في الحكمة أو المعرفة النظرية ... وكان الملك قد ألقى في قلب سليمان الحكيم حب البناء ، وجعله يعتقد أن تشييد البنية الثابتة رمز العظمة ، وأقنعه أيضاً بأن ثمة مباني أخرى متنقلة ومصنوعة من خشب الأرز تشق العباب وترتاد أقاليم شاسعة مجهولة، لا تقل في العظمة عن المباني الثابتة... كان الملك يستقبل في قصره المشيّد بالمرمر على أكمة في ظلال أشجار النخيل الوفود الأجانب الذين كانوا يحترمون فضائله ويتهيبون حكمته . وأرسل إليه (حيرم أو حرام) ملك صور ألغازاً وأحاجي فحلها إلا أن الألغاز التي أرسلها إليه الملك سليمان لم يستطع حلها ، فكبر عليه ذلك الأمر "
بالرغم من فضائل الملك حرام التكنولوجية ؛ أي حكمته العملية في بناء القصور ذات الأعمدة إلا أنه اكتشف أن هناك ألغازاً عقلية لا يستطيع حلها ، إنها من سليمان .. وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" لقد كانت الغلبة لسليمان على حرام ملك صور نتيجة هيمنة الحكمة النظرية على الحكمة العملية عند سليمان ، وغياب هذه الحكمة النظرية عند حرام.
لقد أخضع الإسكندر المقدوني تلميذ أرسطو شعب الميرميدون ، وجيش جيشه وأطعمه من سعي هذا الشعب المخضع (المحشور) ؛ بكلام آخر : ميرميدون يطعم جيش الاسكندر من حليبه. إن نملة حريصة وشحيحة يمكنها وفق مبادئ فزيولوجيا القرآن وتشريحه وتشخيصه أن تطعم جيش الإسكندر من حليبها ، ويمكنها أن تثري الشعر بمجازات مرسلة هي أكثر من شائعة في التراث العربي و التراث الأسطوري والديني . إن مأثرة الاسكندر المكدونيّ أنه استطاع إخضاع الأخمينيين ومنهم شعب الميرميدون (النّمل) بفعل حكمته النظرية وحكمته العملية عبر تكتيكه العسكري الجديد أو صيغة الفيلق المقدوني ، وبفعل رحمته بالشعوب المخضعة استطاع انتزاع الطعام لجيشه من نملة ؛ "نملة تطعم جيش الإسكندر من حليبها" . وهذا فَسْرُ عبارة أدونيس؛ تفسيرها التشخيصيّ . والأشخاص ما ظهرت والأشباح ما خفيت . والفسر: إبانة ما خفي؛ أي تشخيصه.



















الملفّ السياسي






























إيران: الأزمة الجديدة في الهيمنة الأميركيّة
بول سويزي و هاري ماجدوف

كتب سمير أمين ما يلي في العام 1976:
"بالمقارنة مع الغرب المستقر نسبياً والذي استطاع حتى الآن أن يتخطى أزماته... بدون أن يتعرض لهزات كبيرة، نرى أن في الأطراف عالماً تسود علاقاته الطبقية حالة من الاضطراب. وهذا ما يشكل قوة الدفع الرئيسية للتاريخ المعاصر". وتبرهن إيران مرة أخرى على مدى صحة هذه الملاحظة.
وإيران التي كانت تعرف ببلاد فارس لم تخضع يوماً للامبريالية بشكل رسمي. فقد كانت إيران، كالصين، مسرحاً لتصارع القوى الامبريالية (البريطانية والروسية)، لكن المنافسة والغيرة فيما بينهما أتاحت لإيران، كما للصين أيضاً، أن تحافظ على استقلال مهزوز وبلا مضمون ما في أغلب الأحيان. وفي القرن التاسع عشر كانت تحكم إيران سلالة القاجار(1794- 1925). وبسبب الضغط الامبريالي، لم تعد هذه السلالة تحمي عباد الله بأمره تعالى ولم تحل دون التفكك الاجتماعي بل أصبحت سلالة فاسدة ذات سطوة تشارك في نهب البلاد وتدميرها" . ومع انحلال النظام التقليدي، دخلت إيران حقبة جديدة من تاريخها لا تزال تعيش فيها إلى يومنا هذا.
ففي العامين 1905 و 1906 شهدت إيران ثورة قامت ضد طغيان سلالة القاجار وبلغت ذروتها في منح دستور عام 1906 (الذي أنشأ البرلمان وحد من سلطان الملك) والذي لا يزال حتى الآن القاعدة الشكلية للنظام السياسي في البلاد. وهكذا تم التحضير للصراعات المعقدة الداخلية والخارجية التي نشبت في العقدين التاليين من السنين. وحتى قبل الحرب العالمية الأولى كانت البلاد في الغالب تحت الاحتلال الروسي في الشمال والبريطاني في الجنوب. ومع قيام الثورة الروسية البلشفية 1917، وصلت هذه الحقبة من الزمن إلى نهايتها، فقد تم انسحاب القوات الروسية وألغيت كافة المطالب الروسية في إيران. أما البريطانيون فقد ثابروا، آملين في تحويل إيران إلى ما يسمى اليوم "النيوكولونياليّ" أو المستعمرة الجديدة، لكنهم ما لبثوا أن أشعلوا الأحاسيس الوطنية مما أدى إلى فترة من الاضطرابات والهيجان في السياسة الداخلية (إذ تم تغيير في منصب رئيس الوزراء تسع مرات في فترة تقل عن السنتين). وفي مثل هذه الظروف أصبحت القوة الحقيقية وراء العرش في أيدي ضابط خيالة مغمور يدعى "رضا خان" . وكان هدفه الأول بعد أن وطد مكانته هو إلغاء الملكية وإنشاء جمهورية. لكن التكوين الطبقي الإيراني في تلك الفترة لم يكن أرضاً صالحة لنمو الأفكار الجمهورية. فقد كانت البرجوازية وبورجوازية "البازار" الصغيرة كما أرستقراطية الملاكين والزعماء الدينيين كلها ملكية، أما البروليتاريا فقد كانت لا تزال صغيرة وضعيفة جداً. ومرة أخرى كانت المظاهرات في الشوارع هي العامل الحاسم، تلك المظاهرات التي كان لها دورها عند كل منعطف من منعطفات التاريخ السياسي منذ بداية القرن. وهكذا، وتحت ضغط الجماهير، تخلى رضا خان عن فكرة الجمهورية واستحصل على إعلان دستوري للمبايعة له كشاه وأنشأ سلالة البهلوي الجديدة التي لا تزال حتى هذه اللحظات تحاول الحفاظ على وجود مهزوز.
وكان الشاه الجديد "مجدِّداً" لا هوادة فيه بالمعنى الذي اكتسبته كلمة "المجدّد" في المصطلح السياسي البرجوازي. فقد استعمل وارداته النفطية المتزايدة، على ضآلتها حينئذ، لبناء جيش وبيروقراطية مركزها العرش وتدينان بالولاء له. وعلى هذا الأساس أوجد نظاماً أكثر فعالية لكن أكثر اضطهاداً بكثير من سوابقه. لكنه ارتكب خطأ التودد إلى هتلر والنازية في الثلاثينيات. ولا ريب أن مزيجاً من الدوافع هو الذي دفعه إلى ذلك، منها مثلاً التعاطف السياسي، والعداء للشيوعية والعداء التاريخي للبريطانيين، ونتج عن ذلك أن احتل البريطانيون والروس إيران بعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي وأجبروا الشاه على ترك البلاد والتخلي عن العرش لصالح ابنه وهو الشاه الحالي.
وفيما يختص بأمور إيران الداخلية، كان احتلال الحلفاء بداية فترة من الليبرالية النسبية. فقد عادت الجماهير في المدن لتلعب دورها الناشط في العملية السياسية.
وتمخضت عن ذلك قوتان سياسيتان هامتان هما حزب توده/الشعب (الشيوعي) الذي يمثل العمال والعناصر اليسارية المنحى (الطلاب، أصحاب المهن، المثقفون)، والجبهة الوطنية التي كانت تمثل طبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة التي كانت تشعر أنها معزولة عن النظام السياسي القائم. وقد أصبحت "الجبهة" حركة جماهيرية تحت زعامة محمد مصدق الذي كان زعيماً سياسياً موهوباً يعرف كيف تثار المواضيع لدعم سياسته (وهذا الأمر الأخير الذي له أهمية بالغة في تسيير السياسة الإيرانية هو الذي كسب لصاحبه شهرة في الغرب كخطيب "ديماغوجي" يلهب أحاسيس "الرعاع"). وكانت الأهداف التي وضعها لنفسه وبنى عليها شعبيته وقوته هي، أولاً، تأميم صناعة النفط التي كانت حتى ذلك العهد حكراً على البريطانيين، وثانياً، التقيد الصارم بدستور 1906، خصوصاً في ما يختص بسيطرة رئيس الوزراء على القوات المسلحة تحت طائلة المسؤولية أمام البرلمان. وقد سجل مصدق انتصارات كاسحة في هذين الحقلين لكن اعتماده كان دوماً على الدعم الشعبي الذي عبر عن نفسه بمظاهرات ضخمة وإضرابات ومعارك في الشوارع. ووصل الأمر إلى نهايته في الصراع الناشب حول السيطرة على الجيش في صيف العام 1952. فبعد أن جوبه بمعارضة من البرلمان والبلاط الملكي، دعا مصدق أتباعه، بمساندة الجبهة الوطنية وحزب توده، فنزلوا إلى الشوارع بأعداد ضخمة وحاربوا في شوارع العاصمة ثلاثة أيام دامية إلى أن أجبروا الشاه على الاستسلام. وقد كتب عالم إيراني في العلوم الاجتماعية يصف ما حدث، بعد ذلك التاريخ بسنوات عدة، في مجلة Monthly Keview (الأميركية) وبأسلوب واف ومقتضب: "وزاده الانتصار قوة، لكن مصدق نسي ضرورة تزويد أتباعه بالسلاح وطفق يهاجم المؤسسة العسكرية برمتها. فقد بتر ميزانية الجيش بتراً وأعلن أن البلاد لن تشتري من الآن فصاعداً سوى أسلحة دفاعية خفيفة، وطهر الجيش من 130 ضابطاً كبيراً، وخفض الخدمة العسكرية إلى النصف ثم أثار ريبة النخبة العسكرية أيما إثارة إذ شكل ثلاث لجان للتحقيق في إشاعات حول الاختلاس في العقود العسكرية وللتثبت من مقدرة الضباط الكبار ولتبيان أن الغرض من الدستور هو أن يكون الملك قائداً أعلى للقوات المسلحة بالاسم فقط. وقد أدى هجوم مصدق إلى نتيجة تبدو لنا الآن وكأنها كانت حتمية، إذ عمد الضباط الذين باتوا على قناعة أن العسكر بدون ملك عسكري أمر مستحيل (لا ضباط بدون شاه)، فألفوا جمعية سرية اسمها "لجنة إنقاذ الأمة" من "الجمهورية"و "الفوضى الاجتماعية" ووطدوا الصلة مع وكالة المخابرات المركزية التي منحتهم عوناً مالياً وتنظيماً كان تأثيره حاسماً، ثم قاموا بانقلابهم الناجح. وبعد أن ألقوا القبض على الشاه الذي كان قد هرب إلى المنفى لكي يعود إلى بلاده منتصراً وخليفة لأبيه" . وشهد الربع التالي من القرن (1952- 1978) تثبيت دعائم نظام الشاه الذي كان يستند إلى سلك الضباط والذي ازدادت قوته وامتيازاته ازدياداً كبيراً، كما شهد كذلك انخراط إيران في إمبراطورية أميركا العالمية، إذ أصبحت إيران شرطياً هاماً لأميركا في المنطقة. وتبع ذلك أيضاً برنامج براق "للتحديث" و"التصنيع" لم يدرس بدقة كما تم خنق المعارضة بشتى أشكالها بلا رحمة من قبل الجيش والشرطة السرية (السافاك) التي دربتها وكالة المخابرات المركزية. وهكذا تزايدت النقمة الشعبية والغضب والكراهية حتى وصلت حداً كان يبدو من المستحيل أن تصل إليه من قبل شهور قلائل. وفيما يلي، نحاول أن نلقي الأضواء على هذه التطورات ونشدد على تلك النواحي التي لم تنل الاهتمام أو التي لم تفهم أو التي شوهتها وسائل الإعلام الغربية والخبراء الغربيون.
"التحديث" على الطريقة الإيرانية:
عثر على النفط في إيران قبل نهاية القرن التاسع عشر لكن البلاد لم تجن أية فائدة منه ولم تجن الفائدة سوى قلة قليلة من الإيرانيين وبعد انقضاء العديد من السنين. فقد كان النفط حكراً كاملاً على البريطانيين منذ البداية واستمسكوا بهذا الاحتكار حتى أيام مصدق. أما الرسوم فقد كانت تدفع إلى إيران بمقياس البخل الذي كان سائداً في الفترة الكولونيالية الأولى.
كان مصدق قد بنى قوته على قضية التأميم وكاد أن ينجح، كما رأينا أعلاه، باستعمالها لطرد الشاه طرداً نهائياً. لكنه ارتكب خطأين: أولاً، ارتكب الخطأ الذي ارتكبه أليندي في تشيلي بعده بعشرين سنة، فقد أخفق في السيطرة على القوات المسلحة أو في تحييدها أو التصدي لها. ثانياً، ظن مصدق أن الأميركيين قد يرحبون بالتأميم كضربة ضد البريطانيين، أخصامهم التقليديين، لأنهم لا يملكون أية مصلحة في النفط الإيراني. لكن الأميركيين كانوا ينظرون إلى أبعد من ذلك. فقد عزموا على مساعدة الضباط لاسترجاع الشاه وعلى استخدام نفوذهم المتزايد للحصول على حصة كبيرة من النفط الإيراني (عرف فيما بعد أنها تبلغ 40 % ). ولم يلغ التأميم بل تم تعطيله بموجب ترتيبات واتفاقيات جديدة معقدة أتاحت لشركات النفط الكبرى أن تمضي في سلب إيران حصة الأسد من واردات النفط، كما استفاد الشاه وأتباعه نسبياً إذ أن حصة إيران من العائدات والامتيازات والضرائب رفعت لتتطابق مع ما جرت عليه العادة في الدول الأخرى التي تنتج النفط. وفوق كل هذا وذاك، أضحت الولايات المتحدة في موقع القوة والسلطان الجديد بلا منازع في سائر أرجاء الخليج. وهكذا فقد تم تحضير المسرح الذي جرت عليه تلك المسرحية التاريخية العظمى والتي وصلت الآن وبعد مرور ربع قرن، إلى ذروتها المخيفة الدامية في شوارع المدن الإيرانية الكبرى. وفي السنوات الأولى التي أعقبت استرداد الشاه لعرشه كان هنالك تركيز كبير على ترطيب وتطوير أجهزة الحكم القمعية والتي كان الغرض منها على ما يبدو الحيلولة دون إعادة التجربة مع مصدق نهائياً. وتدفق العون الأميركي الاقتصادي والعسكري مباشرة ونال أصحاب الشاه المكافآت السنية، أما أعداؤه فقد تم نفيهم أو تصفيتهم. وقبل كل شيء تم إنشاء جهاز متقن شامل للقمع السياسي وللسيطرة على الأفكار. وكان قلب الجهاز هو (السافاك) وهي هيئة للشرطة السرية تم إنشاؤها في العام 1957 تحت إشراف الوكالة المركزية والمخابرات الإسرائيلية. وقد تطورت (السافاك) لتصبح من أشرس وسائل الإرهاب الشرعي وأعظمها رعباً في العالم بأسره، وذلك في عالم أصبحت فيه مثل هذه المؤسسات واسعة الانتشار. ولم تصبح إيران جاهزة "للتحديث" الاقتصادي المواكب إلا بعد أن استكمل الشاه ونصائحة من الأميركيين تثبيت هذا الجهاز القمعي الذي يعد نموذجاً "للحداثة". وعند رجوع الشاه كانت الصناعة الرأسمالية التي تستخدم الماكينات والعمال المأجورين تنحصر في الغالب، كما هي الحال في معظم الدول النامية في مثل هذه المرحلة من النمو، ببضع صناعات تنتج بضائع للاستهلاك الشعبي كالتنباك مثلاً وعلب الكبريت وأخيراً، لا آخراً، النسيج. ففي العام 1947، كان النسيج ومركزه أصفهان أهم هذه الصناعات على الإطلاق ، فقد كان يمثل 60 % من يد العمل الصناعية و70 % من الطاقة الميكانيكية العاملة في الصناعة . أما ما تبقى فقد كان الاقتصاد من النوع الذي يسمى "التقليدي"، أي أنه كان زراعياً في الأغلب (شبه إقطاعي أو بدوياً) مع وجود قطاع مديني يرتكز إلى "البازار"، وهي كلمة فارسية الأصل .
وكانت الأمور قد بدأت تتغير منذ عهد والد الشاه الحالي. لكن عملية التغيير هذه لم تتخذ أبعاداً هامة إلا بعد ازدياد واردات النفط بعد العام 1952 مع ما واكبه من ازدياد تأثير الغرب وخصوصاً أميركا في الفكر والعمل معاً. وجاءت أموال النفط لتدفع أثمان موجة متصاعدة من الواردات، على أشكالها، بما فيها الطعام. وفي الوقت ذاته، أوجدت هذه الأموال طبقة جديدة من التجار الأغنياء ومنهم الكثيرون الذين كانت لهم علاقات حميمة مع البلاط الملكي أو خلقوا مثل هذه العلاقات، أو أصبح البلاط يوزع الامتيازات الخاصة بشكل إجازات ومقاولات للدولة وإلى ما هنالك. وانتقل البعض من هؤلاء التجار من ميدان استيراد البضائع الجاهزة إلى ميدان تجميع القطع المستوردة وفي بعض الأحيان إلى عمليات التصنيع الكاملة تقريباًِ، مستخدمين في سبيل ذلك الرشوة والوساطة مع أصحاب النفوذ للحصول على حماية قانونية ضد المنافسة الأجنبية أو المحلية . وكانت الخطوة المنطقية التالية هي أن تبدأ الشركات الأجنبية ذات الملكية المتعددة الجنسيات باستثمارات جديدة داخل البلاد وكثيراً ما تعاونت مع رأسماليين محليين ناجحين لكي تتفادى التعرفة الجمركية وحواجز الاستيراد الأخرى. وقد تفاعل مع هذا النوع من الاستثمار الأجنبي، مسبِّباً ومسبباً، فيض من الرأسمال المصرفي الأجنبي الذي كان من أوائل أشكال الاستثمار الأجنبي في إيران ولا يزال من أهمها على الإطلاق. وما إن فارت هذه الفورة المالية في منتصف وإلى أواخر الخمسينات وتسارع نموها، حتى بدأت تتغير قطاعات اقتصادية أخرى. فقد ازداد الطلب على اليد العاملة وتبع ذلك نمو في الطبقة العاملة في الصناعة. أما المدن، وخصوصاً طهران، فقد اتسعت بسرعة (في العام 1956، كانت نسبة السكان التي تعيش في المدن 2,31 % فارتفعت إلى 9,41 % عام 1972) . واستوعب قطاع البناء أعداداً هائلة من العمال غير المهرة في الغالب وأصبح المستخدم الأول في المدن. وكما يحدث في مثل هذه الأحوال، فإن المضاربة بأسعار الأراضي أصبحت تجارة مزدهرة وأصبح الأرض والبناء في المدن نوعا مفضلاً من أنواع الاستثمار لدى الأغنياء الإيرانيين ولدى العديد من الأجانب كذلك .
أما فيما يختص بتوزيع الدخل والثراء فإن النتائج المترتبة على عملية نمو كالتي وصفناها أعلاه هي نفسها ما قد نتوقعه من عبر التاريخ الطويلة. فقد كانت الأرباح طائلة وانحصرت في قلة قليلة من السكان. أما الأجور فقد بعثرها بسرعة تضخم مالي غير محدود حتى بالنسبة إلى ذوي الأجور العليا. أما عامة العمال ، فقد تدنت أجورهم بالفعل إلى ما دون كلفة إعادة الإنتاج للقوة العاملة (وهذا ممكن دائماً في البلدان النامية حيث يوجد فائض نسبي كبير من السكان بدون عمل أو يعملون دون طاقتهم في الريف وهذا الفائض متوفر لسد احتياجات الصناعة الرأسمالية). وفيما يلي مقتطفات من مقالة منتظمي ونراغي من شأنها أن توضح بجلاء التطورات التي ألمحنا إليها. ونبدأ بالأرباح: "إن معدل الأرباح في معظم الحالات يحدد بأن يضرب ثمن الوحدة بمعدل يجري تحديده على أساس قدرة رجل الصناعة على التفاوض تجاه الموظفين التكنوقراطيين في وزارة الاقتصاد. والتدخل الخارجي المستحيل . فهناك في الواقع سوق للبائعين تحتكره قلة ويستفيد من حماية حكومية شديدة جدا، يستعمل طرقاً شتى، فمنها مثلاً ضرائب على السلع المستوردة (فالبضائع الأجنبية التي تنافس البضائع الوطنية قد تجبى عليها رسوم جمركية تسمى الرسوم على الأرباح التجارية وتصل إلى 500%) ، وحصص عالمية ، وتحديد عدد المنتجين بطريقة تعسفية لذا فلا غرابة في معدل أرباح يمتد من 40% ليصل إلى ما فوق 100% من رأس المال المستثمر. ففي صناعة السيارات وحدها مثلاً بلغ مجمل الأرباح المحصلة عام 1972 مقدار ضعفي ونصف الأجور المدفوعة في هذا القطاع، أي 2148 مليون ريال (الدولار يساوي 75 ريال) بالمقارنة مع 868 مليون ريال. والنزعة نحو تركيز الدخل تزداد بسبب الوجود الأرستقراطي في صفوف النخبة الصناعية. "ففي العام 1972 كانت 56 عائلة تملك حصصاً في 177 من مجموع 364 شركة صناعية كبرى وتسيطر على 39% منها ...وبالإضافة إلى ذلك فإن 72 عائلة أخرى كانت ممثلة في 88 شركة أخرى على لائحة الشركات الكبرى وبالإجمال فإن 128 عائلة وبنك التطوير الصناعي والمنجمي (وهو بنك خاص بمساهمة أجنبية) كانت تملك حصصاً في 73% من الشركات المشار إليها". أما فيما يخص بالأجور فيقول الكاتبان ما يلي:
"لا ريب أن القطاعات الأكثر نشاطاً تدفع أجوراً أعلى، وعلى سبيل المثال فقد كان قطاع الأدوية، ومعدل الأجور الشهرية فيه 6576 ريال (88 دولاراً)، وقطاع السيارات، ومعدل الأجور فيه 7064 ريالاً (94 دولاراً)، على درجة أعلى من قطاع صناعة المأكولات (4233 ريالاً أي 56 دولاراً) والنسيج (5436 ريالاً أي 72 دولاراً)... وقطاعات الصناعة الثلاث، أي المأكولات والنسيج والملبوسات كانت معاً تشكل 60 % من مجموع العمال في المدن في العام 1972. لذا فلا غرابة أنه في العام 1973، كان 70 % من العمال الإيرانيين يكسبون حسب التقديرات أقل من 240 ريالاً (2,3 دولاراً) في اليوم وهو الحد الرسمي الأدنى لإخراج قوة العمل.
وفي هذا الخصوص، فإن تفاصيل الاستهلاك لدى الشعب يلقي ضوءاً جلياً على الحالة الاجتماعية الاقتصادية. ففي العام 1972 كانت الأسرة في المدينة تكسب 9162 ريالاً فقط (122 دولاراً) في الشهر. ومن هذا المجموع استهلكت النفقات على الطعام 6, 43 % بينما غطت النفقات على غير الطعام 70 % من مجموع ضرورات العيش الأساسية الأخرى كالمسكن والثياب والتدفئة والصحة والمواصلات".
وقد انحصر بحثنا حتى الآن بالفترة التي سبقت قيام دول الأوبيك برفع أسعار النفط أربعة أضعاف في أواخر العام 1973. ومن نافل القول أن هذا الأمر قد زاد واردات إيران النفطية زيادة كبرى وبدا المستقبل وكأنه يزخر بإمكانات باهرة. وقد جاء في تقرير لهيئة الخطة والميزانية الحكومية يعدل النص الموضوع لخطة إيران الخمسية الخامسة (1973- 1978) ما يلي: "ويأمل الإيرانيون جميعاً ، بقيادة زعيمهم العظيم صاحب الجلالة الإمبراطورية شاهنشاه أريامهر (ملك الملوك ونور الآريين) وبهدى من أوامره الحكيمة أن هذه الخطة من شأنها أن تكون فاتحة لأحد أهم التغييرات التي طرأت على البلاد. وأن وضعها قيد التنفيذ سوف يأتي بازدهار عظيم للأمة والشعب ويرشد إيران بسرعة أكبر إلى عصر الحضارة العظيمة".
يا للأوهام! فالفيض من المال لا يبني حضارة عظيمة ولا حتى ازدهاراً أكبر للأمة والشعب. فهذا الفيض من شأنه- وإيران ليست المثال الوحيد أبداً- أن يأتي بثراء فاحش لقلة من الطفيليين على قمة الهرم الاقتصادي ويخلق طائفة جديدة من المشاكل التي لا حد لها للأمة والمزيد من القلق والتعاسة للشعب.
ولن نحاول فيما يلي أن نفصل المهازل والخيبات والنكبات التي جلبتها هذه الفورة المالية العظيمة من جراء فتح سدادة برميل الدولارات النفطية في العامين 1974و 1975، وسوف نكتفي بإيراد بعض الأمثلة القليلة ونستند إلى تقارير روبرت غراهام الصحفية (كما وردت في الهوامش) فقد كان غراهام مراسلاً لجريدة "فايننشال تايمز" في إيران خلال السنوات الحاسمة الثلاث (1975- 1977) ولم يطلع على المعلومات المنشورة فحسب بل على مصادر موثوقة كانت ترغب أو تهتم في تدوين آرائها.
كثيراً ما يقال أن المال في المجتمع الرأسمالي هو القوة. وهذا صحيح، لكن المال ليس سحراًَ. وقد فشل حكام إيران في التمييز بين الأمرين. فقد كانت الخطة الخمسية الخامسة بصورتها الأولية تتصور استثماراً مقرراً مقداره 37 بليون دولار، إذ كان هذا الرقم يتناسب مع تخمينات موارد النفط الأجنبي المتوفرة من واردات النفط والقروض الأجنبية. وبعد ارتفاع أسعار الأوبيك، ارتفعت واردات النفط المقدرة من 22 إلى 98 بليون دولاراً. وزال القيد الأجنبي، وجرى اعتبار هذا الزوال، بقفزة منطقية مذهلة، وكأنه مؤشر لزوال كافة القيود. وهكذا فإن خطة العام 1975 كما جرى تعديلها، رفعت رقم الاستثمار المحدد بنسبة 89 % ؛ من 37 إلى 70 بليون دولاراً. ويعلق غراهام (ص 80) كما يلي: "ولما تم ترتيبها ، أصبح واضحاً (لمن؟) أن هنالك مشاريع تكفي ليس فقط للخطة الخامسة بل وللخطة السادسة أيضاً التي تلي فترة السنوات الخمس بعد العام 1978". في البدء كان الدولار هو المؤشر. يقول غراهام:"في أوائل العام 1975 ، أصبح الاقتصاد الإيراني غير قابل للضبط". ويتابع قائلاً:"في الربع الأول من السنة الإيرانية الجديدة (في منتصف آذار/ مارس وإلى منتصف حزيران/ يونيو ارتفعت المصاريف الحكومية بنسبة 28% عما كانت عليه في العام المنصرم. فقد استهلكت نسبة 40 % من الاعتمادات المقررة للبنوك التجارية... وكانت إمدادات النقد لا تزال تزداد بنسبة 60% في السنة. وفي هذه الأثناء، كانت المستوردات وقيمتها حوالي 1،2 بليون دولار في الشهر، قد ارتفعت مائة بالمائة تقريباً عما كانت عليه في الفترة نفسها من العام 1974... وتضاءلت المنجزات مع ارتفاع الكلفة". (ص86-87).
وكانت مرافئ البلاد عاجزة كلياً عن استيعاب المستوردات ففي منتصف العام 1975 ، كانت أكثر من 200 سفينة تنتظر دورها للتفريغ في ميناء خورام شهر، وقد تبلغ فترة الانتظار خمسة أشهر أو أكثر قبل الدخول إلى المرفأ. وكان معدل الإفراغ اليومي 12.000 طن لكن 9000 طن فقط كانت تشحن إلى خارج الميناء. وفي خريف العام 1975 كان هناك أكثر من مليون طن من البضائع تقبع على أرصفة الموانئ وأحواضها. وبلغ التلف والفساد مبلغاً عظيماً. أما معدل التضخم فقد ارتفع بحدة حتى بالاستناد إلى الأرقام الرسمية المنمقة. ويصدق هذا الأمر بالأخص على أسعار الأراضي والإسكان إذ كانت أسعار الأراضي ترتفع من أسبوع لآخر. وبالرغم من أن العمال قد حصلوا على زيادات في الأجور وعلى علاوات خاصة، إلا أن ضغط المعيشة عليهم قد ازداد أكثر من أي وقت مضى. وحصل نقص شديد في اليد العاملة ، خصوصاً فيما يختص بشتى أصناف العمال المهرة الذين تحتاجهم مشاريع البناء. ويقول غراهام في هذا الصدد:"وإذا كان عامل البناء يكسب 5.5 دولارات في اليوم كان عامل تركيب الأنابيب يكسب ما بين 440 إلى 460 دولاراً في الشهر. وكان يدفع لسكرتيرة جيدة تجيد لغتين حوالي 1200 دولاراً شهرياً، والمهندس المتخرج حديثاً، خصوصاً إذا كان قد تعلم في الخارج كان يحصل على أكثر من ألفي دولار شهرياً. أما مدير أعمال يملك شهادة جامعية عليا وعمره 30 سنة فقد كان يطلب أجراً يفوق 4500 دولاراً في الشهر".(ص90).
وقد أدى ذلك إلى دخول أعداد كبيرة جداً من الأجانب معظمهم من ذوي الدخل المرتفع من أوروبا وأمريكا والذين زادوا الطلب التضخمي على الإسكان وعلى البضائع الاستهلاكية النادرة وزادوا الطين بلة بالنسبة إلى الإيرانيين الأقل حظوة والنقمة ضد الأجانب التي شهدتها الانتفاضة الحالية ترجع إلى هذه الفترة من الزمن.
وفوق كل هذه النشوة وهذه الفوضى، جاءت الضربة من مصدر غير متوقع. فقد انخفض الطلب على النفط من جراء التراجع الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتطورة والذي بدأ في العامين 1974 و1975. ومع نهاية العام 1975 كان الإنتاج الإيراني قد هبط بنسبة 20 % عما كان عليه في العام المنصرم. وعلى مدار السنة، كان الإنتاج اليومي قد هبط بمقدار 12% وهبطت الواردات النفطية كذلك إذ عادت إيران عام 1977 إلى الاقتراض من البنوك الغربية ومن السوق الأوربية. وخففت الميزانيات وألغيت العقود وتأجلت الدفعات واختزلت المشاريع أو أهملت. وازداد عدد أصحاب الملايين في إيران ازدياداً كبيراً وكان العديد منهم يملك أرصدة ضخمة في البنوك السويسرية أو سندات ألمانية أو أراضي أمريكية. أما الحياة بالنسبة إلى غالبية الإيرانيين العظمى فقد ازدادت سوءاً وأصبح المستقبل قاتماً، وهكذا انتهت فترة التحضير التي سبقت انتفاضة عام 1978 الكبرى.
المعارضة:
يبدو الآن بجلاء، حتى في نظر أشد أنصار الشاه حماسة في واشنطن والإعلام الغربي ، إن الغالبية العظمى من الشعب الإيراني باستثناء فئة الضباط (وباستثناء زبانية السافاك طبعاً) تناهض الشاه ونظامه بشدة. وحتى أولئك الذين نالوا الحظوة لديه من بين رجال المال والأعمال لا يجرؤون الآن على الجهر بمناصرة طاغية أدانه شعبه هذه الإدانة الحاسمة، فمحاولاته الدموية للتشبث بسلطته لم تنجح أبداً في ترهيب الرعية بل على العكس، إذ زادهم ذلك الترهيب نقمة وكرهاً وباتوا أكثر تصميماً على التخلص منه. وهذه الانتفاضة مثال عجيب حقاً على إرادة شعبية جلية تكاد أن تكون ملموسة. وهناك بالطبع سوابق تاريخية خصوصاً في إيران ذاتها في الفترة ما بين 1950 و1952، لكن مصداقية الأحداث الآن هي أقوى بكثير مما كانت عليه في السابق.
أما المعارضة فإنها وإن كانت على رأي واحد لكنها ليست على نمط واحد وليست بالتأكيد تجتمع على رأي واحد حيال الوضع الذي سيخلف الشاه. ولهذا السبب فمن الواجب تحليل تركيبة المعارضة كشرط لا بد منه لتقويم ما قد يحدث في المستقبل.
من الواضح الجلي، وهو أمر قد ركزت عليه وسائل الإعلام، أن الدين يلعب دوراً بارزاً في المعارضة. لكن هذا لا يسمح لنا باستعمال لفظة "المعارضة الدينية". فالمشكلة أعوص من أن تحيط بها معادلة بسيطة كهذه. وهنا من الضروري أن ندخل في سانحة تاريخية.
إيران بلاد إسلامية تدين بالمذهب الشيعي (ويقال مثلاً في هذا الخصوص أن إيطاليا بلاد مسيحية تدين بالذهب الروماني الكاثوليكي). وقد فتح العرب إيران حوالي العام 640 للميلاد وسرعان ما دانت إيران بالإسلام وتم ذلك بموجب قاعدة اشتهرت فيما بعد في أوروبا في عصر الإصلاح الديني، أي "الناس على دين ملوكهم". لكن بلاد فارس اعتنقت الإسلام الشيعي لا الإسلام السني الذي كان سائداً حينئذ في البلدان العربية. ومن هنا فإن المذهب الشيعي كان ولا يزال يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع القومية الإيرانية. وبالإضافة إلى ذلك، هنالك عامل يوازي الآخر أهمية، وقد أشار إليه المستشرق الألماني جوزف شخت حين قال: "وفي خارج جزيرة العرب، أصبحت الشيعة تستقطب كافة النزعات الثورية وغير السنية بين المسلمين"
والمذهب الشيعي، كمذاهب الإسلام الأخرى، لا ينتظم في كنيسة مع درجاتها الكهنوتية. ويقول شاخت: "إن علماء الدين ليسوا سوى الفقهاء في الشريعة وهم لا يمثلون طبقة كهنوتية بالمعنى الحقيقي، لكنهم على جانب كبير من النفوذ لأن المسلم العادي بالرغم من أنه لا يستطيع العيش بموجب الشريعة، يعبر عن احترامه لها بالاحترام الذي يكنه لممثليها" (المصدر السابق ص 337). والمذهب الشيعي يختلف عن المذهب السني في نظرته إلى الحكم. فقد كان الخلفاء السنيون يجمعون السلطتين، السياسية والدينية، وفي البلاد السنية تدعم الدولة المؤسسات والنشاطات الدينية بشكل طبيعي. أما في إيران وهو البلد الوحيد الذي يحوي أغلبية شيعية فإن الحكام لم يمارسوا أبداً أية سلطة دينية ولم يطالبوا بها، وباستثناء بناء المساجد فإن الدولة لا تساهم في إعالة الدين. ورجال الدين "كالملا" و"آيات الله" مثلاً يعتالون من تبرعات المؤمنين الطوعية ولهذا السبب وحده فهم يشاركون المؤمنين في مشاكلهم ويدافعون عن مصالحهم. ويصف كلود فان إنغلاند وهو مراسل للراديو والتلفزيون البلجيكي ما ينتج عن وضع كهذا وصفأً جيداً حيث يقول: على العكس من المراتب الكاثوليكية التي لا تحافظ إلا على القليل القليل من الصلا ت مع النضال السياسي الشعبي فإن رجال الدين الإيرانيين يعيشون في حالة تمازج تقريباً مع جماهير المسلمين الذين يطالبون بذهاب الشاه. ولا ريب أن هذا يعود إلى عدم وجود كهنوت من طبقة عالية فلا سلطة فوق سلطة "الملا" سوى "آية الله" وقد قال لنا آية الله الجليلي: "نحن نظراء الكرادلة عندكم". لكنهم كرادلة يعيشون عيشة بسيطة إلى درجة تثير العجب ولا يتخذون قراراً بدون مشاورة "الملا" والشعب. وآية الله صدّوقي وهو من اعنف معارضي الشاه يعيش في قلب حي شعبي يرتبط ببازار مدينة يَزْد. ويمضي الشباب ساعات في منزله في الحديث معه ومع "الملا" في المنطقة عن السياسة والدين وهذا التوجيه الذاتي هو الذي يمثل قوة الحركة الدينية . ويتابع فان إنغلاند تحليله فيقول: إن هذا الجانب من الحركة الدينية الإيرانية هو أيضاً مصدر ضعف من بعض الوجوه فانعدام الكيان التنظيمي يجعل من العمل المتناسق الواسع المدى مستحيل المنال.
وفي وضع كالوضع القائم حالياً حيث يوجد هدف يجمع عليه الجميع ويولونه الاهتمام الكلي وهو الإطاحة بالشاه فإن هذا الأمر له فائدة. وهذا يعني أنه مع وجود المساجد ورجال الدين الذين يقيمون شبكة من المعلومات والمواصلات لا يستطيع شخص بذاته أو قيادة ذات سلطة أن يوقف المسيرة وإذا حاول ذلك تركوه أو هجروه. وهذا ما يفسر القوة الهائلة التي يمارسها آية الله الخميني في الوقت الحاضر. فقد نفي الخميني من البلد قبل 15 عاماً ومنذ ذلك الحين نال بحق شهرة أكثر معارضي الشاه تصميماً. ولا غرابة أن الشعب بسبب تجاربه خلال هذه الفترة فقد أصبح هو الآخر لا يقل عن الخميني تصميماًَ على الإطاحة بالشاه يحتضن زعامته بحماس ولا يصغي إلى أي شخص آخر دينياً كان أم غير ديني ممن تظهر عليهم علامات التردد أو القبول بالحلول الوسط.
لكن للأمر وجهاً آخر. فقوة الخميني نابعة من الظرف التاريخي و هي ليست قوة بنيوية و لا دائمة . و من المنتظر أن تستمر هذه القوة , و قد تضعف حين يضعف الإجماع الشعبي بعيد سقوط الشاه و تبدأ المشاكل حول النظام البديل . و عندئذ فإن الدين سوف يتكلم بأصوات متعددة و سوف تتجاوب معها قطاعات مختلفة من الشعب بنسب متفاوتة . و العديد من الإيرانيين الذين يسيرون الآن بنشوة خلف القيادة الدينية حتى و لو لم تكن معتقداتهم الدينية على درجة عالية من الثبات , سوف يكونوا على استعداد للتفكير في حلول أخرى تنبع من مصالحهم و آمالهم في ذلك الحين . و المشاكل الطبقية التي هي الآن مغمورة أو مخفية بسبب الطبيعة الشاملة للحركة المناهضة للشاه , سوف تبرز إلى الوجود و لن يلعب الدين دور الزعامة الموحدة الذي أعطته إياه ظروف الصراع القائم حاليا" .
و مما تقدم يبدو بوضوح أن التركيب الطبقي في إيران قد تعرض لتغييرات واسعة في ربع القرن المنصرم و خصوصا" منذ الإصلاحات التي تمت في أوائل الستينات . فقد قامت طبقة جديدة من البورجوازية العليا ، جذورها في المال و الصناعة و الأراضي في المدن . و الشاه و أسرته مع ما لديهم من أموال خاصة طائلة و حقوق لا متناهية تقريباً في الوصول إلى خزانة الدولة الغنية بالنفط ، كانوا و لا يزالون في صلب عملية التغيير هذه . و نشرت صحيفة (( النيويورك تايمز )) في 10 كانون الثاني ، ( يناير ) ، مقالاً بقلم مراسلتها المالية ، آن كرتندن ، يوجز ما هو معروف عن مصالح الأسرة البهلوية المالية . و أشار المقال إلى وثيقة تقول الكاتبة أن الخبراء الإيرانيين يعتبرونها صحيحة رفعتها إلى وزارة العدل جماعة معارضة في طهران (احتجاجاً على تغلغل العائلة المالكة في كل زاوية تقريباً من زوايا الاقتصاد الوطني) و مضت الكاتبة تقول : " وتشير اللائحة إلى أن أسرة بهلوي تملك مصالح في 17 مصرفا" و شركة تأمين بما في ذلك 80 % من ملكية شركة للتأمين هي الثالثة من حيث الحجم في البلاد ، و 25 شركة للمعادن ، و 8 شركات للمناجم و 10 شركات لمواد البناء، بما فيها ملكية 25 % من أكبر شركة للاسمنت ، و 23 شركة للأطعمة و 26 شركة تجارية بما في ذلك حصص من ملكيات كل فندق كبير في البلاد تقريباً . و استناداً إلى مصدر آخر ، تملك الأسرة البهلوية 70 % من طاقة البلاد في القطاع الفندقي . و من بين هذه الملكيات بعض المشاريع المشتركة مع شركات أمريكية . و لعل أكثر هذه المشاريع أهمية هي حصة 10 % من شركة "جنرال موتورز – إيران" التي تملك شركة جنرال موتورز حصة 45 % منها . أما ما تبقى فتملكه عائلة إيرانية" .
من هذه الحقائق و غيرها مما ورد أعلاه , يسهل الاستنتاج أن البورجوازية العليا هي طبقة صغيرة متماسكة تندمج في نظام الدولة السلطوي و تنتمي إلى، بل و تعتمد على بنوك و شركات ذات ملكيات متعددة الجنسية و خصوصاً الأميركية منها . و ذهاب الشاه سوف يسدد بلا ريب ضربة موجعة إلى هذه الطبقة و سوف يجعل أفرادها عرضة لنفس الاتهامات الموجهة ضد الشاه بما في ذلك الفساد و السرقة و الخيانة . و سوف يهرب البعض إلى المنفى أما البعض الآخر فسوف يسعى للنجاة بنفسه و بماله بكل الطرق الممكنة . و سوف يلتمسون الحماية بلا ريب من الأميركيين و من الجيش . و مجمل القول إن هذه الفئة من البرجوازية العليا سوف تفعل ما في وسعها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه أو لإعادة ما يمكن إعادته من الوضع الذي كان قائماً من قبل .
و ماذا عن البرجوازية الوطنية ؟ هذه اللفظة تشير في الغالب إلى الطبقة العليا من أهل البازار . و على حد قول الكاتبين ، منتظمي و نراغي ، فإن نمط النمو في العقدين الأخيرين قد أدى إلى : " تخفيض في الحصة النسبية من الصناعة التقليدية . و البازار كان حتى زمن قريب في قلب تدفق السلع الاستهلاكية . أما الآن , و منذ بداية الستينات ، فإن غالبية أهل البازار الذين يعتبرون فترة السنوات 1950- 1954 فترة ازدهار، يرون أن السنوات القادمة سوف تكون أسوأ من كل ما سبق . و من المفارقات الغريبة أن هذه الفترة المزدهرة تتطابق مع فترة كان فيها الاقتصاد "بلا نفط" و كانت فيها السياسة في زمن مصدق تنحى منحى " الأبواب المغلقة " . و في الواقع شهدت هذه الفترة انتعاشاً في الصناعة التقليدية في صلة وثيقة مع البازار و مع الطلب الشعبي ( على النسيج و الشاي و إلى ما هنالك ) . و حصل أيضاً تطور في التصدير لسد حاجات الاستيراد التي لم تعد واردات النفط تفي بها (لوموند دبلوماتيك ، شهر ديسمبر، 1978) . و إذا أخذنا تجربة السنين الأخيرة بعين الاعتبار , نرى أن البرجوازية الوطنية من شأنها أن تساند السياسات التي تدعم الاستقلال الوطني و في الوقت ذاته توسع السوق الجماهيرية لبضائع الاستهلاك الشعبي التي لا تنتجها شركات متعددة الجنسيات و شركاؤها من البرجوازية العليا المحلية . و هذا يعني انتهاج سياسة اقتصادية تتعارض في كثير من الأمور تعارضاً مباشراً مع تلك التي انتهجت في السنوات الأخيرة , أي إعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب و مشاريع الإنعاش الاجتماعي و تشجيع الصناعة الوطنية و الزراعية و زيادة الأجور، الخ... و بما أن أهل البازار هم الحلفاء الطبيعيون لزعماء الدين الشيعة و أنصارهم لأسباب تقدم شرحها فهناك ما يدعو إلى الاعتقاد أن أهل البازار سوف ينتهجون سياسات من هذا النوع على العموم فيما يختص بالإستراتيجية الاقتصادية .
و بروز الطبقة العاملة هو أهم عامل جديد في النظام الطبقي الإيراني و هو في الوقت ذاته أبعد هذه العوامل عن الفهم الصحيح . و العمال ليسوا جمهوراً مستسلماً من الأجراء المستغلين، بل هم قوة فاعلة قادرة ليس فقط على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية الضيقة بل و على التدخل الحاسم في مجرى السياسة. و لم يشهد التاريخ الحديث إلا القليل من الأمثلة التي تشابه في روعتها و في وقعها في الفؤاد ما حدث في إيران حين قام سبعون ألفاً من عمال النفط ، و هم بين كافة العمال أرفعهم أجوراً و أكثرهم حظوة , قاموا بإيقاف صناعة النفط الإيرانية بكل إنتاجها الضخم و نظام تكريرها المعقد إيقافاً تاماً . و فعلوا ذلك الأمر لا للحصول على زيادة الأجور أو على امتيازات خاصة بل لمساندة المطالب السياسية البحتة للشعب الإيراني بكامله و القاضية برحيل الشاه و كل ما يمثله . و بالطبع لم يكن عمال النفط وحدهم في الساحة ، فهنالك جماهير العمال من مختلف القطاعات الأخرى بما فيها البنوك و سلك الدولة الذين شاركوا في النضال في ما قد يكون أقرب شيء عرفه التاريخ إلى إضراب وطني عام و مستمر . لكن عمال النفط هم الذين في يدهم القوة الحاسمة و قد تصبح في يدهم أيضاً مفاتيح المستقبل . و لا يمكن التكهن حول كيفية استعمالهم لهذه القوة . و هناك بعض الإشارات فحسب في ما ورد من تقارير صحيفة كتبها من إيران بعض صحفيي الغرب من ذوي النظر . و هاكم تقريراً كتبه يوسف إبراهيم و نشر في صحيفة "نيويورك تايمز" في 19 تشرين الثاني ، نوفمبر ، من الأهواز : "هناك وجوم في الموقف هنا و هو يعكس إرادة خطرة للاستمرار في تحدي حكم الشاه محمد رضا بهلوي . و بالرغم من تهديدات الجيش فإن الألوف من العمال لا يزالون يعملون ببطء في حقول النفط أو المصانع أو لا يزالون متغيبين عن أشغالهم . و العمال ، يساندهم التجار و الطلاب ، يرفضون الانصياع لأوامر الجيش لكي يعودوا إلى أعمالهم مع اجتناب المواجهة مع الجيش . و العمال يسمون العسكر "إخوانهم " و يحاولون كسبهم إلى جانبهم . أما الاتفاقيات التي تعقد مع العمال في الصباح فيجري تعطيلها في فترة بعد الظهر ، و في كل يوم طلبات جديدة . و السياسات القمعية كاعتقال زعماء الثورة ، لا تجدي نفعاً . و من الواضح أنه على الرغم من اختلاف مطالبها ، إلا أن شتى الفئات في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 450 ألفاً تجمع على رفض نظام الشاه . و في شوارع المدينة كما في منعطفات البازار و في حرم جامعة جنديسابور المترامي الأطراف ، لا تسمع أية كلمة تنم عن عطف على الشاه أو على عائلته . و في "السوبر ماركت" المسمى " هزلية"، حيث لا يزال عمال النفط المضربون يشترون حوائجهم ، قال أحد العمال و يدعى ياسين ، إنه لا يهتم بخسارة إيران المالية من جراء تضاؤل صادرات النفط . و قال: " لم نلمس هذه الأموال يومياً , فقد كانت كلها تذهب إلى جيوب علي بابا و لصوصه الأربعين". و قال مبتسماً يغمز بعينه إنه يعني الشاه و أقربائه" .
و بالرغم من أن مناهض الشاه الرئيسي ، آية الله الخميني ، يحظى باحترام كبير هنا، لكن الأحاديث مع عدد من العمال أشارت إلى أن دعمهم للزعيم الديني المنفي يرجع إلى معارضته للشاه لا إلى اعتبارات دينية . و قال أحد العمال في هيئة المياه و الطاقة: "إن آية الله الخميني قد جلب أنظار العالم إلى مشكلتنا هنا و جعلهم يدركون أن الشاه ألعوبة في يدي الأجانب الذين يسرقون أموالنا " . و الشعور بأن الأجانب و خاصة الأميركيين هم الذين يتحكمون بمصير إيران و سياساتها ، شعور سائد في هذه المدينة و هي عاصمة مقاطعة خوزستان ، مركز النفط الإيراني . و العداء للولايات المتحدة يؤججه اعتقاد شامل أن السبب الوحيد لوجود الشاه في مركز السلطة هو الدعم و المشورة التي يتلقاها من وكالة المخابرات المركزية و المستشارين العسكريين الذين يدربون الجيش الإيراني . و في صفوف التقنيين الإيرانيين المثقفين العاملين في شركات النفط في الأهواز، يتخذ الاستياء من الخبراء الأجانب أبعاداً واقعية . و قال مهندس يعمل في شركة إيرانية – أميركية للمعادن إن معظم العمال الأجانب في شركته لا حاجة لهم . و قال : " لدينا عمال تقنيون هنا قادرون على القيام بعملهم . لكن الحكومة تسمح للأجانب أن يديروا الشركة كما يشاؤون و أنا أعلم أنهم يعملون لمصلحة بلادنا و صناعتنا و هدفهم الأول هو الإبقاء على إيران في وضع تبعي إلى الأبد " . و يبدو أن هذا الاستياء المتزايد من التدخل الأجنبي في إيران مرجعه في الأساس إلى الشعور القومي لا إلى الشعور المناهض للغرب . و قال عدد من أساتذة الجامعة هنا أن على البلاد أن تنهج السياسة النفطية التي انتهجها رئيس الوزراء الراحل محمد مصدّق و هي، أن تنوع إيران بائعيها . و قال أستاذ في الهندسة أن البلاد لا يجب أن تبيع نفطها بكامله إلى الغرب و غازها الطبيعي بكامله إلى الاتحاد السوفياتي . و إيران تبيع الغاز الطبيعي إلى الاتحاد السوفياتي منذ العام 1970 و هي تضخه من حقول النفط الجنوبية إلى الحدود السوفياتية في استره . و غالبية طبقات هذا المجتمع – من عمال و طلاب و تكنوقراطيين من الطبقات الوسطى و تجار البازار – لا يعتقدون أن الشاه صادق في وعوده حول الإصلاح السياسي " . كتب هذا التقرير قبل شهرين و هو اليوم أقرب إلى الواقع مما كان في تشرين الثاني , نوفمبر (1978) . و إذا استقرأنا المستقبل و قرأنا بين السطور , قد نرى بدايات نهج قد يشكل أساساً لتحالف طبقي شامل يضم العمال و الطلاب و المثقفين و التقنيين و أهل البازار و الزعماء الدينيين . و قوة العمال , كما برهنت التجربة ، هي سوف تجعل من هذا النهج أكثر من مجرد أمل أو مشروع على الورق . و سوف تجتمع الكلمة بالطبع على استقلال الأمة و اكتفائها الذاتي, الأمر الذي يتطلب سياسات تختلف اختلافاً تاماً عن سياسات السنوات الأخيرة في كل حقل تقريباً من الحقول الاقتصادية و الاجتماعية . أما المرتكز التاريخي فهو نظام مصدق الذي انهار و هو يناضل في سبيل المبادئ و الآمال نفسها التي تسود النضال الحالي . و العقبة الرئيسة التي تعترض مثل هذا التطور , باستثناء الخلافات التي قد تنشب في صفوف قوى المعارضة الحالية ، هي بالطبع القوات المسلحة التي سوف تلقى بلا ريب تأييداً تاماً من الأميركيين و القوى الامبريالية الأخرى . و هذه عبرة تاريخية كان على الإيرانيين أن يتعلموها بأصعب الطرق منذ سقوط مصدق قبل ربع قرن و مروراً بالصراع مع الشاه في العام المنصرم . و من المتوقع أن لا ينسى الإيرانيون هذه العبر بسرعة . لكن يبقى السؤال الذي لن يجيب عليه سوى التاريخ و هو : هل باستطاعة حكومة تضم طبقات عدة و تسعى نحو الاستقلال الوطني الحقيقي في بلد ذي موقع استراتيجي كإيران يملك موارد طبيعية هائلة ، هل باستطاعتها أن تؤسس جيشاً و تحافظ على السيطرة عليه ؟ هذا السؤال لا يشبه في الواقع السؤال عما إذا كان من الممكن في الظروف الحاضرة أن يحدث انقلاب عسكري طالما أن سلك الضباط الذي أسسه الشاه لا يزال على حاله تقريباً . و لا يظن آية الله الخميني أن هذا الأمر ممكن إذ قال في حديث مع فلورا لويس نشرته صحيفة نيويورك تايمز , في 11 كانون الثاني ، يناير ، ما يلي : " لا بد لي من القول أن الانقلاب العسكري لن ينجح في إيران " و كان الخميني يشير إلى انقلاب قد يحدث ضد حكومة بختيار التي هي طبعاً حكومة مؤقتة , و رأيه في الأرجح رأي صائب . فإيران تعيش منذ عدة شهور تحت نظام لا يختلف كثيراً عن ديكتاتورية عسكرية واضحة . و إذا لم تستطع هذه الديكتاتورية أن تحافظ على السلطة فمن الصعب التكهن بنجاح جنرالات الشاه في استبدال هذا النظام بنظام مثيل أنجح منه . و تشير التقارير الواردة من واشنطن إلى أن الحكومة الأميركية نفسها تدرك هذا الأمر فقد أرسل الجنرال هيسر و هو نائب القائد العام لقوات الحلف الأطلسي إلى طهران ليحذر الجنرالات المتعصبين من مغبة القيام بهذا الانقلاب . لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن هنا فجذورها أعمق بكثير . فالحكومة العتيدة ، حتى إن كان لها برنامج اقتصادي شعبي و عملي ، سوف تحتاج إلى قوات مسلحة ذات شأن لأجل الدفاع عن استقلال البلاد و لكنها طبعاً لن تكون أبداً كالمؤسسة العسكرية الضخمة التي صرف الشاه عليها حتى الآن مابين 10 و 20 بليون دولار ) . و سيستمر الصراع الطبقي ( و يزداد حدة من آن لآخر ) و سوف ينعكس هذا الصراع على الانقسامات و الأزمات الحكومية . أما القوات المسلحة فلن تبقى أبداً على الحياد في مثل هذه الصراعات و سوف تساند دائماً القوى المحافظة في الداخل و القوى الامبريالية في الخارج . و مع مرور الزمن فقد تصبح هذه القوات محوراً للصراع و تكون في وضع يسمح لها بحسم الأمور . و لربما أصبحت في وضع يتيح لها الحسم ما لم يحافظ العمال على قوتهم ، التي لا جدال فيها بعد اليوم ، و يكونوا في حالة استنفار دائمة للتدخل الحاسم في صراع الطبقات كما يتدخلون الآن في الصراع للإطاحة بالشاه . و لا جدال أنه من المستحيل التكهن بما إذا كانت حركة العمال الإيرانيين سوف تنمي إرادتها و قدرتها على الاستمرار في لعب دور بارز في سياسة البلاد بعد مضي الأزمة الراهنة . لكن هنالك أمراً واحداً أكيداً و هو بروز البروليتاريا الإيرانية بقيادة عمال النفط كقوة في مقدورها أن تلعب هذا الدور في وضع تاريخي جديد له أبعاد عالمية . و لطالما ركزنا في مقالاتنا في هذه المجلة على أن الشرط الرئيسي لحصول تقدم حقيقي في بلدان العالم الثالث هو انفصام ثوري في علاقاتها التبعية مع المراكز الميتروبولية (العواصم) الكبرى . و كتب أحدنا في هذا المقام في عدد المجلة الصادر في كانون الثاني ، يناير ، 1978 ما يلي : " إن مثل هذا الانفصام الثوري هو وحده الكفيل بتحقيق نمط جديد من التطور يرتكز إلى رفاه الطبقات المنتجة الحقيقي . و هذه فكرة قد جاءت في وقتها المناسب و مثل تلك الأفكار من شأنها أن تكون على جانب عظيم من القوة. و مع أن تطور الصناعة تحت سيطرة شركات مختلفة متعددة الجنسيات قد نفع القلة و أضر بالكثرة ، فإن هذا التطور مع ذلك قد جلب إلى بلدان عديدة العلم و الخبرة في مبادئ التكنولوجيا الحديثة و أوجد طبقة عاملة صغيرة و لكن تكمن فيها قيادة بالغة الأهمية , أولاً كقوة ثورية للإطاحة بالنظام القديم , و ثانياً , كقوة بناءة لتشييد الجديد " ( ص 7 ) . و قد برهن عمال إيران حتى الآن على صدق هذا القول فيما يختص بالإطاحة بالقديم ، أما السؤال القادم و المهم على جدول أعمال التاريخ فهو : هل باستطاعة العمال أيضاً أن يلعبوا نفس الدور الرائد فيما يختص ببناء جديد ؟
أزمة الهيمنة الأميركية :
أشرنا فيما سبق إلى أن سقوط مصدق في العامين 1952 و 1953 على يد الجنرالات الإيرانيين و بمعاونة وكالة الاستخبارات المركزية كان النقطة الفاصلة لانتقال الهيمنة الامبريالية في الخليج الفارسي / العربي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة . و منذ ذلك الحين اتبع الأميركيون ، الجمهوريون منهم و الديمقراطيون ، إستراتيجية لها جانبان في إيران .
فقد سعوا من جهة إلى بناء قوات إيران المسلحة لتصبح أقوى جيوش المنطقة . و في تلك الأثناء تم توسيع و تثبيت تبعية القوات للولايات المتحدة كمصدر للسلاح و مدرب و كقوة تحمي البلاد من الدولة العظمى الأخرى التي تقبع على حدود إيران الشمالية . و من جهة أخرى سعوا لتطوير إيران كمستعمرة جديدة تعود بالفائدة الكبرى - كمصدر للنفط لا تفوقه إلا السعودية ( المحكوم عليها بالضعف العسكري بسبب ضآلة السكان و هم حوالي 10 ملايين بالمقارنة مع أكثر من 35 مليوناً في إيران ) ، و سوق غنية للصادرات الأميركية المتطورة تكنولوجياً ( خصوصاً الأسلحة ) و كميدان فسيح جداً للاستثمار المباشر و عمليات الإنتاج من قبل شركات أميركية متعددة الجنسيات . و كان الشاه منذ البداية أداة طيعة ثم بدأ يلعب أكثر فأكثر دور نائب الحاكم ذي الحظوة الكبرى في النظام الأميركي العالمي الامبريالي .
و سارت الأمور على ما يرام لربع قرن تقريباً و اعتاد الجميع على الأمر إلى أن بدؤوا يتصرفون و كأنه جزء من النظام الطبيعي للأمور . فقد كتب جون . ب . آوكس ، و هو من كبار رؤساء التحرير في صحيفة (( نيويورك تايمز )) عن حديث أجراه مع الشاه في قصره بطهران في أيلول ، سبتمبر 1975 ، يقول: "أوضح لي الشاه الذي بدت عليه إمارات الارتياح و السعادة ما يلي: "إن نظامنا يناسب العقلية الفارسية تماما" ... و قد تساءلت ، لم الدولة محصورة بي، بشخصي ... و إذا كنت في هذا المنصب الفريد فالسبب يكمن في ما أمثله، أي الأمة ... إن الشعب معي " . هذه الكلمات بالطبع كانت هي التي أرادت الإدارة الأميركية أن تسمعها ، و وصل بها الأمر إلى حد منع ممثليها في طهران منعاً باتاً - أي السفارة و وكالة الاستخبارات المركزية - من الحديث مع من قد يسمعهم كلاماً من نوع آخر .
و عندما انفجر الوضع القائم في وجوههم ، أصيبوا بصدمة و دهشة عظيمين . و حدث ذلك في تشرين الثاني ، نوفمبر . و منذ ذلك الزمن لا نبالغ إذا قلنا أن إيران قد أصبحت الهاجس الأكبر لرجال الأعمال و الحكومة . فلا يمر يوم بدون فيض جديد من القلق و الغضب و الخيبة في وسائل الإعلام المطبوعة منها و الالكترونية . و هاكم أمثلة على ما ورد في عناوين الصحف للشهرين المنصرمين من الصحافة البرجوازية المحترمة :
1- "انتفاضة إيران تودي باقتصاد ديناميكي" . مجلة Business Week 27 تشرين الثاني ، نوفمبر .
2- " الصراع يشل اقتصاد إيران ". (( نيويورك تايمز )) ، تشرين الثاني ، نوفمبر .
3- " شركة تكسترون توقف الطوافات الإيرانية ". "نيويورك تايمز " 6 كانون الأول ، ديسمبر .
4- " الإضرابات في إيران كابوس للعديد من الشركات الأميركية "، "نيويورك تايمز" 22 كانون الأول ، ديسمبر .
5- " توقف تام و مخيف عن الحركة في إيران ". " نيويورك تايمز ". 23
كانون الأول , ديسمبر .
6- " الأزمة في إيران تخيف الأصدقاء و الأعداء ". " نيويورك تايمز ". 31 كانون الأول ، ديسمبر .
7- " يوم لف بساط الريح و طوي أمره " . مجلة Euromoney ، عدد كانون الأول ، ديسمبر .
8- " الشركات الأميركية في إيران توقف إنتاجها ". " نيويورك تايمز " 3 كانون الثاني ، يناير .
و لا يرد أي ذكر ، حتى و لو على مضض ، للإشادة بشعب كامل انتفض يطالب باستقلاله و بالتحكم بمصيره . و من سخرية القدر أن هذا الشيء هو نفسه الذي يفتخر الأميركيون أنهم قاموا به بنجاح قبل مائتي عام ! و في هذه الأثناء , و في داخل الحكومة الأميركية نشاهد مسرحية هزلية تتم فصولها على عدة مسارح في واشنطن ، و كتب ريتشارد برت في ركن " تحليل الأخبار " في " النيويورك تايمز " في 12 كانون الثاني ، يناير ، يقول : "إن تعامل إدارة الرئيس كارتر مع الأزمة الإيرانية قد أصبح موضع مساجلات داخلية عنيفة ، و يقول العديد من المسؤولين أن الخلافات مابين الوكالات الحكومية و الحلول الوسط التي تقترحها البيروقراطية قد أعاقت جهود الرئيس كارتر و أبرز مستشاريه لخلق و تنفيذ إستراتيجية شاملة " .
و يصف برت النزاع المرير بين بريجنسكي و فانس ثم يصف قيام لجان كبيرة و غير منظمة تضم كافة الدوائر الحكومية التي لم تنجح سوى في زيادة المشاكل تعقيداً فيما يختص بتحديد أهداف سياسة معقولة و تنفيذها " ، كما يصف التخبط في المواصلات بين واشنطن و طهران و البحث الجدي في خطة ترسل بموجبها قوة بحرية إلى مدخل المحيط الهندي ، الخ ... و في السطر الأخير من هذا المقال إسفاف شديد ، و هو كما يلي : " و في البيت الأبيض قال مسؤول كبير إن منتقدي سياسة الإدارة فشلوا في فهم عجز الإدارة عن التأثير في مجرى الأزمة الإيرانية " . و أضاف المسؤول: " لم تستطع القيام بأي عمل هام من شأنه أن يعطي نتائج إيجابية " . و هذا صحيح ، و لكن من الأوضح لو استهل هذا المسؤول حديثه بمقدمة يفسر فيها كيف أن سلسلة كاملة من "الأعمال الهامة " الأميركية هي التي خلقت هذه الأزمة التي لم تعد واشنطن قادرة على السيطرة عليها ؟
و من الجلي أن سياسة أميركا العالمية قد أصيبت بأسوأ هزيمة منذ فيتنام . و بما أن نفط إيران و السعودية أهم بكثير للامبريالية من أي شيء آخر في فيتنام و جنوب شرق آسيا فإن هذه الهزيمة قد تمسي أعظم خطراً من هزيمة فيتنام . و في كلا جانبيها ، أدت الإستراتيجية الأميركية إلى نقيض ما كانت تسعى إليه، إذ أن هذا الشرطي الإقليمي القوي الذي عقدت عليه الآمال يميل الآن نحو عدم الانحياز و إذا ازداد عليه الضغط غير المرغوب فيه فقد ينقلب عدواً . و حلم المستعمرة الجديدة المربحة أصبح كابوساً حيث بلد مستقل غني بالنفط يسعى للإفلات كلياً من السيطرة الامبريالية . و لم نصل بعد إلى نهاية المطاف ، فقد أنهت فيتنام أسطورة القوة العسكرية الأميركية التي لا تقهر و إيران تنهي أسطورة أخرى و هي أن الإرهاب الشرعي لا يصلح في النهاية كنظام للحكومة. و في رأي جميع الثوار العظام فإن الشعب هو في النهاية صانع التاريخ . و إيران الآن تبرهن عن صحة هذا الرأي .

شباط / فبراير 1979





ننشر هنا رأيين مختلفين حول دور إيران الإقليمي ، وموقعها من السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. قدم الرأي الأول أحمد العزّاوي وهو رأي ينطلق في تحليله من موقع طائفي – قوموي بالتالي يصل إلى النتيجة التي وصل إليها في عدائه لإيران، وطبيعي أن هذا العداء يخدم من حيث لا يدري المشروع الأميركي للشرق الأوسط على المستوى التكتيكي . أما الرأي الآخر فهو لفهد العلي حيث ينطلق من موقع مفاده أن البوصلة في التحليل السياسي تنطلق من كون المركز في هذا التحليل هو المشروع الأميركي للشرق الأوسط والسياسات الأميركية العدوانية تجاه شعوب المنطقة سواء أكانوا عرباً أم فرساً أم كرداً أم ترك. بالتالي يستفيد هذا التحليل من موقع إشراف موات على المسألة المطروحة، ويستفيد سياسياً من موقع إيران المعرقل للمشروع الأميركي للشرق الأوسط؛ "الجديد". والمناصر للعمل العربي المقاوم للاحتلال الأميركي والإسرائيلي للأراضي العربية.
إننا في هيئة تحرير "جدل" ندعو جميع اليساريين والديمقراطيين في المنطقة للمساهمة في هذا النقاش "الدقيق" والحساس ، بروح متفهمة ومسؤولة.
المحرّر


























إيران والعرب

أحمد العزّاوي*

كانت زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للعراق في آذار الماضي علامة فارقة بالغة الدلالة في ظل الأوضاع القائمة في المنطقة والعراق بصفة خاصة، لتشكِل علامة استفهام عميقة عن طبيعة العلاقة الحقيقية بين النظام الإيراني والولايات المتحدة الأميركية، نظراً للخطاب الإيراني المتطرف في عدائه للأميركان من جهة والممارسة الفعلية قبل احتلال العراق (وأفغانستان) وأثناءه وبعده.
عبَر وزير الخارجية الإيراني عن ذلك (وكذلك وزير الدفاع) قبل احتلال العراق وأثناءه، بالقول:"المصالح الإيرانية لها الأولوية على ما عداها".كما وجاءت كلمة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي لتكون حاسمة في هذا الأمر حيث قال:"لولا إيران لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من احتلال العراق وقبله أفغانستان".
فكيف رضي الإيرانيون ، في ظل صراعهم المحموم مع الولايات المتحدة،أن يقعوا بين فكي كماشة، وما الثمن الذي قبضوه؟.
جاء احتلال أفغانستان من قبل الأميركان في عام2001 من منظور جيو- استراتيجي يتعلق بإعادة ترتيب العالم وفق مصالح النظام الدولي الجديد من جهة وللجم القوة الروسية من جهة أخرى حتى لا يتكرر أوكتوبر 1917 من جديد. فهل سهَل النظام الإيراني الأمر نتيجة ضعف في الرؤية الإستراتيجية أم أن هناك اصطفافات وتفاهمات لا تلبث أن تعبر عن نفسها بين الفينة والأخرى؟.....
بالنسبة للعراق فالوضع مختلف إلى حد "ما"، فهناك عملية فتك وتمثيل بجثة العراق بصورة تعكس حقداً لا حدود له، حيث يأخذ الإيرانيون وضعية الكواسر،بما يشي ببعد تاريخي لابد من استعادة بعض محطاته.
إن مراجعة التاريخ فيما يخص العلاقات العربية- الفارسية تبين تعطشاً دائماً للسيطرة على المناطق الواقعة غرب بلاد الفرس.ابتدأ هذا الأمر عميقاً في التاريخ منذ أيام قورش الذي عمل على مساعدة اليهود في كتابة ثقافة و تاريخ مسروقين من تراث بابل المحتلة من قبله في عام (539ق م) ومن ثم عمل على إعادة اليهود إلى فلسطين لتأسيس كيان يحرس مصالح الاحتلال الفارسي للهلال الخصيب و مصر التي احتلت عام 525 بعد سقوط ذلك الهلال بيد الفرس.أدى هذا بالتتابع التاريخي إلى تناقض وصدامات مع العرب حتى كانت معركة (ذي قار) 609 م ، قبيل عام من ظهور الإسلام، الذي اغتبط النبي محمد بنصر العرب بها وكانت كلمته المشهورة:"في يوم ذي قار انتصف العرب من العجم"، ثم كانت ميوله نحو الروم المدعمة بخطاب قرآني:"غلبت الفرس الروم في أقصى الأرض،وبعد غلبهم يُغلبون".
توقفت الفتوحات العربية عند حدود بلاد فارس باعتبارها الحدود الطبيعية،إلا أنه بعدما استعاد الفرس قوتهم ،وبدأوا بالتعدي على الدولة العربية الوليدة،عمل العرب في معركة ( نهاوند) مكرهين على فتحها رغم أمنية الخليفة عمر بن الخطاب" بأن يكون بينهم وبيننا جبل من نار"، ليتم اغتياله بعد ثلاث سنوات على يد ( أبو لؤلؤة) الذي شيد له بالسنوات الأخيرة مسجد باسمه في إيران رغم كونه لم يعتنق الإسلام ومات زرادشتياً؟...
تشكل الدولة الصفوية محطة بارزة في التاريخ الفارسي،حيث قادت المصالح القومية إلى إنشاء حالة مذهبية إسلامية خاصة ،بعد أن كان المذهب السني سائداً في بلاد فارس حتى القرن الميلادي السادس عشر، ليستبقي ذلك الفرس في الدائرة الإسلامية بدون القطع مع النزعة الإمبراطورية، حيث حاول الصفويون بالقرنين السادس عشر والسابع عشر احتلال العراق عبر هجمات متكررة، حتى انكفأوا إلى حدودهم التاريخية منذ عام1640.
في العصر الحديث لم تنطفئ جذوة الأطماع الفارسية تجاه العرب، فتمَ احتلال عربستان، وتمت مطالبة الشاه بالبحرين
– وهي تكررت مؤخراً بإحدى الصحف الإيرانية عبر مقال لأحد المسؤولين الإيرانيين- ثم حصل احتلال الجزر الثلاث، وفي أوائل السبعينيات كرست إدارة نيكسون شاه إيران شرطياً للخليج العربي، وقُدم له الدعم اللازم مما كرسه حاكماً أوحد على منطقة الخليج حامياً للأنظمة الحاكمة و لاجماً أية محاولة للنهوض في المنطقة.
بعد أن استقر الأمر للشاه تحركت بداخله نزعات للخروج من النفق فعمل على تأميم النفط وشارك في استغلال حظر النفط العربي أيام حرب تشرين1973 من أجل دفع منظمة الأوبك لرفع أسعار النفط وبدأت عنده نزعات للاستقلال عن واشنطن، وهذا ما عجل في نهايته التي تمت وسط حياد الغرب بخلاف أيام ثورة مصدق بالخمسينيات.
تميزت السياسة الإيرانية بعد عام1979 بشهوانية لا حدود لها تجاه المنطقة العربية، وفي مقدم اهتمامها كان العراق، فعملت تحت يافطة(تصدير الثورة) إلى تحريض شيعة العراق ضد السلطة القائمة على أساس أنها"سنية"، فيما لم تبدر خيانة واحدة من جندي عراقي طيلة ثمان سنوات من الحرب الإيرانية- العراقية على الرغم من أن القوام الأساسي للجيش العراقي من الطائفة الشيعية، يضاف إلى ذلك أن ثمانية وثلاثين من أصل خمس وخمسين هم من الشيعة وفقاً للائحة المسؤولين العراقيين المطلوبين من الأميركان بعد الاحتلال.
كانت إيران هي البادئة في الحرب على العراق في يوم4أيلول1980 حيث اعترف صراحة أحد المسؤولين الإيرانيين أن الضربات المدفعية على العراق لم تكن كافية لإشعال الحرب، وكان الرد العراقي في يوم 22 أيلول.في العام 1982 عُرضت الهدنة لوقف الحرب فرفضها الجانب الإيراني الذي اتجه لاحتلال الأراضي العراقية مشترطاً لوقف الحرب سقوط صدام حسين، فاستمرت الحرب حتى عام1988 حيث قال الخميني يوم موافقته على وقف إطلاق النار"أن تجرع السم أهون عليه من القبول بوقف الحرب".
أتى احتلال العراق في عام2003 بعد سنوات طويلة من الحصار الأميركي وتدمير بنيته التحتية وإثر استنزاف طويل للدولة من قوى بالشمال المدعوم من الأميركان وإيران والجنوب المدعوم إيرانيا بما يعرف بعملية شدِ الأطراف، رغم ذلك صمد العراق أمام الغزو الأميركي اثنين وعشرون يوماً بنظامه الديكتاتوري ، بينما لم تصمد فرنسة بديموقراطيتها العتيدة أمام هتلر سوى أحد عشر يوماً.
لم يكتف النظام الإيراني بدفع الآلاف عبر الحدود من(فيلق بدر) للدخول مع جيش الاحتلال ومساعدته في تدمير واحتلال العراق، ولا في تدريب عناصر البشمركة الذين يسمون حتى من قوى كردية بـ"جيش الإقطاع السياسي الكردي"، وإنما وصل الأمر للتدخل المباشر من المخابرات الإيرانية وللسيطرة المباشرة على إدارات الدولة في الجنوب العراقي، وبغداد مواربة. يضاف لذلك احتلال بعض المناطق العراقية المتاخمة للحدود والغنية بالنفط باعتراف عصام الجلبي وزير النفط السابق، ليجتمع ذلك مع تشكيل فرق الموت ومطاردة وقتل العلماء والمفكرين، واغتيالات طالت الكثير من الطيارين الذين شاركوا في الحرب الإيرانية-العراقية.
خلال القرنين الماضيين كان هناك محاولات في هذه الأمة للنهوض؛ مع محمد علي باشا، وجمال عبد الناصر. كان المشروع العراقي ثالث محاولات النهوض. في يوم إعدام الرئيس العراقي صدام حسين ، صبيحة عيد الأضحى،اجتمع ثلاثة فقط على التهليل بذلك ، هم أميركا وإسرائيل وإيران...............فهل هذا مجرد مصادفة؟..........

*- سوري مقيم في أوروبا
الإيميل[email protected]









كيف للعرب أن ينظروا إلى إيران الجارة في هذه المرحلة؟
فهد خالد العلي

استطاعت الدعوة الإسلامية أن تجمع بين العرب والفرس بأمور وركائز عدة وعلى رأسها العقيدة الدينية الواحدة، مما أدى إلى استبعاد نقاط الخلاف التي كانت سائدة في الجاهلية، وأضحى ما يجمع أكثر مما يفرق، واستمر الحال كذلك إلى مطلع العصر الغربي الأوروبي حيث بدأ الغرب ينشر طرقه وأساليبه في المنطقة لتحقيق مصالحه وإرساء إستراتيجيته.
هنا ظهرت قضية (شيعة وسنة) وتغلبت على قضية عرب وفرس (وترك)، وكان ذلك لشق لحمة الجمع والتراص التي كانت سائدة لدى تلك الشعوب بحكم الإسلام، وكان المستفيد الوحيد من تلك المنازعات هو الغرب وإستراتيجيته البعيدة والتي تظهر تارة و تتلطى أخرى وراء أشياء أخرى، حتى أتت الإستراتيجية البوشية في الوقت الراهن والتي لا تتوانى بالسعي لإيجاد أي شرخ يمزق شعوب المنطقة، إذ نراها في العراق تناصر الشيعة ضد السنة إلى أن ترى بوادر مقاومة لمشروعها داخل الشيعة فتسارع لمحاربتها، وما يجري بين التيار الصدري من جهة و الأميركان وحكومة المالكي – المهيمنة عليها قوتان شيعيتان هما (حزب الدعوة) و(المجلس الأعلى )- من جهة أخرى أكبر مثال، كما نراها تارة أخرى تناصر سنة تيار المستقبل- وحلفاؤه المسيحيين والدروز- ضد شيعة حزب الله في لبنان، كما تناصر سنة حكومة عباس ضد سنة حماس والجهاد وبقية الفصائل المقاومة للمشروع الأميركي- الصهيوني.
هكذا هي الحال الآن: لأجل ذلك علينا أن نحلل الواقع الملموس لطبيعة المرحلة والفاعلين فيها قبل أن نتخذ موقفاً سياسياً قد تخدم المشروع الأميركي ومن حيث لا ندري، وهذه هي مهمة (تيم) كفصيل سياسي يسعى لتقديم صدقية متميزة، حيث يمتاز التحليل الماركسي- وفق جدلية ماركس- عما سواه برؤية علمية تذهب لقراءة ما جرى ويجري من أحداث في منطقتنا من أجل كشف الحقائق وتقديم المواقف السياسية المناسبة بوضوح وشفافية، وعليه فإن رؤية الغرب المتصهين الآن للإسلام لها هدف واحد، وهو تفتيت وبعثرة قوى المسلمين.إن أي طرح يقدم متناسياً وعن قصد، أن الإسلام الحقيقي الذي أتى به رسول الإسلام هو جسم متحد لا يحلق عالياً إلا بجناحيه معاً- أي السنة والشيعة- ولذلك يسعى الغرب لضرب أحد الجناحين بالآخر كي يبقى هذا الجسم جثة هامدة، هو طرح لا جدوى منه،كما أن الأصوات الرائجة الآن عبر أغلب الحكام العرب، الموجهة ضد القوى العربية والإسلامية المقاومة للمشروع الأميركي سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين، تهدف إلى تقطيع أوصال هذه القوى وتحطيم أي مصدر داعم لها، لاسيّما المصدر الإيراني، عبر حجج ودعايات لا أساس لها، فدولة إيران تسعى في هذه المرحلة لأن تكون صوتاً مخالفاً لمشروع أميركا في المنطقة وسعيها هذا له ثمن غالٍ قد يودي بها إلى دمار أشبه بما حصل للعراق، ومهما كان الهدف الإيراني من هذا الصوت المخالف للأميركان فهذا شأن إيران الخاص وهي وحدها صاحبة الصلاحية لمجابهة المحاولات الأميركية المتعددة لخنق هذا الصوت.
تسعى الولايات المتحدة لاستخدام كافة الوسائل من أجل إضعاف موقع إيران سواء عبر حلفائها بالمنطقة أم عبر استخداماتها المباشرة لقوتها، أما نحن العرب فقد حققت واشنطن هدفها بخلق أنظمة تحكم شعوبنا استطاع الأميركان توزيع الأدوار المناسبة عليها لخدمة المصالح الأميركية وأهداف المشروع الأميركي المتصهين، وهذه الأنظمة تقوم بتنفيذ الأدوار المسندة لها بدقة وعند تخلف أي منها فأميركا على استعداد للإطاحة به وعبر معارضات تصنعها أو تشارك بصنعها ، وعلى أن لا تختلف من حيث الفعالية والقوة عن تلك الأنظمة بشيء... لذلك لا نرى عجباً أن يخرج صوت هنا أوهناك والذي كان آخره صوت ممثل ديبلوماسية النظام المصري: "لا نرغب أن نرى إيران ساعية إلى الدمار"، ومهما كانت الغاية من هذا القول فهو يؤكد بأن الصوت الممانع للمشروع الأميركي لن تدعه واشنطن حراً و بلا عقاب، ولكن أليس حريّاً بنا كيسار عربي ، يسعى لأن يكون له مكان في المساحات المقموعة والمحتلة من وطننا العربي، أن نسجل الآن وفي هذه المرحلة بالذات موقفاً متميزاً ومستقلاً حيال المجابهة القائمة بين إيران الجارة وبين المشروع الأميركي المتصهين؟.......ألم يحن الوقت ليخرج صوت حر من دنيا الخطوط السياسية العربية المتعددة ليقول وبوضوح حقيقة ما جرى ويجري وسيجري في منطقتنا الشرق الأوسطية وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية؟...........
إنني، وغيري كثر، من المنتظرين من (تجمع اليسار الماركسي) موقفاً بعيداً عن مواقف المعارضات الليبرالية العربية ومواقف الأنظمة العربية اللاهثة لتسوية أوضاعها مع الولايات المتحدة ودولتها المدللة إسرائيل، موقفاً يعلن بوضوح: (العرب والفرس، وحتى الترك، مستهدفون كشعوب وكقوى سياسية من المشروع الأميركي المتصهين الخاص بمنطقتنا، وعلينا وقبل فوات الأوان أن نرفع صوتنا عالياً بالقول :لا لهذا المشروع ، ولا لمن يلاقيه أو يهادنه سواء أكان الملاقي أو المهادن نظاماً حاكماً أو حزباً معارضاً، ولا للمساعي الأميركية والصهيونية لتكريس الخلاف والشقاق بين شعوب هذه المنطقة، لأن في ذلك نصرة للمشروع الأميركي وتسهيلاً له ).
وهنا، وقبل ختام هذا المقال أطرح على شعبنا العربي وقواه المتحررة تساؤلاً مشروعاً يتضمن العودة إلى زمن الشاه الحاكم لإيران سابقاً، ملخصه: عندما قام النظام الإيراني السابق، وبالتعاون مع الدول الغربية بضم عربستان والجزر العربية في الخليج العربي، كان حكام وأمراء العرب في عز ولائهم للغرب، وكان هذا الضم لا يعنيهم كسلطات مفروض بها حماية الحقوق العربية، وبعضهم كان في سدة الحكم عندما أطاح شعب إيران بآخر شاه، واستمر أمرهم هكذا ودون أن يحركوا ساكناً إلى أن ظهر المشروع الأميركي المتصهين الجديد للمنطقة وظهرت معه مخططاته الداعية إلى تحرير هذه الجزر العربية من يد نظام إيران القائم المقاوم لهذا المشروع لتطفو على السطح هذه القضية ضد إيران بالذات دون أي التفات لقضايا الاحتلال الأخرى لأجزاء أخرى من وطننا العربي سواء في فلسطين والجولان ولواء اسكندرون والمغرب العربي (سبتة ومليلة).
إن في ذلك لعبرة وإن في ذلك لهدفاً وفي هذه المرحلة بالذات، وإن الساعي لتعويم هذه القضية على السطح ليس الدم العربي الذي يجري في عروق هؤلاء الحكام بل هي المهمة الأميركية الموكولة إليهم رغم أنوفهم.
هو مشرف وعظيم أن يتحرك حكامنا يداً واحدة لتحرير كل جزء محتل من أرضنا العربية، ولكن هيهات منهم هذا الهدف وهذا المطلب،فهم لا حول لهم ولا قوة إلا بما تمليه عليهم الدول الغربية لخدمة مصالحها ومشاريعها في منطقتنا، ولذلك لن تخفى على شعوب المنطقة طروحاتهم وأقاويلهم ومواقفهم المأجورة، فهم في واد وقضايا العرب والعروبة في واد آخر، وهي منهم براء.





































الإسلام السياسي «في خدمة الإمبريالية»!؟
سمير أمين•
كل التيارات التي تزعم الالتزام بالإسلام السياسي تعلن وجود شيء اسمه «خصوصية الإسلام». ووفقاً لهؤلاء، الإسلام لا يعرف شيئاً عن فصل السياسة عن الدين، إذ هذا شيء مميز فقط للمسيحية.
بيد أن هذا الموقف يكرر حرفاً بحرف ما كان يقوله الرجعيون الأوروبيون في بداية القرن التاسع عشر (مثل بونالد وميستر) لإدانة التمزق الذي أنتجته الثورة الفرنسية وعصر الأنوار في تاريخ الغرب المسيحي!)
كل تيار في الإسلام السياسي يقوم، على أساس هذا الموقف، بتأسيس عمله على أرض الثقافة. أي ثقافة؟ فقط تلك التي تتقلص إلى مجرد تأكيد الانتماء التقليدي إلى دين معيّن. هذا يشكّل جل اهتماماتهم. وبالطبع، مثل هذه الرؤية لحقيقة العالم الحديث ليس فقط محبطة بسبب الفراغ الفكري الذي تتضمنه في ثناياها، بل أيضاً لأنها تبرر إستراتيجية الإمبريالية في إحلال ما يسمى صراع الثقافات مكان الصراع بين المراكز الإمبريالية والأطراف التي تهيمن عليها هذه المراكز.
إن التشديد الحصري على الثقافة يسمح للإسلام السياسي بأن يشطب من كل مجالات الحياة المجابهات الاجتماعية الحقيقية بين الطبقات الشعبية وبين النظام الرأسمالي العالمي الذي يضطهدها ويستغلها. النشطاء المندفعون في الإسلام السياسي ليس لهم وجود في المناطق التي تحدث فيها الصراعات الاجتماعية الفعلية، وقادتهم يكررون آناء الليل وأطراف النهار أن مثل هذه الصراعات ليست مهمة. إنهم موجودون فقط في المدارس والعيادات التي لا تعدو كونها أعمالاً خيرية ووسيلة لبث الأفكار، لا لدعم نضالات الطبقات الشعبية ضد النظام المسؤول عن إفقارها.
على أرض القضايا الشعبية الحقيقية، يربط الإسلام السياسي نفسه بمعسكر الرأسمالية التابعة والإمبريالية المهيمنة. إنه يدافع عن مبدأ الطابع المقدس للملكية ويشرّع اللامساواة وكل متطلبات الإنتاج الرأسمالي. دعم الإخوان المسلمين في البرلمان المصري للقوانين الرجعية الأخيرة التي تعزز حقوق الأرض للإقطاعيين على حساب المزارعين المستأجرين (معظمهم من صغار الفلاحين) هو مجرد مثال واحد من مئات الأمثلة. ليس هناك قانون رجعي واحد في أي دولة إسلامية تعارضه الحركات الإسلامية. إضافة، مثل هذه القوانين توضع بالاتفاق مع قادة النظام الإمبريالي. إن الإسلام السياسي ليس معادياً للإمبريالية، حتى ولو أن النشيطين المندفعين فيه يعتقدون عكس ذلك! إنه حليف لا يقدّر بثمن للإمبريالية، وهذه الأخيرة تعرف ذلك. ومن السهل بعد ذلك أن نفهم لماذا كان الإسلام السياسي يحسب في صفوفه الطبقات الحاكمة في السعودية وباكستان التي كانت من أشد داعميه منذ البداية. البورجوازية الكومبرادورية المحلية، والأغنياء الجدد، والمستفيدون من العولمة الإمبريالية الحالية، يدعمون بسخاء الإسلام السياسي. وهذا الأخير تخلى عن/أو رفض الرؤى المعادية للإمبريالية واستبدلها برؤية معادية للغرب (معادية للمسيحية تقريباً). وهذا بالطبع لا يقود المجتمعات المعنية إلا إلى طريق مسدود، وبالتالي لا يشكل عقبة أمام نشر الهيمنة الإمبريالية على النظام العالمي. إن الإسلام السياسي ليس فقط رجعياً حيال بعض القضايا (خاصة منها وضعية المرأة) وربما أيضاً عن التجاوزات التعصبية ضد غير المسلمين (مثل أقباط مصر)، بل هو أساساً أيضاً رجعي وبالتالي لا يستطيع أن يشارك في تقدم تحرير الشعوب. أما قوة الإسلاميين في الشارع فهي إلى حد كبير نتيجة لضعف اليسار المنظّم. وحتى لو فرضنا أن الإسلام السياسي يضم أعضاء كثيرين، هل يبرر ذلك الاستنتاج بأن على اليسار السعي لضم المنظمات الإسلامية إلى تحالفات من أجل نشاطات اجتماعية أو سياسية؟ على أي حال، ينبغي التذكير بأن منظمات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون على وجه التحديد) لا يسعون إلى مثل هذه التحالفات، لا بل هم في الواقع يرفضونه. وإذا ما اعتقدت منظمات يسارية أن منظمات الإسلام السياسي قد قبلتها، فإن أول قرار تتخذه هذه الأخيرة حين تتسلم السلطة هو تصفية هذا الحليف الثقيل بعنف شديد، كما كان الحال في إيران مع مجاهدي وفدائيي خلق. إن الصورة التي تعطيها المناطق العربية والإسلامية عن نفسها اليوم هي لمجتمعات يؤدي فيها الدين (الإسلام) الدور الرئيس في كل مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، إلى درجة أنه يبدو من الغريب أن يكون الأمر غير ذلك. ولذا تستنتج غالبية المراقبين الأجانب (القادة السياسيون والإعلام) بأن الحداثة، لا بل حتى الديمقراطية، سيكون عليها التأقلم مع الوجود القوي للإسلام، ولاستبعاد العلمانية كأمر واقع. إني لا أتفق البتة مع هذا الرأي الذي يقال إنه رؤية واقعية. المستقبل، في الرؤية بعيدة المدى للعولمة الاشتراكية، بالنسبة لشعوب هذه المنطقة، كما للشعوب الأخرى، هي للديمقراطية والعلمانية.
إن الحداثة كانت ولادة عنيفة في التاريخ العالمي بدأت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر. وهي تعلن أن البشر مسؤولون عن تاريخهم الخاص، أفراداً وجماعات، وهي بالتالي تشكّل قطيعة مع الايديولوجيات ما قبل الحديثة. الحداثة، إذاً، تجعل الديمقراطية ممكنة، كما العلمانية بمعنى الفصل بين الدين والسياسة. وهي بعد تكوّنها في عصر أنوار القرن الثامن عشر ثم تطبيقها في الثورة الفرنسية، دمجت في متنها الحداثة والديمقراطية والعلمانية. وكان تقدم وتأخر هذا المزيج هو المسؤول عن تشكيل العالم المعاصر منذ ذلك الحين. بيد أن الحداثة بنفسها ليست فقط ثورة ثقافية. وهي لا تشتق معناها إلا عبر العلاقة الوثيقة التي كانت لها منذ الولادة والنمو اللاحق للرأسمالية. هذه الحداثة كيفت الحدود التاريخية للحداثة القائمة فعلياً. بالتالي، يجب اعتبار الأشكال المحددة للحداثة، والديمقراطية، والعلمانية، الموجودة اليوم على أنها حصيلة التاريخ المحدد لنمو الرأسمالية. إنها تتشكّل من خلال الظروف الخاصة التي تعبّر فيها هيمنة رأس المال عن نفسها (التسويات التاريخية التي تحدد المضامين الاجتماعية للكتل المهيمنة التي أدعوها أنا النهج التاريخي للثقافات السياسية)
أين شعوب الشرق الأوسط من مسألة الحداثة؟
لم تكن المنطقة دوماً ملتحية. فعدا الاختلافات من بلد إلى بلد، يمكن تحديد مساحة شاسعة تمتد من المغرب إلى أفغانستان، تضم الشعوب العربية (عدا شبه الجزيرة)، والأتراك، والإيرانيين، والأفغان، وشعوب آسيا الوسطى، وهي مساحة ليست فرص العلمانية فيها ضئيلة. بيد أن الأمر يبدو مختلفاً لدى شعوب مجاورة مثل عرب شبه الجزيرة والباكستانيين. في هذه المنطقة الواسعة، التقاليد السياسية تلوّنت بقوة بالتيارات الراديكالية للحداثة: أفكار الأنوار، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، وشيوعية الأممية الثالثة. كل ذلك كان حاضراً في عقل كل فرد، وكان أهم بكثير من «برلمانوية» وستمينيستر على سبيل المثال. هذه التيارات المهيمنة ألهمت النماذج الرئيسة للتحولات السياسية التي طبقتها الطبقات الحاكمة التي يمكن وصفها - في بعض المجالات - بأنها أشكال من الاستبداد المستنير. هذا بالتأكيد كان حال مصر محمد علي باشا والخديوي إسماعيل، والكمالية في تركيا، والحداثة في إيران، وجبهة التحرير الجزائرية، والبورقيبية التونسية، والناصرية المصرية، والبعثية السورية والعراقية. كل هذه الأنظمة حققت الكثير، ولذا كان لها دعم شعبي واسع. ولذا أيضاً، وبرغم أنها لم تكن ديمقراطية (بالمعنى السياسي)، فتحت الأبواب أمام نمو محتمل في هذا المجال. إن العلمانية التي طبقها هؤلاء لم تكن «مرفوضة» من الشعوب. على العكس: الناس المتدينون هم الذين اعتبروا إعاقيين من جانب الرأي العام. وقد كان معظمهم هكذا بالفعل . إن التجارب التحديثية، من الاستبداد المستنير إلى الشعبوية القومية الراديكالية، لم تكن حصيلة الصدفة. الحركات القوية التي كانت مهيمنة في الطبقات الوسطى هي التي خلقتها. وبهذه الطريقة، عبّرت هذه الطبقات عن إرادتها لأن تعتبر شريكة كاملة في العولمة الحديثة. هذه المشاريع التي يمكن وصفها بأنها بورجوازية وطنية كانت تحديثية ومتعولمة وحاملة محتملة للحركات الديمقراطية. لكن، وبالتحديد لأن هذه المشاريع اصطدمت بمصالح الإمبريالية المهيمنة، قاتلتها هذه الأخيرة بلا شفقة، وعبأت بشكل منهجي الإعاقيين المنحدرين لهذا الغرض.
إن تاريخ الإخوان المسلمين معروف. إنهم حرفياً خلقوا في العشرينات على يد البريطانيين والملكيين لوقف تقدم حزب الوفد الديمقراطي والعلماني. كما أن عودتهم الجماعية من الملجأ السعودي بعد وفاة عبد الناصر، التي نظمتها «السي. آي. أيه» والسادات، سر معروف جيداً أيضاً. كلنا مدرك لتاريخ طالبان التي شكّلتها «السي.آي أيه» في باكستان لمقاتلة «الشيوعيين» الذين فتحوا المدارس للجميع، صبية وفتيات. كما من المعروف كذلك أن إسرائيل دعمت «حماس» في البداية لإضعاف التيارات العلمانية والديمقراطية في المقاومة الفلسطينية. لقد كان من الصعب للغاية على الإسلام السياسي التحرك خارج حدود السعودية وباكستان من دون الدعم القوي والمستمر والحازم للولايات المتحدة. إن المجتمع السعودي كان قد بدأ لتوه الخروج من التقليد، حين تم اكتشاف النفط تحت أرضه. حينها أبرم فوراً التحالف بين الطبقة التقليدية الحاكمة وبين الإمبريالية، مما أعطى روحاً جديدة للإسلام السياسي الوهابي. ومن جانبهم، نجح البريطانيون في تفكيك الوحدة الهندية عبر إقناع القادة المسلمين بخلق دولتهم الخاصة التي علقت في الإسلام السياسي منذ ولادتها. أما جذر الإسلام السياسي في إيران فلا يظهر العلاقة التاريخية نفسها مع التلاعب الإمبريالي.
في هذا الإطار، من السهل فهم المبادرة التي قامت بها الولايات المتحدة لكسر الجبهة الموحدة للدول الأفرو - آسيوية التي تأسست في باندونغ (1955) عبر خلق «المؤتمر الإسلامي» الذي روجت له فوراً السعودية وباكستان (1957). لقد اخترق الإسلام السياسي المنطقة بهذه الطريقة.
أقل الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها من هذه الملاحظات هي أن الإسلام السياسي ليس حصيلة فورية لعملية توكيد الاعتقادات الدينية الأصيلة من جانب الشعوب المعنية، بل هو أسس عبر العمل المنهجي للإمبريالية مدعومة بالطبع من القوى الرجعية الإعاقية والطبقات الكومبرادورية الخاضعة. ومسألة ما إذا كانت هذه الأحوال هي أيضاً مسؤولية القوى اليسارية التي إما أنها لم تر أو لم تعرف كيف تتعامل مع هذا التحدي، لا تزال مدار نزاع.
إيديولوجيا "نهاية الإيديولوجيا"

عبد الإله بلقزيز*
في أعقاب انهيار «المعسكر الاشتراكي» وحلّ الإتحاد السوفياتي، ازدهر خطابٌ ظفراويٌ في مجتمعات الغرب الرأسمالي، وفي الولايات المتحدة الأميركية على وجه التحديد، دارت موضوعاته «النظرية» حول كونية القيم الليبرالية في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، ووحدة العالم - بعد انقسامه - في نظام جديد يعيد تأسيس العلاقات فيه على مقتضى المنافسة وتبادُل المنافِع بعد أن كان الصراعُ سِمَةَ تلك العلاقات الأوحدَ أو الأظهر. وفي امتداد ذلك كلِّه، كرَّت سبحة النصوص التبشيرية بـ « العهد الجديد»: عهد انتصار «اقتصاد السوق» على الاقتصاد الموجَّه، وانتصار الديمقراطية على الكُلاَّنية (التوتاليتارية)، وانتصار فكرة الفرد على فكرة الجماعة (الطبقة، الأمة...) وانتصار فكرة المجال التجاريّ الدوليّ الحُر والمفتوح على فكرة الحدود القومية والاستقلال الاقتصادي، ثم انتصار فكرة أولوية «القانون الدولي» على فكرة القانون الوطني وحرمة السيادة الوطنية، وفكرة «الأمن العالمي» على فكرة الأمن القومي، الخ.. ثم لم تلبث هذه الأفكار أن خرجت من بين جدران مراكز الدراسات الإستراتيجية ومعاهد البحث - ومعظمها مرتبط بوزارات الخارجية أو الدفاع أو الاستخبارات - ومن بين جدران بعض الجامعات الغربية إلى الصحافة والإعلام، لتنتقل سريعاً من أفكار نخبة إلى أفكار "جماهيرية!"
من المفارقات أن آخر رئيس سوفياتي (ميخائيل غورباتشوف) كان في عداد من قدّموا مساهمتهم مبكراً في إنتاج مفرداتٍ سياسية ومفاهيم جديدة تقدم الإيحاء بأن عالماً جديدا سيخرج من جوف حقبة الصراع الدولي والاستقطاب السياسي والإيديولوجي، وسيكون الاستقرار والسلم والشراكة في المنافع وفي القرار من سماته الرئيس. ولقد كان مفهوم «توازن المصالح» من بين أهم ما كان في الترسانة المفاهيمية لـ «البريسترويكا» الغورباتشوفية جذبا للانتباه في الغرب (جنباً إلى جنب مع مفهوم "إعادة البناء" الذي تحول إلى اسم حركيّ مستعار للهدم والتدمير!). فقد عنى التوازن- أو الدعوة إليه - طيّاً لصفحة الصراع على المصالح مع المعسكر الإمبريالي، مثلما عَنَى أن يكون توازناً للمصالح تخلِّياً عن هدفِ - أو عن طلبِ - توازن القوى. وهكذا قدّم غورباتشوف مساهمة ثمينة في تضليل قسمٍ كبير من العالم من خلال إعادته إنتاج الصورة النمطية عينها التي قدّمها الغربُ عن قيمه السياسية والاقتصادية أمام ممانعة سوفياتية وصينية وعالمثالثية مديدة!
نهاية الايديولوجية!
سيشهد الخطاب الظّفراويُّ الغربيُّ انعطافته الكبرى على صعيد صياغته النظرية مع فرنسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ (1). ومع أن موضوعات الكتاب وما ذهب إليه من استنتاجات تبدو عادية في السيرة الذاتية للفكر البورجوازي المعاصر (انتصار الليبرالية على الفاشية والنازية أوّلاً ثم على الشيوعية ثانياً، وانتصار الرأسمالية واقتصاد السوق، وسقوط أية فكرة كبرى تحرك التاريخ بعد ظفر الليبرالية). ومع أن الكتاب بَدَا، في أجزاء كثيرة منه، تسجيلياٍّ استعراضيّاً يدوِّن يوميات ووقائع سقوط الأنظمة غير الديمقراطية في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا (إسبانيا، البرتغال،اليونان) وشرق أوروبا وجنوب شرق آسيا، ووقائع صعود النخب الليبرالية إلى السلطة...، إلاَّ أنه صِيغَ بقدرٍ غيرِ قليلٍ من التأصيل النظري والفلسفي للموضوعات التي كان بصدد الدفاع عنها على نحو افتقر إليه الفكر الغربي الرسمي منذ ريمون أرون في فرنسا قبل عقود. لكن الأهم في أطروحة فوكوياما حول «نهاية التاريخ» وربما بسبب تماسكها النظري - أنها أوحتْ بفتح مسلسلٍ للتفكير في "نهايات" أخرى جديدة يهمنا منها - هنا - تلك الأزعومة التي راجت عن "نهاية الإيديولوجيا " تحدث الإستراتيجيون طويلاً عن حدث انهيار «المعسكر الاشتراكي» والإتحاد السوفياتي من زاوية أنه يُؤْذِنُ بانتهاء ظاهرة الصراع العسكري والأيديولوجي في العالم - الذي انقسم سابقاً إلى شرقٍ وغرب - ليفتح الباب أمام أنواع جديدة من الصراعات: الاقتصادية، التِّقَانية والعلمية، الصراع على احتكار المعلومات ، الخ.. ولقد أغرى الحديثُ عن زوال الصراع الأيديولوجي بين معسكرين بافتراض أن ظاهرة الإيديولوجيا ستؤول -هي نفسها - إلى زوال. فإذا كانت الإيديولوجيا تعبيراً عن نظام اجتماعي - اقتصادي، فإن زوال هذا النظام يستتبع زوال الإيديولوجيا التي تؤسس له أو تترجم مصالحه. وما دام النظام الاشتراكي - تقول هذه «الأطروحة» - قد تداعى وآل إلى زوال، فإن الإيديولوجيا الماركسية، الناطقة باسمه، مآلُها إلى النهاية بالتَّبِعَةِ، ثم لم تلبث «الأطروحة» أن عمَّمت «استنتاجاتها» لِتُصْدِرَ نَعْيَهَا لكل إيديولوجيا. ولقد وصفنا «أطروحة» «نهاية الإيديولوجيا». - في كتابٍ لنا صَدَرَ في العقد الماضي (2) - بأنها هي نفسُها أطروحة إيديولوجية، منتقدين ما سمَّيناهُ إيديولوجيا «نهاية الإيديولوجيا». ولم نلتفت في هذا النقد إلى وجهٍ إيديولوجي واحد من هذه «الأطروحة» هو صمتها عن وجود أو بقاء إيديولوجيا أخرى لم تنته - بافتراض أن غيرها انتهى - هي الإيديولوجيا الليبرالية (الأمر الذي ينسف دعواها)، وإنما انصرفنا أيضا إلى بيان تهافت هذه الأزعومة من الزاوية النظرية الفلسفية، مشدِّدين على حقيقة التلازم بين الوجود الإنساني وبين الإيديولوجيا بما هي إفصاحٌ عن التدفق اللامتناهي للأفكار والقيم الكبرى حتى في تعبيرها الطوباوي، ثم بما هو ترجمةٌ لتنازع المصالح الذي لا يمكن أن يزول في أي مجتمع أو عالم، فكيف إذا كان المجتمع والعالم محكوميْن بالنظام الرأسمالي وعلاقة الاستغلال الوحشي، التي تترك خلفها الملايين من المحرومين والمهمَّشين، كما هي حالها اليوم ومنذ مئات السنين! ولأن حبل الإيديولوجيا الليبرالية قصير، فلم ننتظر طويلاً حتى انقطع مدى مزاعمه، فما هي غير أشهرٍ على ازدهار أزعومة «نهاية التاريخ» حتى كان صمويل هنتنغتون يعيد الحديث في الموضوع إلى مساره فيؤكد، من خلال دراسته الشهيرة عن «صدام الحضارات»، (3) على أن الصراعات القادمة ستكون ثقافية ودينية، وحضارية، أي أيديولوجية.
أطوار حرب إيديولوجية
منذ نجاح الثورة البلشفية في روسيا في عام 1917 وإلى انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991، تحوَّلت الإيديولوجيا إلى ساحة حرب وإلى أداةٍ من أدواتها في الصراع الطاحن الذي اندلع بين النظام البلشفي الجديد وبين النظام الرأسمالي العالمي. وزاد من معدّل الحدة في الصراع الأيديولوجي انتقال النفوذ البلشفي من حدود الإتحاد السوفياتي إلى شرق أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاح الثورة الصينية والفيتنامية والكوبية، وتنامي نفوذ الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية (إيطاليا، فرنسا، إسبانيا)، وانتشار الأفكار الثورية المعادية للرأسمالية والإمبريالية في بلدان العالم الثالث ولدى حركات التحرر الوطني فيها، ثم تنامي الحركات الاجتماعية الاحتجاجية ذات النفس الراديكالي داخل بلدان الغرب مثل انتفاضة «ماي» 1968 وحركات الشبيبة والطلبة، وصولا إلى تصاعد خطر حركات «الإرهاب الثوري» في الغرب (منظمات «الألوية الحمراء» و «العمل المباشر» و «بادر - ماينهوف» و «الجيش الأحمر الياباني» و «إيتا» و «الجيش الجمهوري الإيرلندي) . تَوَاجَهَ الفريقان في معركة إيديولوجية محتدمة جُنِّدتْ فيها كلُّ أدوات المواجهة «الفكرية»، وكان المثقفون والصحفيون والإعلاميون جُنْدَهاَ وضبَّاطَها الميدانيين. أما الهدف، فمزدوجٌ: تبريرُ النظام الاجتماعي -الاقتصادي والسياسي الذي يَصْدُر عنه كلُّ فريق وبيانُ فضائله وحسناته والتَّستُّرُ على تشوُّهاته وتلميع صورته لدى الجمهور، - وفي الوقت نفسه - فضحُ «جوهر» النظام الآخر والتشنيع عليه وأَبْلسَة صورته والترهيب منه. ولقد كان وسع أي من الفريقين أن يُحْرِز نجاحاتٍ هائلةً في مسعاهُ إلى تحقيق هدف التعبئة الداخلية والتجييش الأيديولوجي للجمهور في مواجهة عدوٍّ حقيقي غير وهميّ أو مصطنع (دعك من المبالغة في التهويل من قدراته الخرافية أو من ضعفه المزمن ونهايته القريبة، فذلك أيضا من مقتضيات عمل الدعاية الأيديولوجية).غير أن تطور الصراع الأيديولوجي، ونشوء حاجات جديدة في المعركة ، تَطَلَّبَ إحداثَ تعديل في الأهداف والوسائل، وأهمها الانتقالُ بوظيفة الممارسة الأيديولوجية للصراع من النشاط الدَّعويّ الداخلي لكسب الجمهور وتحقيق التعبئة الداخلية إلى التأثير في جبهة العدو ومخاطبة جمهوره، والسَّعْي إلى إحداث شرخٍ بين ذلك الجمهور ونظامه أو كسب قطاعات منه إلى الموقع المضاد. في هذا الطور الثاني من المعركة الأيديولوجية، كانت فرص التكافؤ في الأداء متاحة للمعسكرين معا . كان في وسع بلدان المعسكر الغربي ودوله أن تنظِّم اختراقاً إيديولوجيا ناجحاً للداخل السوفياتي والاشتراكي من خلال تشديد الضغط الدعائي على تشدد الأنظمة الشيوعية وانغلاقها ومصادرتها للحريات، ومن خلال دغدغة مشاعر الرغبة في الانفتاح لدى شرائح عريضة من المجتمع: من المثقفين ومن القوى الاجتماعية المتطلعة إلى تنمية مصالحها الاقتصادية خارج إطار الدولة. ولقد كانت ظاهرة «المنشقين» السوفيات والأوروبيين الشرقيين والصينيين...، دليلاً على القدر الكبير من النجاحات التي أحرزتها تلك العملية من الاختراق الأيديولوجي الغربي للأسوار الحصينة في مجتمعات المعسكر "الاشتراكي" . في المقابل، أمكن للآلة الأيديولوجية السوفياتية أن تنظِّمَ اختراقاتٍ ناجحةً للمجتمعات الغربية من خلال سَيْلِ الكتب والنشرات المترجمة إلى لغات أوروبا حول الفكر الماركسي وإنجازات الثورة البلشفية والتي كانت تُسْتَهْلَكُ اجتماعيًّا على نطاق واسع. ولقد ساعدت عوامل أربعة في تمكين ذلك الاختراق الأيديولوجي من التَّحقُّق: مناخ الحريات في الغرب الذي كان يسمح بتداول نصوص الفكر الماركسي والأدبيات السوفياتية والصينية، ووجود حركة شيوعية (أوروبية) تعمل بحرية وتروجِّ لفكر المعسكر الثاني، ووجود جمهور تقليدي لفكرة الثورة ضد الرأسمالية في مجتمعات الغرب، ثم نجاح الإتحاد السوفياتي في تحقيق تطور صناعي وعلمي وعسكري مذهل خلال أقل من ربع قرن وفي الصيرورةِ قوَّةً عظمى كونية، وما كان في ذلك من جاذبية لنموذجه الاقتصادي - الاجتماعي لدى كثيرين في الغرب الرأسمالي.
عوَّضتْ هذه الحرب الأيديولوجية عن المواجهة العسكرية بين المعسكرين، ولعل ذلك كان في وجود التوازن النووي بينها، كذلك كان التوازن الأيديولوجي قائماً بينهما. وكما مَنَعَ التوازن الأول نشوب حربٍ مدمّرة بين المعسكريْن، كذلك منع الثاني من تحقيق أي من الفريقين انتصاراً حاسماً في المنازلة الأيديولوجية على الآخر. ولقد كان هذا التوازن في نسبة القوى الأيديولوجية حصيلة الأوضاع التي كانت عليها أدوات ووسائل التوزيع الأيديولوجي أكثر ممّا ترجمتْ نسبة القوى - أو ميزان القوى - بين الأيديولوجيتين، فلربّما كانت الفكرة الاشتراكية أدعى إلى الإغراء في الغرب وخاصة حينما «تأمَّمت» في إطار الشيوعية الأوروبية ولم تعد سوفياتية أو مُسَفيَتَة. غير أن الأدوات - أدوات توزيع ونشر الخطابات الأيديولوجية - كانت هي نفسُها ومُتَاحَة للفريقين: الكتاب والمجلة والإذاعات الموجّهة من الجانبين، وبعضٌ قليل من البث التلفزي للتخوم أو للمناطق التي تقع - من الجانبين - في مدار الإرسال التلفزي.
تلك كانت سمات طَوْرٍ من الصراع الإيديولوجي بين فكرتيْن ومعسكريْن طيلة معظم حقبة الحرب الباردة وإلى حدود النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين الماضي. بعد هذا التاريخ، سيتغيّر مشهد ذلك الصراع لأن المعطيات ستتغيّر، ولأن أدوات التوزيع الأيديولوجي نفسها ستتغيَّر. سَنَلِجُ منذ ذلك الحين عصر الثورة التِّقانية الجديدة: تِقَانَة المعلومات والإعلام الفضائي، وعصر العولمة ولقد أطلقهما الغرب ابتداءً في معترك المواجهة مع الإتحاد السوفياتي قبل أن يذهب «إلى رحمة الله»، بل هو قضى نَحْبَه بتأثير ذلك عليه.
العامل الثقافي الأيديولوجي
يتصل انهيار الإتحاد السوفياتي، في وجهٍ من وجوهه، بالأثر الحاسم للصراع الأيديولوجي الذي نشب بين منظومته والمنظومة الرأسمالية العالمية، وللتطورات التي طرأت على ميزان القوى فيه بفعل نجاح المعسكر الغربي في تجديد وسائل المواجهة الأيديولوجية وأدواتها في مقابل قصورٍ سوفياتي في إعادة تأهيل منظومته الأيديولوجية ومجاراة الغرب في تطوير وتجديد الوسائل. ولقد كتب كثيرون عن ذلك الانهيار متجاهلين الأثر الذي كان للعامل الأيديولوجي فيه، منصرفين - كليّة تقريباً - إلى البحث في أثر العوامل الاقتصادية والسياسية في ذلك الذي جرى وأفضى إلى زوال الإتحاد السوفياتي. وهو اختيار في التحليل مشدود إلى فكرة تقليدية ومبسَّطة عن الإيديولوجيا قوامُها تبعيَّتُها للعوامل المادية أو اتصال فاعليتها وتأثيراتها بفاعلية العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية وتأثيراتها. ولقد كنا دعونا، منذ سنوات عديدة، إلى ما أسميناهُ بالتحليل الثقافي لانهيار المنظومة «الاشتراكية» في ذروة الاحتفال الجماعيّ بأمر العوامل غير الثقافية (وغير الأيديولوجية) في تفسير ذلك الانهيار. وقصدنا بالدعوة حاجتنا إلى الانتباه إلى مفعول الضغط الأيديولوجي في وعي من وَقَعَ عليهم وهزَّ ثقتهم بنموذج الحياة لديهم بحسبانه لا يقل وطأةً عن مفعول هزيمة الجيوش في الحروب أو شعور المجتمع والشعب بثقل تلك الهزيمة نفسياًّ. وكانت الفرضية الضِّمْنيّة التي حَكَمَتْ قراءاتنا للحدث - وما تزال كذلك - هي أن شرعيةَ أيِّ نظامٍ سياسيّ أو اجتماعي - اقتصادي تتوقف، في جانب كبير منها، على وجودِ قدرٍ كبير من الرضا الاجتماعي (الشعبي) به وليس على القبول الاضطراري به تحت وطأة السيطرة السياسية لطبقةٍ في السلطة. وقد استفدنا من كتابات غرامشي وألتوسير وپولانتزاس (4) درساً في معنى الهيمنة وفي وظيفة الأجهزة الأيديولوجية للدولة في تحقيق تلك الهيمنة، وفي القيام مقام الأجهزة القمعية في إنتاج وإعادة إنتاج علاقات السيطرة/الخضوع من دون إحداث عنفٍ في مَن يقع عليهم فعلُ الإخضاع. أمّا حين يَعْجز نظامٌ عن أن يستحصل لنفسه شرعيةَ البقاء - لِخَلَلٍ في هذه الوظيفة التي تنهض بها الممارسة الإيديولوجية - يَدبُّ - الشرخ في شرعيته أمام مواطنيه، وقد يقودُه ذلك إلى الانهيار. ولقد انهار الإتحاد السوفياتي لهذا السبب. غير أنه سيكون علينا أن نفهم هذا الانهيار بمعنًى مختلف عن الذي يُفيده القول السابق بأن الشرخ في شرعية النظام يردّ إلى الوهن في أدائه الأيديولوجي. فالإتحاد السوفياتي لم يكن عشية سقوطه قد عانى من عطل بنيويٍّ أو حادّ في اشتغال نظامه الأيديولوجي الداخلي. فقد كانت المؤسسات والأجهزة الأيديولوجية للدولة (المدرسة، الصحافة، إعلام الدولة والحزب، العائلة المتشبعة بالقيم الاشتراكية، مؤسسات التعبئة والتثقيف في الحزب الشيوعي...) تشتغل بانتظام وبعضها بكفاءة. لكن نقطة ضعف الدولة (والمجتمع) كانت عدم القدرة على حماية الأمن الثقافي والسيادة الأيديولوجية للبلد أمام اختراقٍ أيديولوجي غربيّ حادّ بدأت موجاتُه الجديدة في التدفق على نحوٍ نوعي منذ نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين الماضي لِتَجْرف الدفاعات الأيديولوجية التقليدية السوفياتية. وكان الإعلام السمعي -البصري تلك الأداة التي حصل بها الاختراق بعد أن دَخَل طوْرَ ثورةٍ تِقَانية حوَّلته إلى مادةٍ قابلة للاستخدام من الفضاء. من النافل القول إن التفسير الاقتصادي أو السياسي أو الإستراتيجي لانهيار الإتحاد السوفياتي لن يُلْقِيَ بالاً إلى مثل هذا التحليل الثقافي الذي يشدّد على حقيقة الأدوار التي كانت للهجوم الأيديولوجي أو ربما ، أو - على الأقل - في تفسيخ العلاقات الداخلية فيها ورفع درجة النقمة الاجتماعية من النموذج «الاشتراكي» في السياسة والاقتصاد، وفي الحياة. غير أن الذي لا يستطيع ذلك التفسير أن يتجاهله هو أن الإتحاد السوفياتي لم يسقط بحربٍ خارجية ولا بثورة سياسية داخلية ولاَ وصلت به أوضاعُهُ الاقتصادية المتهالكة إلى مجاعات تطلق انتفاضات شعبية (دعْكَ من أن انهياره الاقتصادي بدأ مع سياسة "الإصلاح" الغورباتشوفية وليس قبل ذلك). أي أنه لا يوجد مبرِّر لاستبعاد فرضية الدور الأيديولوجي والثقافي في ذلك الذي حصل. قامت المحطات والقنوات الإعلامية الغربية الموجَّهة إلى الإتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية بما لم تَقْوَ على القيام به جيوش حلف شمال الأطلسي والمخابرات الأميركية والحصار الاقتصادي. لقد دخلت برامجُها ونشراتها الإخبارية وتحقيقاتُها المُعَدَّة بعناية وأفلامها الوثائقية وموجات الغناء الغربية والأفلام السينمائية، وما تحمله هذه جميعُها من مضامين، إلى كل بيت مُخاطِبَةً شعوراً عامّاً بالحرمان: الحرمان من الحريات الفردية، والحرمان من الروح الاستهلاكية، والحرمان من إشباع المطالب الغرائزية. كانت الرسائل الأيديولوجية الغربية المحمولة على صهوة الإعلام تخاطبُ مجتمعاً مختلفاً في منظومة القيم، لكنه يعاني من عدم إشباعِ كثيرٍ من الحاجات البيولوجية والنفسية العادية في مجتمعات الغرب. وقد أتقنت مخاطبةَ غرائز الناس فيه من خلال بثّ روح الاستهلاك فيهم والتَّفَنُّن في بيان جاذبية وإغراء السلع الاستهلاكية المختلفة: من المأكل والملبس إلى المُقْتَنَيَات الصناعية والإلكترونية وسواها. وكم كان مثيراً مشهد طوابير الشباب المصفوفة أمام محلاّت بيع الوجبات الخفيفة الأميركية (الرديئة بامتياز) في موسكو وغيرها. والأكثر إثارة أسعارها العالية التي لا تتحملها القدرة الشرائية للمواطنين!
ماذا يمكن أن يكون ذلك إن لم يكن نجاحاً في اختراق النسيج الاجتماعي أيديولوجيا - بواسطة أدواته الإعلامية الجديدة - وفي ممارسة التأثير الحاسم في القيم والأذواق على نحوٍ يضع الناس أمام خصومةٍ يومية مع نمط الحياة الأصليّ الذي هُمْ فيه؟ ماذا يمكن أن يعني (ذلك) إن لم يكن يعني أنه بقدر ما كانت فكرة الحياة الليبرالية تنمو في وجدان المجتمع، بمقدار ما كان هذا الأخير يفقد ثقته بنموذج الحياة «الاشتراكية» ومَا ومَن يَرْمُزُ لها؟ ماذا نقرأُ فيه سوى أن سلطان الاشتراكية في النفوس بدأ يتداعى أمام إغراء وجاذبية «المثال» الاجتماعي والحياتي الذي يقدّمه الغرب؟ وسريعا تحوَّل «الإصلاح» الغورباتشوفي من مطلب سياسيّ حملتْهُ نخبةٌ «إصلاحية» في الحزب والدولة وحظيَ باستقبال شعبيّ عارم، إلى حائلٍ جديد دون الانتقال الكامل إلى ضفاف الليبرالية - وبالتالي - إلى هدفٍ ينبغي الانقضاض عليه من قِبَل القوى الاجتماعية والاقتصادية والشعبية التي كانت مأخوذة بمثالٍ ليبرالي غربي لم تَعِشْهُ أو تتذوَّقه في وطنها كي تستطيب مذاقَهُ فيزيدُ طلبُها عليه، وإنما أتاها من فوق: بإسقاطٍ مظليّ من الأقمار الصناعية معلَّباً في الصُّوَرِ، المتدفقة من غير انقطاع!
لا نبغي القول إن العامل الأيديولوجي كان العاملَ الرئيسَ في إسقاط النظام الاشتراكي في الإتحاد السوفياتي ونظائره في أوروبا الشرقية، أو أن هذا النظام كان قادراً على الاستمرار والبقاء على قيد الحياة على الأسس ذاتها التي تهشَّمتْ؛ وإنما نَرُومُ القولَ إن هزيمتَه في المعركة الأيديولوجية العالمية - في عصر الثورة العلمية والتِّقانية الجديدة - قادتْه إلى حالٍ من الانكشاف، وأفقدتْه قوته المعنوية ومرجعية نموذجه الاشتراكي أمام الشعب، وفتَحَتِ الباب أمام جرعةٍ عالية من الاعتراض المجتمعي عليه كان للتحريض الإعلاميّ الخارجي يدٌ في الكثير من فصوله ووقائعه.
الأدوات الجديدة للهيمنة الأيديولوجية
بانتهاء الحرب الباردة وانفراط «المعسكر الاشتراكي» وانهيار الإتحاد السوفياتي انتهت حقبة التوازن في الصراع الأيديولوجي على الصعيد الكوني، ودخلتِ البشرية عصر هيمنة الإيديولوجيا الواحدة والفكرة العليا الواحدة. لم تنتهِ الممانعة الثقافية قطعاً، لكنها كانت ممانعة موضعية وذات طبيعة قومية أو دينية ولم تنجح في الصيرورة ممانعة كونية على مستوى كونية الهيمنة، ناهيك بأن أدواتها ومواردها ضعيفة، وأحيانا تقليدية، في مقابل الترسانة الهائلة من الإمكانيات والوسائل التي تسربلَتْ بها استراتيجيا الهيمنة الثقافية والأيديولوجية. ولقد حُسِمَتْ معركةُ الأفكار والقيم والرموز منذ البداية - وإلى حينٍ قادم - لصالح الهيمنة المدجَّجة بوسائل الفَتْك الأيديولوجي بمنظومات الخصم بسبب ذلك الخلل الفادح في إمكانيات المعركة ووسائلها.
يبدو تاريخ الرأسمالية تاريخ غزوٍ واستباحةٍ مستمرَّين للعالم الذي يقع خارج الحدود القومية للبلدان الصناعية الميتروپولية: غزوٌ عسكريّ للمستعمرات من أجل نهب الثروة وتسخير اليد العاملة أو من أجل الاستيطان أو هُمَا معاً؛ واستباحةٌ سياسية مستمرة لسيادة الدول الوطنية باسم أولوية القانون الدولي ومرجعيته أو باسم حماية حقوق الإنسان وحقوق «القِلاَّت» و«الحق في التدخل» لأسباب «إنسانية»؛ واستباحةٌ مفتوحة للأمن القومي لدول الجنوب إمّا «طوعاً» من خلال زرْع القواعد العسكرية أو عُنْوَةً من خلال استباحة الطائرات للأجواء والأساطيل للمياه أو من خلال الاحتلال المباشر الفصيح أو الموارب تحت علم الأمم المتحدة، الخ..! غير أن أشدّ أنواع ذلك الغزو وتلك الاستباحة فتكاً بالمجتمعات وبنظام المناعة الوطنية المكتسبة فيها هي تلك التي باتت تجري اليوم بأدوات إعلامية (وثقافية) ومن خلال أساطيل وفرق مدرَّعة من القنوات والمحطات الفضائية التي توجِّه ضرباتها إلى أهدافها العميقة بدقة عبر الأقمار الصناعية ودونما قدرة من المستهدفين على ردّ غاراتها .
كانت فرص مقاومة الغزو الاستعماري متاحة للبشرية - وما انفكت متاحة - من خلال المقاومة الشعبية المسلحة أو حتى النظامية أحياناً، وهي أوقعت في جحافل المستعمرين خساراتٍ فادحةً أجبرتهم - في المعظم الأعمّ - على الانكفاء مدحورين. وكانت فرص مقاومة الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية والاختراق التجاري متاحة لقسم من العالم من خلال قيام نظم وطنية أو اشتراكية جرَّبتْ تأميم الثروة ووسائل الإنتاج وحماية الاقتصاد الوطني من أحكام التبادل اللامتكافئ، وحدَّت من - إن لم تكن أنهت بنجاح - معدّل التبعية وارتهان اقتصادها للخارج. ثم كان في وسع بعض دول العالم أن تتمسك باستقلالية قرارها الوطني تحت كل الظروف فلا تضع سيادتها طوعاً وعلى طبقٍ من ذهب لقوى النظام العالمي الجديد. لكن فرص ممانعة الغزوة الثقافية - الإعلامية في صورتها وموجتها الجديدتين باتت محدودة، لأنها غزوة محمولة على أحدث الحوامل التي أنجبتها الثورة العلمية - التِّقنية المعاصرة في نهاية القرن العشرين. كان في وُسع المجتمعات غير الغرْبية - قبل عقود - أن تجد لنفسها أكثرَ من سبيل لردِّ غائلة الغزو الثقافي والهيمنة الأيديولوجية وأن تُحْرِز قدراً ما من النجاح في ذلك. كان أمامها أن تسلك خياراً دفاعياَّ إيجابياًّ هو كناية عن حماية أمنها الثقافي بتنمية موارد الثقافة الوطنية والإنسانية وتكريس القيم الإبداعية والتحررية فيها وفضح ثقافة الاستلاب والاستهلاك والإسفاف، وترشيد الإنتاج الثقافي والإعلامي نحو خدمة الأهداف العليا للوطن والأمة. ثم كان أمامها أن تسلُك خياراً دفاعيّاً سلبياً هو إقفال سوقها الثقافية وحدودها أمام السلع الثقافية الغربية من كتب ومجلات وجرائد وأفلام وأشرطة وأقراص غنائية ترى فيها جميعها منتوجاً مجافيا للقيم الثقافية الوطنية. ثم كان في وسع البُنى الثقافية والتربوية التحتية من أسرة ومدرسة أن تنهض بأدوارها التقليدية في التنشئة الاجتماعية على القيم الوطنية دون كبير عناء. لكن ذلك ما عاد ممكنا منذ عقدين. أعني: منذ حصلت تلك الثورة الإعلامية - المعلوماتية التي دمّرت حدود المجتمعات والأوطان ودخلت معطياتُها الثقافية كافة البيوت من دون استئذان. ها هنا أصبح الغزو الثقافي أشبه ما يكون بفسحة في الآفاق المفتوحة بأقل كلفة مادية.
ما أغنانا عن القول هنا إن استعمالنا لمفهوم الغزو الثقافي ليس ينم عن تزمُّتٍ أو انغلاق لدينا تجاه ثقافة الآخر، أو يُفْصِح عن نزعةٍ أصالية انكفائية، بل هو يتجاور تجاوُراً فكرياً مع دفاعنا عن الانفتاح على الثقافات والاغتراف منها والحوار معها حوارَ تَثَاقُفٍ خلاّق. لكن هذا شيء والغزو الثقافي - الإعلاميّ شيء آخر مختلف، ناهيك بأن ما يأتينا من الغرب ليس كلُّه في عداد ما يستحق الانتهال منه أو التسامح مع دخوله حَيِّزَنَا الاجتماعي. لقد أخذت شعوب الأرض عن الغرب الشيء الكثير: العلوم والفلسفة والأدب والفن الرفيعين والتّقانة والنظام الديمقراطي والإدارة العصرية العقلانية. فعلتْ ذلك بإرادةٍ منها للجواب عن حاجات لديها. أمّا أن يَفْرِضَ بعضُ الغرب قيمَه (وأية قيم: التفاهة والانحطاط في الغناء والمأكل والملبس والأذواق والمعايير، والتبشير السخيف بالليبرالية الوحشية... وهذه جمعيها أسوأ ما في تاريخ الغرب!) بالقوة والعنف الرمزيّ، فهو يفعل ما فعله بوسائل القوة النارية السابقة: الإخضاع القسري. والفارقُ عظيمٌ بين قيم تدخل مجتمعات العالم من باب الحوار والإقناع وأخرى تدخلها بالإكراه، والأنكى والأمَرُّ حين تكون الأخيرةُ ممّا تعِفُّ نفْسُ الغرب نَفْسِهِ عن نِسْبَتِهَا إليه وإلى تاريخه الحضاري.
تبدو الهيمنة الأيديولوجية في حقبة العولمة هذه في عزّ طاقتها التدميرية بعد نجاح الغرب (الأميركي خاصة) في احتكار الصورة والمعلومات وتحويل العالم إلى فضاء مفتوح لإرسال خطابه ؛ خطابه عبر الزخّ اليومي لملايين الصور المكتنزة بالقيم والمضامين الأيديولوجية، وتحويل ملايين الناس إلى متلقين لصورٍ تشُلُّ فيهم حاسة النقد وتحتكر انتباهم وتعيد صوغ أفكارهم ورؤاهُم وأذواقهم. لم تَنْتَه من التاريخ حقبة المدفع والجيش الجرّار لإخضاع المجتمعات. غير أن النظام الأيديولوجي الإعلاميّ الجديد يستطيع أن يحقق ذاتَ الأهداف التي سَخّرَ لها المدفع، ولكن : من بعيد وبأقل كلفة!
* أستاذ الفلسفة - جامعة الحسن الثاني - الدار البيضاء
1) Francis Fukuyama:The end of History and The last man. london: HAMILTON,1992.

2- عبد الإله بلقزيز: "في البدء كانت الثقافة. " الدار البيضاء - بيروت: أفريقيا الشرق،1998
3) Samuel P.HUNTINGTON:» The Clash of Civilizations»? foreign Affairs,Summer 1993
4) A.GRAMSCI:GRAmsci dans la texte.paris: Edition sociales loui s ALTHOUSSER:POSITION:PARIS:Editions sociales,1976.NICOS poulanzas:pouvoir politique et classes sociales. paris:Maspero,1980.








قراءة في كتاب









" العقل والثورة"
تأليف: هربـرت ماركوز
ترجمة : د. فؤاد زكريّا
الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1970
الناشر الأجنبي:
Becon Press, 1960







قراءة (I)
ملاحظات أولية حول "العقل و الثورة"
نجيب روميّة
تنقسم الفلسفة عامة إلى فلسفة مادية و فلسفة مثالية ، فالمادية تتخذ العقل منهجا للمعرفة و تؤكد على الإعمال العقلي في الحقائق العينية الطبيعية و الإنسانية ، إنها فلسفة ثورية لتغيير الواقع ، و الماركسية أعلى تتويج فلسفي لها .
تتصدى الماركسية للواقع من خلال المعرفة بقوانين حركتة الموضوعية و العينية لتغييره ، ولا تعتمد على تصورات مجردة و شطحات خيالية أو نبرات أخلاقية صوفية بل تسعى إلى تفهم الظروف الموضوعية و تحليلها لتمتلك الواقع عمليا من أجل تغييره . فالواقع تاريخي و ليس أبديا . وفي الوقت نفسه تهدف إلى تحرير الفرد الإنساني كحقيقة متميزة محددة لا كمفهوم مجرد . يقول ماركس : إن التاريخ الاجتماعي للناس ليس أبدا إلا تاريخ تطورهم الفردي .
أما المثالية و التي تعتبر فلسفة هيغل أرقى تتويج فلسفي لها فترى أن وجود العقل بتصوراته و مفاهيمه سابق لوجود الحقائق العينية ، وما يدركه العقل ليس هو الحقيقة بذاتها ، إنما هو ظواهر لهذه الحقيقة ، لأن الحقيقة بذاتها غير قابلة لأن تعرف.
و المثالية تتعالى على الواقع لتبقى نقية بعيدة عن شوائبه مكتفية بالتأمل التجريدي بعيدا عن الممارسة العملية الحية . وقد تتسلّح بالعقل حينا و بالحدس الوجداني أو المنفعة أو الوصف الخارجي للظواهر أحيانا . أما تاريخيتها فذات طابع تجريدي عقلي مطلق . و الصراع بين الفلسفتين قائم على امتداد التاريخ الإنساني كله ، وهو تعبير عن صراع طبقي اجتماعي بين المستغِلين و المستغَلين .
أما صاحب "العقل و الثورة" وهو واحد من المفكرين الانتقائيين البارزين منذ أواسط القرن الماضي فقد كان بعيد الأثر بفلسفته في الفكر العربي المعاصر، أراد أن يضع نظاما فلسفيا جديدا يجمع مكوناته من مختلف التيارات الفلسفية السابقة قاصدا في النهاية إبطال النظرية المادية في المعرفة و موحياً بأن الماركسية اليوم لم تعد رجاء للبشر كسلاح نظري و مرشد عمل في نضال الشعوب من أجل تحررها لتحقق العدل و السلام و الأمن و الرخاء .
وقبل الولوج في عالم العقل و الثورة نتوقف قليلا لنوجز مرتكزات فلسفته النظرية و السياسية :
يرى ماركيوز أن المجتمعات الصناعية المتقدمة (الاشتراكية و الرأسمالية على السواء) قد نجحت بفضل عقلانيتها التكنولوجية أن تحقق السيطرة التامة على توجيه الإنتاج و الاستهلاك و حتى توجيه وعي البشر و إرادتهم و ذلك بفضل ما يحققه العلم و التكنولوجيا من وفرة إنتاجية و ما تنتجه وسائل الإعلام و التوجيه الثقافي من إمكانات لتشكيل الرأي العام بل وتشكيل احتياجات الناس و مشاعرهم و أذواقهم .
لقد فرضت الأقلية المالكة و الحاكمة إرادتها و مصلحتها على مجالات الإنتاج و الاستهلاك من جهة و على التكوين الفكري و النفسي للإنسان من جهة ثانية .
ونتيجة لهذا تم استيعاب الفئات الاجتماعية جميعا في إطار نظامها بما في ذلك الطبقة العاملة . إنها لم تحقق هذا بقمع خارجي شرس و إنما حققته و تحققه بقمع باطني مستتر ، بإشباع الحاجات التي يصطنعها ، و تنتجها الأقلية المالكة الحاكمة نفسها .
إذا كان الأمر كذلك فكيف السبيل إلى التمرد على هذا الوضع ؟ إلى رفضه و هدمه و تغييره ؟
لا أمل في الفئات المستوعبة المندمجة في النظام الإنتاجي و الاستهلاكي السائد. لا أمل إلا في هؤلاء الذين هم بطبيعة وضعهم خارج هذا النظام . إنهم المنبوذون و المتعطلون و الملونون و سكان الغيتو و مدن الصفيح ، أي الفئات الهامشيّة و الطفيلية في المجتمع التي لا تستفيد من النظام و لا تندمج في عمليته الإنتاجية و الاستهلاكية . لا أمل في تحطيم اللعبة إلا من هؤلاء الذين هم خارج اللعبة . إنهم خارج الصيرورة الديمقراطية و هم يسددون الضربات إلى النظام من الخارج .
بدأ انتشار فلسفة ماركيوز و رواجها منذ عام 1968 مع حركة الطلبة و الشباب تكشفت عندها حقيقتها الزائفة في مجال الخبرة الثورية الحية . وكتابه الذي يشمل مختلف جوانب فلسفته الانتقائية و الذي نحن بصدده كان قد ظهر بالإنكليزية عام 1941 ثم نقل إلى العربية من قبل أحد رواد الفكر التجريبي الوضعي المثالي د.فؤاد زكريا عام 1970 . يتضمن الكتاب عرضا لفلسفة هيغل و تداعياته الفلسفية عند ورثة الهيغلية مع عرض نقدي للفلسفة الوضعية التي أسسها أوغست كونت لكن على قاعدة الهيغلية القادرة على التفكير السلبي (النافي) مؤكدا على العنصر الجوهري في المنهج الجدلي ذاته من غير أن يبرز تبعيته لهيغل . و لدى هيغل نزي العقل هو السلب لما هو قائم و هو الثورة . وعلى هذه القاعدة يتحرك ماركيوز . إن ماركيوز هيغلي بامتياز إن من جهة المفاهيم و التصورات المنطقية التجر يدية أو من جهة الجانب التاريخي و الاجتماعي و السياسي .. يتبناها و لا ينتقدها فيظل عبدا لهيغل الذي ألـّه المطلق إلى أن أتى ماركس فأحدث القطع المعرفي مع هيغل عبر ثورة في النظرية منتقلا بالفكر إلى تربة المادية بعد أن أبقى على الجدل عنده نابذا قشوره الصوفية .
إن هيغل كثيرا ما كان يستخلص مضامين المعطيات و الموضوعات من المضمون العيني و التاريخي لا من الأشكال المنطقية للفكر بالرغم مما نراه من سبق الفكر للواقع . أما ماركيوز فإنه يغلــّب الإطلاقية التجريدية في فلسفة هيغل على العينية التجريبية أي أنه يعمق الجانب المثالي المجرد لدى هيغل ، و يقلل من شأن الجانب الموضوعي الحسي ، فكيف رأى ماركيوز إلى مفهوم النفي أو السلب عند هيغل ؟ السلب عند هيغل كما هو عند ماركس ليس رفضا مطلقا لما هو قائم بل تخط له إنه امتداد لعناصر التقدم فيه، ارتقاء إلى مستوى جديد متخذا شكل الثورة .
أما عند ماركيوز فالنفي الإطلاقي مقطوعا عن سياقه الهيغلي يصبح منهجا في التفكير و التحليل . في هذا العمل يعد ماركيوز هيغليا صوفيا وواحدا من مجموعة اليسار الهيغلي الذي تخطته الماركسية و صفت حسابها معه في( الأيديولوجية الألمانية) و لعل مصطلح (النظرية النقدية) الذي يستعمله ماركيوز هو ذاته مصطلح اليسار الهيغلي الذي تصدى له ماركس بالنقد و الدحض كاشفا ما يخبئه من فكر مثالي عن معطيات الواقع التجريبي و مثله مصطلح الإنسانية و الإنسان الذي يستخدم في التفسير المثالي للتجربة الإنسانية . فلسفة ماركيوز ليست ماركسية إنما هي أشد هيغلية من الهيغلية نفسها ، وهذا يتبدى في عرضه للماركسية في الكتاب المذكور
- مفهوم النفي أو السلب عند ماركيوز هو مطلق وهذا يتعارض مع المفهوم الماركسي للسلب الذي يرى النفي انتقالا إلى مستوى نوعي جديد من قلب الواقع الموجود ، يحتفظ بكل ما في القديم من عناصر إيجابية ثم ينتقل إلى مرحلة نفي جديدة وهكذا فالقضية هي قضية صراع في ظروف محددة و ليست قضية نفي مطلق ..
- في نظر ماركيوز إن الانتقال من هيغل إلى ماركس هو انتقال من مفهوم العقل إلى مفهوم السعادة في حين أن ماركس لم يستخدم مفهوم السعادة كما يراه ماركيوز بل انتقده في تبني الفلسفة النفعية له . وذلك أن ماركس جعل الحرية بالمعنى الموضوعي هي الهدف لأنها الضمان للسعادة، (إزالة الاستغلال، سيطرة على الضرورة وفرة الخيرات المادية للبشرية) لكن ماركيوز يوحد بين الحرية و السعادة ليقيم فلسفته و يدعي أنه مفهوم ماركسي ، وماركس لا يرى السعادة إلا من خلال الأساس الموضوعي لها و هو الحرية .
- يعتمد ماركيوز على مخطوطات 1844 لماركس التي مازال ماركس فيها لم يحقق قطعا مع الفكر الهيغلي ، لكن ماركيوز يؤكد وحدة الفكر فيها وفي باقي أعمال ماركس وهذا ليس صحيحا . إن الفكرة الرئيسية في المخطوطات هي أن الاغتراب الإنساني ينتج أشكال الاستغلال الرأسمالي التي تحرك الأوضاع و الظروف الاجتماعية الموضوعية ، لكن ماركس في الأيديولوجية الألمانية يرينا أن الاستغلال الرأسمالي هو ينتج الاغتراب و أن الظروف الاجتماعية و الموضوعية هي التي تحدد الوعي البشري مع تأثير الوعي البشري بدوره في الأوضاع و الظروف الاجتماعية . إن ماركس الماركسي يتجلى في رأس المال وفي الأيديولوجية الألمانية .
- يلجأ ماركيوز في عرضه لماركس إلى إقصاء ما قددمه إنجلس في إطار الفكر الماركسي و لا سيما في جدليات الطبيعة الذي يكشف فيه انجلس عن المادية الجدلية في حركة المادة في الطبيعة في حين يرى ماركيوز أن الجدل مقصور على الفكر و التجربة البشرية ، أي المادية التاريخية .
- ماركس يرى أن الانتقال من الاشتراكية إلى المرحلة التي تليها و هي الشيوعية هو انتقال من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية و هذا الانتقال تحكمه قوانين موضوعية . وفي مرحلة الحرية تكتمل سيطرة الإنسان التاريخي على هذه القوانين لتحقق الحرية في أرقى صورها ، ولا تعارض بين الحرية و الضرورة حتى لدى هيغل لكن ماركيوز يفسر ذلك مشوها بأن هذا الانتقال هو انتقال إلى مرحلة غير محكومة بقوانين موضوعية وفي هذا تصور للحرية غير ماركسي باسم الماركسية ، ثم يخلط ما بين المرحلتين بذكره خصائص و غايات المرحلة الثانية منسوبة إلى المرحلة الأولى و ذلك في نقده للماركسية السوفياتية .
إن فلسفة ماركيوز هي خليط من شتات الفلسفات السابقة لدى "هيغل ،هايدجر ،سارتر ،كانت ، وليم جيمس ،برغسون، نيتشة ، فرويد ..." وهي فلسفة مثالية في طابعها العام و لو ادعت المادية . يرتكز ماركيوز إلى هيغل بقوة و هبغل يفسر التاريخ الطبيعي و الإنساني باعتباره تحققا متطورا للفكرة الكلية المطلقة
و كل مظاهر الحياة الطبيعية و الاجتماعية و الفكرية في حركتها التاريخية إن هي إلا تجليات لهذه الفكرة المطلقة . يريد ماركيوز بناء مفهوم موضوعي في الثورة و التغيير عبر اجتهادات خاصة تزور حقيقة الهيغلية و الماركسية معا . أما فلسفته فهي الفلسفة الانتقائية أتت مستقاة من الفلسفتين المادية و المثالية
فقد جمع كانت و فيخته و هيغل و نيتشة و ماركس و هايدجر و فرويد في سلة واحدة يختار ما يشاء و يُقصي ما يشاء مؤلفا نظاما فلسفيا هو شتات هذه الفلسفات مجتمعة . فيأتي نظامه مليئا بالمتناقضات بعيدا عن أي اتساق إلى جانب التجريد المطلق الذي نراه بدلا من تحليل الوقائع الحسية و غلبة الذاتي على الموضوعي و القوى البيولوجية ( الخيال-إيروس ) على المنهج العقلي و الرؤية الفوضوية على الرؤية الموضوعية .
لقد أحدث ماركس في حقل التاريخ الاجتماعي ثورة نظرية قفزت بالفكر إلى تربته العلمية فصار ضروريا أن يكون الفكر ماركسيا حتى يكون علميا . فليس الوعي هو الذي يحدد الواقع بحسب ماركس بل إن الواقع الاجتماعي التاريخي هو الذي يحدد الوعي . كان النقد الماركسي لفكر هيغل نقضا له من حيث هو هدم له فكان بالضرورة انتقالا بالفكر إلى تربة نظرية جديدة هي مقياس لعلمية كل فكر و بهذه القفزة النظرية الماركسية صار كل فكر يحاول أن يعيد التجربة الهيغلية في بناء نظام ميتافيزيقي متكامل فكرا متخلفا عن الفكر الهيغلي نفسه قبل الماركسي . إن طابع الفكر الماركسي المادي الذي تأكد في نقد الفكر المثالي الهيغلي و الاقتصاد البرجوازي هو نتيجة لضرورة أن يكون فكرا قادرا على تفسير العالم و تاريخه تفسيرا علميا و أداة لتغييره في يد القوى الاجتماعية المؤهلة و المدعوة لتغييره . وما أكثر الصيحات الفكرية التي تطل علينا زاعمة أنها تحمل بشارة الخلاص . فالـ (الفلسفة الحيوية ) أو الفكر الغيبي اللاعقلي و الوجودية (واحدة من مراحل الضياع الفكري و العملي) و الوضعية
و البراغماتية و الماركيوزية (حرية الفرد من طغيان كل سلطة قمعيّة، حرية الإنسان الاجتماعية و البيولوجية ) هذه النظريات جميعها و سواها كانت محاولات متصلة للوقوف في وجه الماركسية للتصدي لها باسم الرفض تارة
و باسم التعديل و التصحيح تارة و باسم التكميل و الإضافة أحيانا .. و لكنها كانت كلها محاولات لتشويه الصفاء النظري للماركسية بوعي أو بغير وعي و باسم حرية الفرد الهدف الأخير للماركسية ، كانت هذه المحاولات لتشويه النظرية.
إني أهيب بأجيالنا أن تتنبه لهذه التيارات الفكرية الفلسفية التي تعصف بالفكر العربي لتطمس الحقائق باسم العلم و المادية و هي في جوهرها مثالية ذاتية أو مثالية موضوعية في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى فلسفة علمية مادية نستند إليها في صنع الثورة العربية التحررية الظافرة . إنها أيديولوجيات مخبولة مشبوهة تلك التي تجتاح الفكر العربي نطلب من قوى التنوير التصدي لها بصلابة على الجبهة الأيديولوجية في الصراع الدائر بين برجوازية تموه نفسها و فكرها بطلاءات فكرية مختلفة و بين قوى الثورة و التغيير في وطننا العربي .
الفكر العربي المأزوم و الذي هو فكر البرجوازيات المسيطرة في الوطن العربي يجب أن يتجاوز أزمته هذه بامتلاك أدوات المعرفة العلمية الضرورية لإنتاج المعرفة المادية بواقعنا العربي بعيدا عن التضليل الأيديولوجي الذي تحدثه التيارات الفكرية المختلفة ذات الوجوه المتعددة لعملة فكرية واحدة . إنها الفلسفات المضادة لحركة تقدم المجتمعات العربية نحو التحرر و العدل لتحقيق كرامة الإنسان . إنها الفلسفات التي تريد طمس معالم حقيقة التطور التاريخي التي إذا امتلك الإنسان العربي مفاتيحها صار قادرا بحسب منطق التاريخ على صناعة مصيره بنفسه . و إنه النضال الضاري على الجبهة الأيديولوجية بين الماركسية من جهة و ألوان لا تحصى من فلسفات الهزيمة و التشويش و الشك و البلبلة الذهنية التي تنأى بنفسها عن الواقع العياني المتحرك الحي إلى التأمل المجرد لتقدم فهما مغلوطا فيه من الوهم أضاف ما فيه من العلم .
و صاحب العقل و الثورة أحد هؤلاء المشبوهين الذين راجت فلسفتهم ردحا من الزمن في أسواق الفكر العربي .
بالقراءة النقدية المستندة إلى فكر نقيض علمي مادي تاريخي نعري أهداف و غايات مثل هذه الفلسفات التي تريد تزييف الحقيقة الموضوعية لزرع بذور الشك في نفوس الكادحين بجدوى نضالهم في سعيهم الدؤوب لبناء مجتمع ينتفي فيه التشرد و الاستغلال و الاغتراب و القمع و الإرهاب و الجهل ، إنه المجتمع الذي تتحقق فيه إنسانية الإنسان الحقيقية .
بعض أعمال ماركيوز :
1-الإنسان ذو البعد الواحد
2-نحو التحرير
3-الماركسية السوفياتية
4-إيروس والحضارة
5-فلسفة النفي
6-نهاية اليوتوبيا
7-الثورة و الثورة المضادة .














قراءة ( II )
قراءة نقدية في مقدمة "العقل والثورة"
" ملحوظة عن الجدل"
نايف سلّوم
يقول ماركوز: " إحياء هيغل؛ يعني إحياء ملكة عقلية هي القدرة على التفكير السلبي؛ وهي نقد للمنطق التقليدي الذي لا يعترف بحقيقة التناقضات ، وأيضا هو نقد للأوضاع القائمة ، ولنظام الحياة المستتب؛ و تأكيداً للطابع الديناميّ للوضع القائم.
يثبت التفكير الديالكتيكي بطلان وجود تضاد قبلي apriori بين القيمة والواقع إذ ينظر إلى الوقائع جميعاً على أنها مراحل لعملية واحدة ترتبط فيها الذات بالموضوع على نحو من شأنه ألا يكون من الممكن تحديد الحقيقة إلا في إطار الكل الشامل للذات والموضوع معاً. فكل الوقائع تنطوي على العارف كما تنطوي على الفاعل ، وهي تترجم الماضي إلى الحاضر بلا انقطاع .. وهكذا فإن الموضوعات تتضمن الذاتية في جميع بنيانها "
وعلينا هنا أن نلاحظ أن الالتباس الذي يمكن أن يخلقه هكذا تصريح يكمن في كلمة "الموضوعات"
يكتب ألتوسير تحت عنوان "من رأس المال إلى فلسفة ماركس:"إن اللعب الحقيقي بالألفاظ قد خدعنا - نحن أنفسنا- عن مكانه ، وعن سنده، وعن الكلمة التي هي مقر الالتباس. إن اللعب الحقيقي بالألفاظ لا يكون في كلمة واقع التي هي قِناعه، وإنما في كلمة موضوع. فليست كلمة واقع هي التي يجب علينا أن نستجوبها عن جريمتها؛ بل كلمة موضوع؛ أي مفهوم الموضوع، الذي يجب علينا أن ننتج فارقه، لكي نعتق هذا الفارق من زيف كلمة موضوع عندما نتصور أنها تشير إلى شيء واحد" ... " وأنتقل من ذلك ، إلى إشارة حازمة ثانية أبداها ماركس. إن نص مقدمة عام 57 19 الذي يميز تمييزاً دقيقاً بين الموضوع الواقعي وموضوع المعرفة ؛ يميز كذلك بين حركتيهما ، ويبرز - وهذا أمر رئيسي- فارقاً في النظام بين تكوّن هاتين الحركتين . ولكي يستخدم ماركس لغة أخرى تأتي باستمرار في رأس المال؛ فقد صرح أن الترتيب الناظم للمقولات في حركة المعرفة لا يتطابق مع الترتيب الناظم للمقولات الواقعية، في حركة التكوين التاريخي الواقعي " .. لقد أحرزنا تقدماً قي بحثنا هذا يكفي لكي نتمكن ، برجوعنا إلى الفارق في النظام بين موضوع المعرفة، والموضوع الواقعي ، من مقاربة المسألة التي يكون هذا الفارق دلالة عليها؛ نعني مسألة العلاقة بين هذين الموضوعين (موضوع المعرفة والموضوع الواقعي، أي العلاقة التي هي قوام وجود المعرفة بالذات" لقد ميز ماركس في مقدمات رأس المال بوضوح بين طريقة البحث وطريقة العرض .
إن عبارة "الموضوعات تتضمن "الذاتية" " الواردة عند ماركوز لا تقيم لهذا التفريق وزناً إلا بالتحفظ الذي عبرت عنه الأقواس المزدوجة . بالتالي يمكن أن تقود إلى انزلاق مثالي. أو إلى شيء من الأرواحية (للجبال أرواح مثلاً).
العلم التاريخي الاجتماعي هو كمال علمي وتكميل ؛ هو نظرية وحزب (العارف والفاعل) . لا تكميل للنظرية الماركسية إلا بقيام الحزب الثوري . إن الممارسة المنظمة (التنظيم الثوري ) متضمنة في مفهوم العلم التاريخي/ الاجتماعي ؛ إنه الجمع بين كمال العلم وتكميله في الممارسة المنظمة.
يكتب ماركوز متقمصاً هيغل: " ماالواقعية reality إلا الحصيلة الدائمة التجدد لعملية الوجود، أي العملية الواعية أو غير الواعية التي يغدو فيها "ما هو كائن" "شيئاً غير ذاته" ؛ إنها الصيرورة ؛ صيرورة الأشياء أخرى.."
يقصر هيغل هذه العملية على عملية صيرورة الوعي (تطور الوعي بالحرية) ؛ أي توسع الوعي بالتاريخ وحركته، أو المآل، بالتالي زيادة فاعلية الوعي في الحركة الاجتماعية والتاريخية ، متجاهلاً (أي هيغل) الحركة الفعلية (حتى بحضور تدخل للوعي). بالتالي ، إن الكلام هنا يصف هذه الصيرورة للوعي أو نمو الذاتية حسب هيغل يقول: "فكل واقعية reality هي عملية تحقيق للواقع realiazation ، أي نمو للذاتية " . هنا قد يخطر بالبال المصطلح القرآني؛ التأويل بمعنى التحقيق . لا يعلم تأويله؛ أي تحقيقه إلا الله
إن الواقعية هي عملية رصد ما هو كائن وعملية تغييره ، بهذا المعنى تكون الواقعية البورجوازية هي تحديد الشرط البورجوازي علمياً وتحديد تجاوزه أو شروط هذا التجاوز ، وهذا يمر عبر إنتاج العلم بالواقعة البورجوازية والعلم ببناء الحزب الثوري كأداة لتجاوز البنية الرأسمالية أو تغييرها ، بالتالي العلم بشروط تغيير التشكيلة الرأسمالية .
إذاً، الحرية ليست فقط وعي (عِرفان؛ تعرّف) الضرورة أو الشرط البورجوازي ، بل معرفة أدوات التجاوز وقوى التجاوز ، ولمصلحة من سوف يكون هذا التجاوز . إن انجاز تجاوز التشكيلة الرأسمالية هو الحرية بالفعل. إن الوعي بالشرط البورجوازي هو قوة تغيير مهمة وقد تكون حاسمة أحياناً. يقول ماركوز: "إن الحرية عند هيغل مقولة أنطولوجية ، فهي تعني ألا يكون الموجود مجرّد موضوع ، بل يكون ذات وجوده. وألا يستسلم للظروف الخارجية ، بل يحول الواقعية الحادثية factuality إلى واقعية حقيقية realization . هذا التحويل في رأي هيغل هو عصب الطبيعة والتاريخ ، وهو البناء الباطن للوجود كله، وقد يكون المرء ميالاً للاستخفاف بهذه الفكرة ، ولكن من واجبه أن يكون متيقظاً لما تنطوي عليه من مضامين"
تنمو الحرية حسب هيغل في التحول من الواقعية الحادثية إلى عقل العالم (نمو التفكير والعقل ) عبر تحول الموضوع إلى روح ؛ تحول العالم من حوادث إلى روح؛ أي إلى عقل هذه الحوادث في النفس؛ أي أن على الروح الإنساني ألا يستسلم "للخارجية" أو للطبيعة الحسّية ؛ بكلام آخر: عدم الاستسلام والخضوع للتقنية الحديثة كطبيعة (جسد أو تجسيد)؛ عدم الافتتان بالتقنية والوقوع بالنزعة التقنوية . أي عدم الاستلاب تجاه الطبيعة وفتنة الجسد/ التقنية. جاء في سورة ص: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب)
فكرة ماركوز ، أن على الماركسيين ألا يستخفوا بهذه الفكرة ؛ فكرة الخروج من التفكير الوضعي (الإيجابي- الجسدي ) تجاه التقنية وأن يعيدوا الاعتبار للتفكير السلبي ، أي الاعتبار لعقل هذه التقنية في سياق النظام الاجتماعي الرأسمالي المسيطر ، أي أن لا تؤخذ التقنية كقوة تحرر من الطبيعة فحسب، بل تؤخذ كقوة استغلال وقوة تدمير بحكم استيلاء الرأسماليين عليها والسيطرة وتكريس العبودية الرأسمالية بواسطتها .
يتركز انشغال هيغل، إذاً، في العرفان أو التفسير ، حيث يتوصل إلى نوع أصيل من التفسير بحيث يتوجب على الذات أن تكون متيقظة وفاعلة في سبيل إنتاج واقعية حقيقية ، وهو ما يسميه هيغل فاعلية المفهوم أو الذات في بناء هذه الواقعية الحقيقية . وهو ما يسمى بديالكتيك العيني في الماركسية : الموضوع؛ الموجود منقول إلى الرأس ومحوّل فيه؛ يكتب ماركس في (مقدمة رأس المال- تذييل الطبعة الثانية): "فالمثالي ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحوَّل فيه" . هذه خطوة جبارة وحاسمة ، والتغطية عليها بعبارة ماركس الشهيرة التي تقول : "لم يفعل الفلاسفة حتى اليوم سوى تفسير العالم بطرق مختلفة ، لكن الأمر الهام هو تحويله " . إن التغطية على التفسير الديالكتيكي بحجة تغيير قائم على انطباعات حسية أو على تفسير وضعي- جسدي هو ماركسية مدعية وسطحية وهي التفاهة التي تحدث عنها ماركس في نقده للاقتصاد السياسي السطحي .
مقولة الوعي الديالكتيكي عبر تحويل الواقعية الحادثية إلى واقعية حقيقية هي مربط الفرس عند هيغل أو هي "رودوس" هيغل . يقول هيغل في هذا المكان: "هنا رودوس فلأرقص هنا!"
لقد أكمل ماركس هذا الجهد بالتأكيد على أن الكمال العلمي التاريخي/الاجتماعي غير كاف وعلى النظرية تكميله بالحزب السياسي الثوري . لأن إنجاز الحرية لا تتم بوعي الضرورة فحسب ، بل تتم فعلياً بتجاوز هذه الضرورة . نقتبس من ماركوز الذي يتماهى هنا مع هيغل كما هو : "إن الإنسان والطبيعة يوجدان في أحوال اغتراب ، ويوجدان "على خلاف ما هما عليه " وكل طريقة في التفكير لا تستبعد هذا التناقض من منطقها إنما هي منطق باطل .. فالفكر لا "يطابق" الواقع إلا بقدر ما يحول الواقع أو يبدله عن طريق فهم بنائه المتناقض .. وهنا يؤدي مبدأ الجدل (الديالكتيك) إلى دفع الفكر إلى ما وراء حدود الفلسفة .."
يركز هيغل على طريقة تفكير تقود من الحسرة أمام الطبيعة كشيء معطى مجهول إلى "المصالحة معها " عبر عقلها ومعرفتها، إذ يعتبر أن الطبيعة هي انخلاع الروح (انسلاخه؛ ضياعه؛ اغترابه) بالتالي فإن معرفتها هي في عودة الروح على ذاته بعد هذا الانسلاخ. هنا تكمن مثالية هيغل.
لكن المهم في الأمر هنا أن الفكر لا "يطابق" الواقع من الضربة الأولى . يكتب لينين: "إن حقيقة الكائن être هي الماهية essence. تلك هي الجملة الأولى التي تبدو مثالية وصوفية بشكل عميق. ولكن هذا يتبع مباشرة ، إن صح القول، بنسيم عليل. "الكائن هو المباشر، بما أن المعرفة تريد أن تعرف الحقيقة- ما الموجود هو في ذاته ولذاته- فإن المعرفة لا تقف عند المباشر وتعييناته، بل هي تذهب إلى ابعد خلال هذه التعيينات في افتراض أن وراء [التشديد من هيغل] هذا الموجود ثمة بعد شيئاً آخر غير الموجود نفسه، وأن هذا الأساس الخلفي هو حقيقة الموجود . هذه المعرفة هي معرفة موسّطة ، لأنها لا توجد مباشرة عند وفي الماهية ، بل هي تبدأ بآخر،هو الموجود، وعليها أن تقطع درباً أولياً ، هو الدرب الذي يذهب إلى ما بعد الموجود، أو بالأحرى الدرب الذي يذهب في أعماقه.. هذه الحركة ، طريق المعرفة هذا ، يبدو "فاعلية المعرفة" التي هي خارج الكائن "
إن على الفكر أن ينفي ويحول في الرأس هذا الواقع وأن يعيد بناء مقولاته المعطاة بشكل أولي. أي أن يرتب عناصر الواقعة بعد البحث التفصيلي فيها، من ثم يتم القبض على الواقع في حقيقته . لا يمكن إذاً للفكر أن يقبض على الواقع في حقيقته من دون إنجاز هذا التحويل في الرأس البشري.
يعتبر هيغل أن العالم الجاهل غير حر.
الأمر المهم الثاني هو أن هذا التحويل في الرأس للواقعة الحادثة وتحويلها وبالتالي معرفة حقيقتها يدفع إلى تخوم أخرى ؛ يدفع نحو الممارسة ؛ نحو التحويل الفعلي أو التغيير الواقعي لهذه الواقعة الحادثة . إن الوصول إلى كمال العلم يدفع مباشرة إلى تكميله عبر الممارسة العملية ؛ يدفع إلى بناء الحزب السياسي والممارسة السياسية الاجتماعية الهادفة إلى تغيير الوضع القائم. وهذا ما حصل في العلم الطبيعي الحديث ؛ فلم يكتف هذا العلم بالصياغة النظرية لإنجازه المعرفي حول الكهرباء والمغناطيسية ، بل أكمل هذه الصياغة أو التفسير للطبيعة بالتقنية أو الممارسة الصناعية . وهكذا يميل كل كمال علمي، سواء أكان طبيعياً أم تاريخياً/ اجتماعياً إلى التكملة التي هي الممارسة بهدف تجاوز الشرط الفعلي القائم.
إن معرفة الواقع حقيقة يعني رفض الواقعة الحادثة . "والرفض هو عملية الفكر مثلما هو عملية الفعل"
هكذا نستنتج أن فشل فكر هيغل في الوصول إلى تخوم الممارسة العملية يعني فشله في معرفة الواقعية الحقيقية . إن فهم الموجود في تاريخيته يعني توقع موته ، بالتالي نحن في حضرة روح متحررة من جسديته المباشرة.
يكتب ماركوز : " وهكذا فإن الحرية تحمل في أساسها طابع السلب.. فالوجود اغتراب . وهو في الآن نفسه العملية التي تعود بها الذات إلى نفسها إذ تفهم الاغتراب وتسيطر عليه.. وهذا يعني بالنسبة إلى تاريخ البشرية ، بلوغ حالة انتماء إلى العالم .. يظل فيها الفرد في انسجام وثيق مع الكل ، ولا تكون لشروط عالمه وعلاقاته موضوعية أساسية مستقلة عن الفرد . على أن هيغل كان متشائماً فيما يتعلق باحتمال بلوغ هذه الحالة ، ويبدو أن عنصر مهادنة الأوضاع القائمة ، وهو العنصر الذي كان ظاهراً بقوة في أعماله ، كان راجعاً إلى تشاؤمه هذا إلى حد بعيد ، فهو يرد الحرية إلى عالم الفكر المحض ، وإلى الفكرة "المطلقة" . إنها مثالية العاجز هذا هو المصير الذي يشترك فيه هيغل مع التراث الرئيسي في الفلسفة"
الوجود بالنسبة لهيغل إدراك "العالم"؛ يبدأ بإدراك هذه الغربة بين الفكر والموجود؛ حيث تشكل هذه اللحظة بداية عملية بناء الوعي ؛ بداية عملية تفهم الاغتراب وتجاوزه . لكن العملية برمتها هنا ما تزال في الذهن (بلوغ الفكرة المطلقة بلغة هيغل؛ أو بلوغ الكمال العلمي الباطني بالموجودات بلغة ابن عربي). إن هذا البلوغ هو الوصول إلى نقص ؛ إن عقل "العالم" يعني عقل جوانيته اللاعقلية ، بالتالي ضرورة تغييره وتجاوزه بالفعل. هذا العقل يوصل إلى تخوم الممارسة . إن بلوغ الكمال العلمي يدفع إلى التكميل الذي هو الممارسة العملية والمبادرة إلى تجاوز "العالم" هنا بالفعل.
إن حصر الاغتراب بحالة اغتراب الوعي ، أي الاغتراب عن فهم حقيقة الموجودات يعني فهماً انتروبولوجياً لمسألة الاغتراب (الضياع؛ الانسلاب؛ الانسلاخ، الخ..)، وهو يعني الخلط بين الضياع والتموضع (الموضعة أو التشييء) ؛ أي موضعة الروح الإنسان وقوة عمله عبر إنتاجه لأشياء أو الأفكار أو الفنون أو المؤسسات، الخ..
الانتماء عند هيغل هو الوصول إلى "الفكرة المطلقة" عن موضوعات العالم . هيغل متشائم لأن الوصول إلى تخوم كينونة العالم البورجوازي لم يهده إلى قوة تاريخية بديلة . لم يشهد هيغل صعود البروليتاريا كقوة تاريخية بديلة مولدة للتفاؤل التاريخي. لم تكن روافع الممارسة التاريخية قد حضرت بعد إلى مسرح التاريخ. من هنا وعيه بالاغتباط بالتفسير ؛ اغتباطه بالفكرة المطلقة؛ هنا رودوس هيغل ! هيغل ذروة التفسير وبداية الممارسة ؛ ذروة فلسفة التاريخ البورجوازية وعشية فلسفة الممارسة والنقد الاجتماعي الجذري. لقد أكمل ماركس جهد هيغل بفعل الصعود التاريخي للبروليتاريا كطبقة تاريخية جديدة ذات أفق جديد بديل . إن حديث ماركس عن المجتمع الجديد فيه الأفراد متحدون يصنعون وجودهم بوعيهم وقوة عملهم ، وينزلون العلاقات الاجتماعية من علاقات فوقهم تحكمهم وتسلبهم إلى علاقات بينهم وتحت نظرهم – هو الأمر الجذري. حديث هيغل عن "بلوغ حالة انتماء إلى العالم " يظل فيها الفرد في انسجام وثيق مع الكل . ولا تكون لشروط عالمه وعلاقاته "موضوعية أساسية مستقلة عن الفرد"
إن المقولة التي فحواها أن : "العقل هو سلب السلب " تعني أن السلب الأول هو سلب للواقعة الحادثة ، ولا بد من سلب آخر هو فاعلية المفهوم (الروح/ العقل) للوصول إلى الواقعية الحقيقية
في سنة 1960 يعود هربرت ماركوز لقراءة هيغل من جديد وبشكل متعاطف (مع عطف ماركس على هيغل) ، لأن بوادر الإنهاك المتبادل للطبقات تكون قد بدأت بالظهور. إن الإحباط التاريخي للتجربة السوفييتية في روسيا بفعل صعود البيروقراطية السوفييتية والإنهاك الذي خلفته الحرب العالمية الثانية ومن ثم الحرب الباردة والانقسام في البروليتاريا العالمية بفعل الظاهرة الامبريالية في الرأسمالية ، كل ذلك دفع بمفكرين من طراز ماركوز للعودة إلى لحظة "التفسير السلبي" [تفسير لا يقود إلى تكملته بالممارسة السياسية]؛ بالتالي العودة إلى هيغل . تعكس هذه العودة بالتحديد إلى هيغل تشاؤماً تاريخياً مع إصرار أخلاقي على عدم صلاحية الرأسمالية من الناحية الإنسانية.
يقول ماركوز: "لقد كان الشغل الشاغل للفلسفة ... هو تفسير ما هو موجود من خلال ما ليس بموجود ومواجهة الوقائع المعطاة بما هو "خارج" عنها... إن وظيفة السلب في الفكر الفلسفي ، من حيث هي قوة تعمل على تحرير هذا الفكر، لتتوقف على الاعتراف بأن السلب مثل موجب ، أي أن ما هو موجود يستبعد ما ليس بموجود ، وبذلك يستبعد إمكاناته الخارجية، ومن ثم فإن التعبير عما هو موجود وتعريفه من خلال ما هو فيه فحسب ، إنما هو تشويه وتزييف للواقع ... فالواقع مغاير لما يصاغ في منطق الوقائع ولغتها وزائد عنه" . يستخدم ماركوز مصطلح الواقعة الحادثة ، ومن ثم مصطلح الواقعة الحقيقية بعد أن يكون الفكر قد كمّل مشواره .
يكتب ماركوز: "كلما اتجهت قوة الوقائع المعطاة إلى أن تكون شمولية، تستوعب في ذاتها كل معارضة، وتعرف عالم المقال بأسره، بدت محاولة التكلم بلغة التناقض محاولة لا عقلية ، غامضة ، مصطنعة ، على نحو متزايد "
ننقد هنا هذه السقطة الوضعية التقنوية لماركوز بالقول : إن غياب مفهوم النظام الاجتماعي الذي تعمل التقنية ؛ وقوة الوقائع في كنفه أجبر ماركوز على استعارة السلب وكأنه مفهوم غريب عن البنية وظهر وكأن السلب قابلية أخلاقية أسطورية قادمة من عالم الغيب (يظهر كتعزيم رمزي) ، بل ربما يكون مستعار من الأطراف المتخلفة المهمشة في النظام وهذه سقطة وضعية أخرى "عنصرية "[ عنصر من عناصر النظام] في فهم ماركوز للنظام الامبريالي الرأسمالي : كأنه نظام برأس فقط من دون أطراف متخلفة ، ومن دون أحياء للمهاجرين الأفارقة والآسيويين واللاتينيين في عواصم المراكز الميتروبولية.
ومع ذلك فلفكرة ماركوز فائدة واضحة في التحليل؛ حيث يمكن الاستنتاج منها : أنه كلما استوعب النظام الإمبريالي الرأسمالي القائم كل معارضة وكل تعرّف نقدي؛ أي كلما تعايش وألف عالم المقال النقدي بأسره (دمج التفسير النقيض في بنيته) كلما بدت محاولة التكلم بلغة السلب والتناقض "لا عقلية" وغير مفهومة. إن المضارع لذلك هو استيعاب البورجوازية الإمبريالية للبروليتاريا الأوربية ولطاقاتها العارفة (تدجينها وتحويلها من ذات للتاريخ إلى موضوع من موضوعات البورجوازية ودمجها في المجتمع البورجوازي). كلما بدت الأمور هكذا كلما بدت لغة التناقض "غير معقولة"، لغة السلب بوصفه "الرفض العظيم" لقبول قواعد لعبة نردها مغشوش .. إن من الضروري أن نجعل الغائب حاضراً لأن القدر الأكبر من الحقيقة يكمن فيما هو غائب" . يقول ابن عربي في رسالة الفناء بالمشاهدة: "أما بعد فإن الحقيقة الإلهية تتعالى أن تشهد بالعين التي ينبغي لها أن تشهد، وللكون أثر في عين المشاهد فإذا فني ما لم يكن وهو فان ويبقى من لم يزل وهو باق حينئذ تطلع شمس البرهان لإدراك العيان فيقع التنزه المطلق المحقق في الجمال المطلق ، وذلك عين الجمع والوجود(الكمال العلمي الباطني) " . إن كلمة الله تشير إلى غياب الكائن (الموجود) أو حقيقة الاسم وتشير إلى حضور الاسم وهو ما تعبر عنه عبارة "لا إله إلا الله". إن "الغياب العظيم" يعبر عنه بالاسم العظيم أو كلمة الله ؛ الغياب الشامل يعبر عنه بحضور الاسم الشامل (الله)
الكلمة هي غياب الشيء .. إن حضورها يعرض علينا إحساساً بغياب شامل .. " هذا ما يقوله مالارميه الشاعر الفرنسي . لكن مالارميه لا يعني ما قلناه عن اسم الله السالف الذكر، إنه غير معني بالأسماء الرحمانية، بل هو يشير إلى أسماء باطلة ؛ منكرة؛ "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان" . أسماء يابسة كأعجاز النخل أو كقشرة بازلاء عجفاء فسقت حباتها منذ أمد ؛ يريد مالارميه القول: لم يعد للكلمة في عالم إمبريالي رأسمالي من معنى ، لم تعد تحمل في طياتها إلا الإنكار (إنكار الأشياء وليس تعريفها)، وإنكار ذاتها بأنها لا تحمل أي معنى للموجود .. لقد انقلبت إلى نكرة وإنكار ولعنة وشقاء وأبلسة بعد أن كانت معرفة ورحمة . تحولت من تعريف وتعرّف بالموجود إلى إنكار محض فحسب ؛ إلى شك مميت . لقد تحولت إلى صوت منكر ؛ "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" . وكان إبليس يمسك بذنب الحمار حين دخوله سفينة نوح، ولهذا كان الحمار بليداً في دخوله.
أما الشاعر الفرنسي الآخر الذي يستعير منه ماركوز فيضيف أمراً هاماً. هو جبروت المستقبل ، وجبروت الأمل الذي يخلقه السلب المتعين بإشارته إلى ما لم يكن بعد؛ إلى ما لم يوجد بعد: "ماذا نكون نحن إذن بدون معونة ما لا يوجد؟" إن شطب لحظة المستقبل ؛ لحظة الأمل من الإنسان يعني تحوله إلى كائن غاضب عنيف ومميت ، تحوله إلى مسخ خطير.
السلب المسيطر في الديالكتيك هو السلب المتعين determinate negation "السلب يكون متعيناً إذا كان يرد الأوضاع القائمة إلى العوامل والقوى الرئيسية التي تعمل على هدمها ، وعلى إيجاد الحلول البديلة الممكنة خارج نطاق الوضع الراهن .. وهذه العوامل والقوى هي حالة الواقع الإنساني ، هي عوامل وقوى تاريخية ، ويصبح السلب المتعين آخر الأمر سلباً سياسياً .. وهو بهذا الوصف قد يجد التعبير الأصيل عنه في اللغة غير السياسية (في الشعر الطليعي؛ مالارميه، فاليري.. ) ولا سيما إذا أصبح البعد السياسي بأسره جزءاً لا يتجزأ من الوضع القائم"
إن التعبير الشعري للسلب السياسي (الثورة) يعني تماماً قدرة البورجوازية الأوربية الإمبريالية على تكييف واستيعاب حركة الطبقة العاملة في المراكز الميتروبولية، وهي ظاهرة أشار إليها لينين في كتابه الإمبريالية .
ثانياً تشير عبارات ماركوز إلى تمركزه حول أوربا وإغفاله حقيقة كون الرأسمالية نظاماً عالمياً ذو رأس وأطراف متخلفة ، بالتالي لم ير في مهمشي النظام سوى ألئك القاطنين في مدن صفيح أوربا أو مجانين أوربا. نتيجة نزعته الأوربية الضيقة؛ لم ير ماركوز أن العالم المتخلف هو مدن صفيح الرأسمالية، ومنه سيأتي السلب السياسي للرأسمالية محركاً المياه الرأسمالية المركزية الراكدة ومكدراً الرأس الإمبريالي المطمئن.
السلب المتعين يختلف عن التضاد المبتذل أو التجديد المبتذل الرأسمالي الرخيص (الموضة) . السلب المتعيّن سلب منتج بالمعنى التاريخي لأنه لا يكتفي بهدم القديم بل يقدم بديلاً تاريخياً وبناء جديداً.
التعبير عن السلب السياسي بشكل مخفض حتى الحدود النقابية/ الاقتصادوية يجعل السلب المتعين يغدو جزءاً من وضع قائم ، وهو يعني بالضبط احتواء قوة الهدم لدى البروليتاريا من قبل البورجوازية الإمبريالية ، وكذلك من قبل بورجوازية الأطراف عبر تكييف البروليتاريا في منظمات مخضعة للنظام القائم.
"المنطق الديالكتيكي منطق نقدي ، فهو يكشف أحوالاً ومحتويات للفكر تعلو على النمط المقنن للمبادئ المقننة والسائدة .. ليس الفكر الديالكتيكي هو الذي يخترع هذه المحتويات ، بل هي قد انضافت للمفاهيم خلال التراث الطويل للفكر والفعل."
في هذه العبارة تتجلى تاريخية الديالكتيك عبر إضافة محتويات جديدة إلى مفاهيمه . فقد أضاف ماركس مفهوم فضل القيمة ، وأضاف لينين وقبله مفكرون ليبراليون واشتراكيون (هوبسون، هلفيردينغ) مفهوم الإمبريالية الرأسمالية، ولاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية أضيف مفهوم التخلف ، وهكذا لا يمكن دراسة الاقتصاد العالمي الراهن بنيته وآلياته ودولته بعيداً عن مفاهيم من مثل فضل القيمة وأشكال الاستغلال ، ومفهوم الإمبريالية الجديدة ومفهوم البنية العالمية للنظام الرأسمالي وتفاوت هذه البنية ومعه مفهوم التخلف . لقد غدت كل هذه المفاهيم التي كانت سابقاً محتويات للفكر ، غدت أدوات ضرورية للتحليل ، ومفاتيح مفهومية لا غنى عنها للتحليل التاريخي والاجتماعي . وهذا ما أسميه بـ جدل النظرية والمنهج في الديالكتيك المادي أو جدل المحتوى والشكل في الحركة التاريخية للعلم التاريخي /الاجتماعي . إن النظرية راهنة دائماً ، وهي المحتوى الفكري العلمي للواقع الراهن ، وهي الأدوات المفهومية الجديدة للتحليل النظري اللاحق.
يقول ماركوز: "إن انفصال الفكر عن الفعل ، والنظرية عن الممارسة هو ذاته جزء من العالم غير الحر .. فليس في وسع أي فكر أو أية نظرية أن تخلصنا منه (هذا العالم ، عالم الرأسمالية المتوحشة المتعفنة المحتضرة ) ، ولكن النظرية يمكن أن تساعد على تمهيد الأرض .. وقدرة الفكر على وضع منطق ولغة للتناقض هي شرط أساسي لتحقيق هذه المهمة " . قدرة الفكر على التفكير السلبي هي الكفيلة بذلك ، لكن علينا تجديد هذه الملكة للفكر. لكن الأمر ليس بهذه البدهية ؛ "إن التفكير الديالكتيكي لم يحل بين هيغل وبين الارتقاء بفلسفته إلى مرتبة المذهب النسقي الشامل ... إنني لا أعتقد أن فكرة "العقل" ذاتها هي العنصر غير الديالكتيكي في فلسفة هيغل .. ففكرة "العقل" هذه تشتمل على كل شيء . تكمن في الكل ، الكل بمعزل عن الخير والشر ، والصواب والخطأ ... عندما اتخذت النظرية الماركسية طابعها بوصفها نقداً لفلسفة هيغل، فعلت ذلك باسم العقل .. وإنه لمما يتمشى مع أعمق اتجاهات تفكير هيغل ، أن تنفى فلسفته أو "ترفع" لا عن طريق الاستعاضة عن العقل بمعايير معينة خارجة عن نطاق العقل ، بل عن طريق إرغام العقل ذاته على الاعتراف بمدى ما لا يزال ينطوي عليه حتى الآن من عناصر لا عقلية ، عمياء ، وبمدى كونه ضحية لقوى لا يمكن السيطرة عليها.."
إن العقل بوصفه معرفة نامية وممارسة للإنسان .. عليه أن يقبض على المفارقة والتناقض ، عليه أن يقبض على لحظة القطع والتحول كلحظة سلبية أصيلة في مجرى التطور ، وعليه أن يلتقط الإيجابي الجديد كواقع جديد ، وشكل جديد للعقل . على العقل الديالكتيكي أن يعي تاريخيته وانتقاله من شكل إلى آخر أكثر غنى بالمحتوى العلمي التاريخي الاجتماعي؛ بالتالي أكثر تطوراً ؛ أكثر إنسانية وتحرراً وانتماءً إلى العالم الذي يكتشفه باطراد. لم يعد العقل ملجأً لمصالحة ما لا يمكن التصالح معه ، بل عليه أن يعي السلب والتحول وأن يضع نتائج هذا التحول من الجهة الأخرى ، عليه عقل الثورة وعقل العالم الجديد والمجتمع الجديد وهذا هو بالضبط مغزى البرنامج السياسي في حديه الأعلى والأدنى. أي في إستراتيجيته وتكتيكه وفي بعده الحضاري النقدي.
يقول ماركوز: "ولما كان هيغل قد سلم بالشكل التاريخي المحدد "للعقل" فإن التقدم الذي تجاوز هذا الشكل للعقل لا بد أن يكون تقدماً "للعقل" ذاته.. ولما كانت مهادنة العقل للنظم الاجتماعية الظالمة قد أدت إلى استمرار العبودية، فإن التقدم في الحرية يتوقف على أن يصبح الفكر سياسياً، ويتخذ شكل نظرية تثبت أن السلب بديل سياسي كامن في قلب الموقف التاريخي.. وعلى ذلك فإن "الانقلاب" المادي الذي قام به ماركس على هيغل لم يكن تحولاً من موقف فلسفي إلى آخر ، ولا من الفلسفة إلى النظرية الاجتماعية فحسب ، بل كان تعرفاً (كشفاً ) بأن أشكال الحياة القائمة قد بلغت مرحلة سلبها التاريخي المتعين" ؛ بكلام آخر كانت إعلاناً عن الصعود السياسي للبروليتاريا كطبقة تاريخية بديلة.
يضيف ماركوز: "إن الذات التي قهرت المادة تعاني من وطأة كشفها الثقيلة . وذلك لأن أولئك الذين يتحكمون في هذا الكشف ويوجهونه قد استخدموه في خلق عالم تعمل فيه أسباب الرفاهية المتزايدة في الحياة ، والقوى المتعاظمة للجهاز الإنتاجي على إبقاء الإنسان في حالة عبودية أمام الوضع [الرأسمالي] القائم .. أما تلك الجماعات التي حددتها النظرية الديالكتيكية بوصفها قوى السلب والرفض ، فهي إما قد انهزمت ، وإما هادنت النظام القائم.. وهكذا فإن قوة التفكير السلبي تقف مدانة عاجزة أمام قوة الوقائع القائمة.. إن قوة الوقائع قوة طاغية ، فهي قدرة الإنسان على الإنسان ، وقد بدت كأنها حالة طبيعية معقولة .. وضد هذا المظهر البادي يواصل الفكر الاجتماعي باسم الحقيقة ، وكذلك باسم الواقع ؛ إذ أن الواقع الأعلى والأشمل هو أن الوضع القائم يحافظ على بقائه عن طريق التهديد المستمر بالدمار الذري ، وعن طريق تبديد الموارد على نحو لم يعرف له من قبل نظير ، وعن طريق الهزال الفكري ، وأخيراً وليس آخراً عن طريق القوة الغاشمة .. إن أي منهج لا يستطيع أن يدعي لنفسه احتكار المعرفة ، ولكن أي منهج لا يمكن أن يبدو أصيلاً إذا لم يعترف بأن القضيتين الآتيتين تقدمان وصفاً ذا معنى ودلالة للوضع الذي نوجد فيه : "الكل هو الحقيقة " والكل باطل "

ملاحظة: كتب ماركوز هذه المقدمة في مارس/ آذار 1960 .








باب الترجمة











Karl Kautsky
Are the Jews a Race?
(1914/1926)
Published: Jonathan Cape. Printed in the United States in 1926, never gives the identity of the translator.
Transcribed: Ted Crawford for marxists.org, October, 2002

كارل كاوتسكي:
هل اليهود عرق؟
1914/1926











تقديم من المحرر:
يكتب لينين في مقالة له بعنوان: "وضع (البوند) في الحزب": "إن فكرة شعب يهودي خاص ، علاوة على أنها متهافتة مطلق التهافت من وجهة النظر العلمية* ، فهي رجعية في مرماها السياسي . والوقائع المعروفة من الجميع لتاريخ حديث العهد والأحداث السياسية المعاصرة هي بين أيدينا لتقدم لنا الدليل العملي القاطع على ذلك . ففي أوربا قاطبة سار سقوط الإقطاع وتطور الحرية السياسية جنباً على جنب مع التحرر السياسي لليهود الذين تخلوا عن "اليدشية" لتبنوا لغة الشعب الذي يعيشون بين ظهرانيه ، وبصورة عامة ، مع التقدم المحقق لاندماجهم بالسكان الذين يحيطون بهم . فهل ينبغي علينا أن نرجع دوماً على نظرياتنا الخاصة فنعلن أنم روسيا ستشكل استثناء ، بالرغم من أن حركة تحرر اليهود أعمق وأوسع فيها من أي مكان آخر بفضل يقظة وعي بطولي للذات لدى البروليتاريا اليهودية ؟ أممن الممكن أن نلجأ إلى الصدفة لنفسر أن القوى الرجعية في أوربا بأسرها ، وفي روسيا على الأخص ، هي على وجه التحديد التي تحتج على تمثل اليهود وتبذل قصارى جهودها لتأبين خصوصيتهم؟.. وفكرة "قومية" يهودية هي فكرة ذات طابع رجعي واضح لا لدى أنصارها المنطقيين مع أنفسهم (الصهاينة) فحسب، بل أيضاً لدى أولئك الذين يحاولون التوفيق بينها وبين أفكار الاشتراكية –الديمقراطية (البونديين) "
*- إن العلم الحديث لا ينفي الخصائص القومية لليهود فحسب ، بل ينفي أيضاً الخصائص العرقية في الوقت الذي يضع فيه في المقام خصوصيات تاريخ اليهود. يتساءل كاوتسكي : "هل السمات الخاصة باليهود نابعة من طابعهم العرقي ؟ ويجيب بأننا لا نعرف بدقة حتى ما معنى الكلام عن عرق . "ليس بنا البتة من حاجة للجوء إلى مفهوم العرق الذي لا يقدم البتة من جواب حقيقي والذي يثير بالأحرى أسئلة جديدة . ويكفي أن نتتبع تاريخ الشعب اليهودي حتى تتوضح أسباب طابعه" . ويصرح رينان الاختصاصي في ذلك التاريخ: "كذلك فإن السيماء الخاصة وطرائق المعيشة لدى اليهود هي نتيجة الضرورات الاجتماعية التي أثقلت بوطأتها عليهم طوال قرون أكثر منها ظاهرة عرقية"" "نصوص حول المسألة اليهودية هامش ص 27 . اقتبس لينين هذا الاستشهاد من كتاب كاوتسكي موضع الترجمة : "هل اليهود عرق؟""
هل اليهود عرق؟
تأليف كارل كاو تسكي
ترجمة جلال المسدّي
الفصل الأول:
نظريات العرق
" في عهد اليهويّ ، لا أرى عرقاً، فالعرق الذي ينتمي إليه اليهودي هو ما لا أستطيع تحمله " /1/ هذا هو الشعار الذي تحمله معاداة السامية الحديثة و التي ـ على عكس معاداة السامية الساذجة في عصور سابقة ـ تفتخر بروحها العلمية وتشعر نفسها حرةً من الاضطهادات الدينية. وكما كان حال الدين سابقاً ، وهي حاله الآن, فإنه يجد نفسه مجبراً على تبرير أو تقنيع كل الاختلافات الممكنة في مصالح الفئات و الشيع . فعلى علم الطبيعة الآن أن يخدم في تقديم المصالح الطموحة ذات الحدود الطبقية زماناً ومكاناً على أنها ضرورات طبيعية وأبدية .
إن هذا لا يعني أن الدين سابقاً ـ وعلم الطبيعة الآن ـ قد خلق أساساً لمثل هذه الغايات من قبل الشيع المختلفة المصالح ، كما يتم تقديم الدين حالياً في بعض الأحيان بشكل خاص . فقد نما علم الطبيعة و الدين من جذور مختلفة كلياً . ولكن حالما أصبح كليهما قوةً تحكم تفكير الناس ، وجدت كل طبقة اجتماعية نفسها مكرهةً على توظيف هذه القوة لتبرير مصالحها بالاستناد على أثر هذه القوة . في نهاية القرن الحادي عشر عندما تخلصت أمم وسط وغربي أوربا من ضغط السلاف و العرب إلى الحد الذي مكنهم للمبادرة و الهجوم ، ونهب الشرق الغني، عنونوا حملات السرقة ـ الصليبية ـ بنداء المعركة : الله معنا ! وبعد عدة قرون ، وعندما دفع الأتراك الوجود المسيحي بعيداً في البحر المتوسط . ومع ظهور الرأسمالية في أوروبا الغربية ، رأسمالية لاهثة وراء موطئ قدم لها في المستعمرات ولإيجاد أدوات جاهزة لبعثاتها المغامرة إلى القارات البعيدة في بلدان الجوار مرهقة التراجع البيزنطي ، تمت زيارة هذه القارات بالنار و السيف ، بالسرقة و القتل ، من أجل جلب نور الدين للغوغاء من أجل النصر الإلهي للرب .
و الصراعات الطبقية في أوربا نفسها و التي كانت حينها تصفي الإقطاعية و تبشر بالرأسمالية ، وامتدت منذ نهايات القرن السابع عشر من قبل مختلف الأحزاب و الشيع قد جرت بابتهالات وأدعية مستمرة من الإنجيل وعلى ألسنة أباء الكنيسة استعاذة بها من الخطر القادم .
ومنذ ذلك الوقت فقد الدين قوته . ومع الرأسمالية الصناعية ، استبدلت الذهنية المتدينة في التفكير بالذهنية العلمية في التفكير ، ما يزال الدين محافظاً على نفسه لحين ، باستناده على قوة العادة كقوة محافظة ، إلا أن الينابيع الداعمة للثورة الاجتماعية التي تلت, توقفت عن النهل من معين الذهنية الدينية كفكر وكجدال .
إن تقدم الذهنية الرأسمالية الجديدة في الإنتاج مرتبطة بشكل وثيق بتقدم العلوم الطبيعية . وكل من هاتين الظاهرتين تقدم دعماً قوياً للآخر .
و مثقفو البرجوازية اليوم يطالبون أن تكون جميع المظاهر الاجتماعية متسقة مع العلوم الطبيعية أي : مع القوانين المكتشفة للطبيعة . وكل مصلحة اجتماعية يجب أن تجد تبريراً لها بحسب مدى توافقها مع قوانين الطبيعة .
على أي حال، ضمن هذا الإطار ، ما يزال المجتمع البشري يفشل أحياناً في اعتبار ذاته جزءاً خاصاً من الطبيعة ، باعتبار أن له قوانينه الخاصة، وباعتبار أن له تميزه عن قوانين الطبيعة العضوية كما لهذه الأخيرة من تميز في قوانينها عن الطبيعة غير العضوية .
عدم تماسك وجهة النظر هذه يصبح واضحاً بسهولة ، مولداً رد فعل يفضل عزل المجتمع البشري أو الإنسان نفسه ككائن اجتماعي أخلاقي عن قوانين الطبيعة السببية
تتحرك الفلسفة البرجوازية في أيامنا هذه بين هذين الحدين الأقصيين.
وحالما انتهت الداروينية من تقدمها الثوري في حقل العلوم الطبيعية ، تم الإيعاز للعلم المعاصر كي يعمد على تطبيقها في الحقل الاجتماعي أيضاً دون أي ضجة . في الطبيعة ليست هناك قفزات مفاجئة ، هناك تحولات طفيفة غير ملحوظة للفهم ، ومن هنا فعلم الطبيعة يحرّم الثورات ويدخلها في خانة الاعتداء على قوانين الطبيعة!
وصراع البقاء يقدم على أنه عملية أبدية من حيث أن تأسيس المجتمع من دون المنافسة يعاكس الطبيعة ، الخ..
في العقود القليلة الماضية يطرح مفهوم العرق بشكل خاص معتمداً على التجارب التاريخية السيئة كتفسير له, أو كتبرير للمأسسة الاجتماعية وعناصر قيامها.
تقدم السياسة الكولونيالية (الاستعمارية) اليوم من قبل المنظرين العرقيين كضرورة طبيعية . كنتيجة عن حقيقة أن الطبيعة تخلق أعراقاً سائدة وأخرى تابعة . وتتمتع الأولى فقط بالقدرة الإبداعية ، أما الثانية فمجردة من حق الاستقلال لا يمكن لها الاستمرار من دون توجيه أجنبي ولا يمكن لها التطور لمرحلة أعلى بل هي مقدرة لخدمة العروق السائدة .
إلا أن قانون الضرورة الطبيعي الذي يعمل في إطاره منظرو العرقية هؤلاء، يوفر استنتاجات أخرى إضافية لزمرة محددة من البرجوازية في أيامنا هذه . حتى ضمن العروق السائدة هناك اختلافات "تمايزات " في العرق ، فالعرق الأشقر كونه الأكثر تميزاً بين جميع العروق . فهؤلاء السادة الشقر /التورديك / يقدمون أنفسهم على أنهم الأذكى و الأنبل و الأقوى بين البشر . وبالتالي فعلى هذه البقية خدمتهم . وأما السياسة الدولية فيجب أن تبنى على هذا المبدأ ومنه ينتج أيضاً ضرورة وجود المستثمِرين و المستثمَرين .
بالنظر إلى التاريخ من نقطة الوقوف هذه ، يفترض للثورة الفرنسية مهمة محدودة جداً .فالسيد بورنهارك ، بروفسور القانون العام في جامعة برلين ، يبدأ من حقيقة أن منطقة فرنسا اليوم ، كانت مأهولة سابقاً من "السلت" ، ومن ثم حكمها الرومان ، وأخيراً استسلمت خلال فترة هجرة الأمم للقبائل التيوتونية، التي شكلت هناك سلطة حاكمة جديدة ، تحكموا بها بمساعدة الكنيسة الكاثوليكية .
تتبدى هذه الحالة لبورنهارك كإنجاز حصري للبرابرة التيوتونيك " السلت" سياسياً ، وهم أقل الأعراق مقدرة من بين أي عرق وجد في التاريخ . "التيوتون" من جهة أخرى هم "بحق عرق منظم للدولة ذو موهبة ابتكار طبيعية "، وهم من جعل فرنسا قوة ، حتى أطاح معارضيهم من السلت العرق المتفوق في الثورة الفرنسية "بالقسوة البربرية "
"أصبح عرق السلت الروماني يشكل معظم السكان . لكن هذا أنتج بشكل مساوق، كون العرق السلتي غير كفؤ سياسياً ، حاجزاً يحكم قدر الأمة الفرنسية ". (2)
نفس المبدأ التمثيلي للثورة الفرنسية كثورة للسلت المدون ، أمام عرق النبلاء الشقر قد تم تسويقه من قبل دريز مانز الذي يحتج أن هذه الثورة كانت "قد نفذت على أيدي المحامين و الصحفيين " ، وهي مهنة ذات " أصل سلتيّ بشكل لا يقبل الجدال " (3)
هذه هي الطريقة التي يفهم بها منظرونا العرقيين كتابة التاريخ .
أما عن الاقتصاد السياسي لديهم فهو ليس أكثر أهمية . فقد نشر الباحث الانثربولوجي أمون عام 1893عملاً حول الاختيار الطبيعي بين البشر ( die naturliche auslese bein menshen ) وفيه يجد ،على أساس مواد جمعت في بادن ، بأن التمايزات الطبقية بين الرأسماليين و البروليتاريين ، قائم على وجود عرقين ضمن السكان ، عرق أشقر ، مستطيل الرأس، تيوتونيك، وعرق أسود ، قصير الرأس "منغولي " الأخير يمثل فشل واضح في الاستقلالية و الجدارة العقلية مختلفاً بهذه النواحي عن التيوتونيين :
"مثل جميع الآريين ، خلق التيوتون ليحكموا الشعوب الأخرى. وحيثما ظهروا، فهم الطبقات الحاكمة والمفضلة اجتماعياً ، هم شعب ذو شجاعة جبارة وقدرة غير محددة ، شعب ذو تكرس وأمانة ، ذو شرف وإخلاص ، عرق براق من أنصاف الإله ، أشباه هؤلاء لم يرهم التاريخ إلا مرةً واحدة ، في اليونانيين، وربما لن يراهم مرةً أخرى "
يتقصى أمون قصة أنصاف الإله هؤلاء من مواد مجموعة من أقلية بادن الصغير ، هناك حيث عاشوا في البلاد كبيزنطيين مع المغوليين أصحاب الرؤوس المدورة ، وهاجروا إلى المدن مثل الأخيرين .
في المدن ووفقاً لطبيعتهم النصف إلهية ، حالما ارتفعوا إلى مراتب السمو العليا، حيث تمثلوا أنفسهم في وظائف المدينة ، مخمري الجعة ، تجار الحبوب، وغيرها من صنع الإله ، بينما أنزل الأسياتيكيون من الشوارزوالد إلى المرتبة الدنيا التي يستحقون ، كخدم وضعيين وعمالاً مأجورين .
وفي نفس الوقت تقريباً وحتى تزامناً مع أمون ، ومع بعض المنظرين للعرق قدموا أنفسهم الحالة بتصريحهم أن الاسيا تيكين ذوي الشعر الأسود وليس التيوتون الشقر كانوا يسيطرون شيئاً فشيئاً على رأس المال في المدن ، متفوقين على التيونون ومن ثم مستبدلينهم تدريجياً حتى لو كانوا مفكرين، فيزيائيين، محامين وصحفيين .
ولكن المتنصرين في هذه الحال لم يصنفوا كأنصاف آلهة ، ولكن تم إنكارهم على أنهم دهماء ورعاع خطرون والذين لابد من طردهم أو على الأقل تجريدهم من امتيازاتهم ، لمصلحة التيوتون الإلهيين .
هذا العرق الداكن البشرة الغير مرغوب به هو عرق اليهود . جدال العرق يستخدم بتأكيد أكبر من قبل معادي السامية أكثر من أي تحرك اجتماعي في أيامنا هذه بعد الإبعاد الكامل للجدال الديني في أوربة الغربية
معاداة السامية الموروثة عن العصور الإقطاعية طالما ظهرت وكأنها على طريق الاختفاء كونها تراجعت إلى نفس الحد ، وتحت تأثير نشوء الرأسمالية نفسها ، مع تراجع قوة الدين ، وكونها اعتبرت واحدة من ظلمات البشر الرجعيين .
ولكن منذ جيل واحد مضى بدأت بالظهور ثانية ، وأصبحت محدثة ، و مع أنها يمكن أن لا تعتبر عاملاً سياسياً في الدول الحديثة ، فإنها باضطراد عامل اجتماعي أينما كان . ومن هنا تأتي ضرورة أن نتعلم أسباب هذه الشروط ، كما يجب أن نعرف السبب وراء عدم قدرتنا على التخلص من العداء للسامية بسرعة ، و لكن أيضاً – وبالطبع- لم لا يمكن لمعاداة السامية أن تأمل انتصاراً.
دعونا أولاً نتأمل الجدل العرقي فقط لمعاداة السامية ، وهو جدل لا تستخدمه معاداة السامية وحدها ، ولكن تستخدمه حركات محلية و دولية أخرى .
و لدواع شخصية فحسب ، هناك نهضة في اليهودية نفسها، كرد فعل على العداء للسامية ، وهو ميل مماثل لقبول و استخلاص نظرية العرق . إنه التطبيق الطبيعي لمبدأ : إذا كانت تجيز هذه النظرية لأتباع المسيحية التيوتونية أن يعلنوا أنفسهم أنصاف آلهة ، لم لا يستخدم أتباع الصهيونية هذه النظرية ليطبعوا شعب الله المختار بميسم الشعب المختار من الطبيعة ، عرق نبيل يجب أن تتم حراسته بعناية من أي انحطاط أو تلويث من قبل عناصر أجنبية ؟ لقد تم إنتاج أدبيات كثيرة في العقود المنصرمة تعالج أسئلة مشابهة . ففي وقت سابق من العام 1904 تم تلخيص هذه المجادلات وتقييمها بشكل واف في كتاب فريدريك هرنز حول نظريات العرق الحديثة [4] و منه صدرت نسخة جديدة موسعة ومراجعة و تم طباعتها تحت عنوان جديد العام 1915 [5] . ومن بين آخر الكتب حول هذه المادة ، يتجرأ أحد هذه الكتب لصاحبه الدكتور موريس فيشبرغ :"دراسة عن العرق والبيئة " لندن ونيويورك 1911 مؤلف من 678 صفحة [6] يستخدم فيشبرغ حصرياً مواداً مجموعة من أنثروبولوجيين آخرين ، إضافة إلى معلومات أحدث حصل عليها بأخذ قياسات أكثر من أربعة آلاف يهودي من أربعة قارات ، وتم هضم تلك المادة بأكثر الطرق تماسكاً ومدرسية لقد كانت الاقتراحات العديدة المقدمة لي من هذا الكتاب هي ما أدين له بفكرة كتابة هذا المقال الصغير .
وفي هذه الصلة يمكن لي أن أذكر أنني وضعت مرةً أخرى في نفس الموقع المحرج الذي كنت فيه عندما كتبت كتابي " الزيادة والتطور في الطبيعة و المجتمع " وفيه أشرت في الصفحات من ذلك العمل [7] : بهذا المعنى : أنا مجبر ، مع أنني رجل علماني في هذا المجال ، على مناقشة أسئلة متصلة بعلم الطبيعة البيولوجي . هنا يوجد أيضاً نطاق محدد ، واحد من نقاط عديدة مشكلة لهذا النطاق هي النقطة التي يلتقي بها البيولوجيا مع علم الاجتماع ، وهنا، وتشدداً في الحديث ، يتطلب من المؤلف أن يكون متقناً لكلا الحقلين .
ولكن حالة العلوم المعاصرة تجعل من هذا مستحيلاً لأي إنسان حي . لا أحد يدخل في مثل هذا الحقل - وكثيرون هم فيه- يطلب إليهم أن يتقنوا أكثر من واحد من العلوم موضع السؤال ، مع حد من العلم الآخر لا يتجاوز معرفة المقولات العامة .
علم هذا الشخص الخاص يجب أن يكون دائماً نقطة انطلاقة المفارقة ، و من مهامه إظهار التوافق بين نتائج علمه الخاص بقياسها إلى العلم الآخر المجاور، وهذا لا يشكل إطلاقاً مهمة سهلة ـ دعونا نقول ـ بالنسبة لعالم الاجتماع ، الذي يجد متخصصي العلم الطبيعي على خلاف حاد في مجال العرق على سبيل المجال أكثر بكثير مما في مجال مشكلة الميراث الجذرية. هذا يحمل عالم الاجتماع على الظن أن من حقه الاختيار بين النظريات المتعارضة لعلماء الطبيعة ، ويحافظ معها على علمانيته ، وأن يفضل النظرية التي تتوافق مع الأسس الثابتة التي اكتسبها من علم الاجتماع .





Footnotes
1. Was der Jude glaubt, ist einerlei, In der Rasse liegt die Schweinerei.
2. C. Bornhak: Der Einfluss der Rasse auf die Staatsbildung, Archiv fur Rassen and Gesellschaftsbiologie, March 1904, pp.254 et seq.
3. Quoted by Hertz: Moderns Rassentheorien, p.10.
4. Hertz: Moderne Rassentheorien, Vienna, 1904.
5. Rasse und Kultur, Leipzig.
6. Kautsky uses the German translation of L. Hepner: Die Rassenmerkmale der Juden, Eine Einführung in ihre Anthropologie, München 1913, 300pp. Our references are to the pages of the English edition, except where the German translation, which involved some changes, is specifically mentioned. – Translator.
7. Vermehrung und Entwicklung in Natur und Gesellschaft, Stuttgart, 1908.









ركن ا لأدب


















منارة الأدب الواقعي - أديب من لبنان
نجيب روميّة

إنه عمر فاخوري ؛ أحد أدباء الطليعة المناضلين ، أغنى البيان العربي و اللغة العربية غنى طريفا فكان كنزا جديدا أضيف إلى تالدها ، وهو صاحب مدرسة خاصة في أداء الفكرة بلغة الضاد. هو القائل: "الأديب حقا من كان على اتصال دائم يقظ بهذا الوجود الذي يحدّث عنه و بهؤلاء الناس الذين يتحدث عنهم - إليهم "
التصق عمر بالشعب و عمل من أجل قضاياه الاجتماعية و السياسية و الفكرية فصوّر كتّابنا " الفحول " المنعزلين في خدورهم المحجبة " إن كثيرا منهم هم ذلك الرجل المسيخ الذي لو قطعت شرايينه لما أخرجت إلا حبرا و لو مزقت لحمه لما أخذت إلا ورقا". إن عمر فاخوري هو البارع في النحت و التمثيل و الإخراج.
و الفن العمري نسيج وحده . عاش عمر حياة مليئة بالمعاني النبيلة و الإبداع الفني . فالأدب العربي الحديث ليس هو اليوم ما كانه بالأمس ، أعني الفكر العربي ، فالأدب قوامه الفكر، وليس كلاما أجيد رصفه . أدب عمر كان تسفيها لهؤلاء ، لقد كان حقا كلاما فنيا منتقى أنيق النظام حلو النغم ظريف الروح لكن الفن وحده لم يكن يوما قوام الأدب العمريّ بل كان دائما يزاوجه الفكر.
أضفت عبقرية عمر الفنية على كل ما خطه قلمه ما يشبه السحر. مع عمر نقرأ أدبا عالي المستوى فكرا و أداء نحتاج معه إلى اليقظة الدائمة و التنبه المستمر ، يضفي على أدبه مسحة من حلاوة ظرفه و دعابة روحه فيذكرك بأديب العرب الكبير الجاحظ إذ يتناول أعقد المشكلات و المسائل ساخرا . أحب المثل الأعلى الذي هو الحرية ولم يكتف بذلك بل فكر في الحرية تفكيرا صحيحا مستقيما . فكر في الوجه الجديد الذي انطرحت فيه الحرية في هذا العصر. فنحن اليوم لا نحب الحرية و حسب لكننا أصح تفكيرا فيها و أعمق حبا لها و أكثر تضحية في سبيلها و أشد اقتناعا بانتصارها الشامل. فهل الحرية مسألة أم معضلة ؟! يقول عمر: " كأن في الدنيا كمية محدودة من الحرية " إنه السبب الذي من أجله كانت الحرية مسألة أو معضلة . فطن عمر أن هؤلاء البشر أعضاء المجتمع الواحد يعدو بعضهم على بعض في هذا المجتمع كما فطن أن هؤلاء البشر المؤلفين أقواما في أوطان يعدو قوم منهم على قوم في وطنه ، أما القصد من هذا العدوان سواء أكان عدواناً في نطاق المجتمع الواحد أو عدواناً من قوم على قوم فهو سلب الحرية ( كأن في الدنيا كمية محدودة من الحرية .. ) و هكذا يقف عمر بنا وجها لوجه أمام تناقض الحرية طبعا في دنيا منظومة على أسس يعدو فيها أعضاء المجتمع بعضهم على بعض و يعدو فيها الأقوام على الأقوام . يقف عمر بنا وجها لوجه أمام تناقض الحرية في دنيا انشق فيها أعضاء المجتمع الواحد إلى طبقات فكان الاستثمار ودنيا سطا فيها قوم على قوم فاجتاحوا وطنهم أو نشروا عليه ظل سيطرتهم فكان الاستعمار . في دنيا كهذه تتناقض الحرية فتصبح حرية طبقة في المجتمع تصادم حرية الطبقات الأخرى و تصبح حرية قوم تصادم حرية الأقوام الآخرين و في هذا ما يسلط الضوء على أن الجميع طبقات و أقواما يتشبثون بالحرية و يتهمون الفريق الآخر بعداوة الحرية . هنالك سلسلة من الحريات المتناقضة لا حد لها لو شئنا استيفاءها: حرية الإقطاعي مثلا أن يجلد فلاحيه و حرية الفلاح أن يكسر يد الإقطاعي . حرية الكاتب أن يكتب و حرية المراقب أن يشطب . حرية المحتكر أن يربح ما شاء بالقمح و حرية الشعب أن يأكل حرية الملاّك أن يقفل أبواب دوره و حرية المستأجر أن يأوي بعائلته إلى سقف . حرية المنتخب أن يلقي ورقته في صندوق الاقتراع و حرية الحكومة أن تمنعه الدنّو من الصندوق أو تستبدل ورقته .. حرية المواطن أن يحفظ حرمة منزله و حرية عملاء الأمن أن يداهموا مساكن الناس ساعة يخطر لهم . وبين حرية و حرية تناقض بليغ شديد تناقض في أصل الكيان، بحيث يصطرع الفريقان على الحرية.
قال إبراهيم لنكولن يوما كلمته التاريخية المأثورة في موضوع تناقض الحرية في مجتمع الطبقات و عالم الاستعمار " ما كان حرية للذئب فليس حرية للنعجة " لقد اختار عمر حرية الحق و العدل . فالموت لحرية الذئاب و الوحوش التي لا يرونها إلا افتراسا لحقوق الشعوب و الطبقات الكادحة ليكدسوا الثروات في خزائنهم . هذه عبودية لا حرية . أما الحياة فهي للحرية التي ترك لنا عمر رسالتها التي أيقن بموجب أحكام عصره أنها منتصرة .
ناضل عمر من أجل الحرية فجمع حوله طليعة المتفانين و شن حربا لا هوادة فيها ضد مضطهدي الشعوب و أولع بالاجتماعات الجماهيرية الواسعة و كان هدفه الاتصال بالشعب و التحدث إليه و التعبير عن أمانيه فربط مصيره بمصيره فاستحق حب الناس له فحملته يوم وفاته على أكفها النظيفة و تدافعت وراء نعشه تمشي في موكب البطل الذي آمن بالحرية و ناضل من أجل حق الشعب بالحياة لقد أطرى الناس عمر فاخوري الأديب المبدع و تذوق الكثيرون أسلوب عمر الخلاب وردد الأدباء و المفكرون بإعجاب لذعات عمر فاخوري الناعمة و لكنها النافذة في براعة الانتقاد، حتى لقد أمست شخصية عمر الفكرية محاطة بهالة من اللباقة الفريدة جعلت منه صاحب مدرسة خاصة في الأدب العربي المعاصر . لكن الذين شاءوا أن ينفذوا إلى جوهر غاية عمر فاخوري السياسية هم قليلون ، لأن أسلوبه المجازي كان يفسح لهم إمكانية التوقف عند هذا الأسلوب البارع دون التعمق إلى القصد الذي كان يرمي إليه ، إلا أنهم اضطروا للجهر بهذا الإعجاب الذي فرضه عمر فاخوري على الأوساط الأدبية فرضا ، ولم يكن عدم توقفهم عند مذهبه السياسي من باب انصرافهم لتذوق أسلوبه الخلاب بقدر ما هو من باب الصمت عن ناحية من أدب عمر تزعجهم و تحرجهم لأنها هي الأخرى كادت أن تكون مدرسة جديدة في تفهم الشؤون السياسية . على أن جماعة في طليعة صفوف العاملين في الحقل الوطني أخذت على عاتقها نشر تلك المفاهيم السياسية الجديدة في جماهير الشعب فكانت هذه الجماعة من عمر فاخوري و رفاقه من المفكرين النزيهين المخلصين الذين يكنون للفكر في نفوسهم حرمة صادقة لا تريد لبنان (وجها من الوجوه الزائفة المستعارة ) لأنها تدرك ( أن هذه الوجوه لا موضع لها- إذا جد الجد – في حياة الأمم ، إنما تصلح الوجوه الزائفة أو المستعارة للساخر ) إن تلك الجماعة كانت ( آخر مدرسة نعلم فيها سداد الفكر و صدق العمل ) على حد قوله هو نفسه .
أجرى عمر انعطافا في الأدب العربي. مقالاته عن الأدب ، و الأديب من لحم و دم و النزول إلى السوق و هجر البرج العاجي كانت مدرسة دشنت لمرحلة الواقعية في الأدب العربي ، تلك المرحلة التي عرفتها نهاية النصف الأول من القرن الماضي، و امتدت على طول الستينات . فقد وجه عمر بنقده الصائب العميق الساخر الضربة القاضية لمدرسة الرومانسية و البكاء و النواح و افتتح عهدا صحيا ، الأدب فيه معافى يعيش هموم الناس و يعبر عنها و يلتزم بأنبل قضايا العصر : السلم و التحرر و التقدم .
كان عمر لا طائفيا و لكنه لم يتشدق يوما بذم الطائفية ، ما كان يصيح و لا يماحك و لا يداهن و لا يصانع . فظل حيث هو لا يحسن المداهاة و المصانعة و المداهنة لأنه أبي ثابت يزدري المنافقين و الزنادقة الذين يكرّون مع كل خيل مغيرة . عاف موارد رزقه و عاش مكتوراً عليه ليتضامن مع بلاده ، فعل كل ذلك صامتا لم يكن حسودا و لا حقودا لا يزهى و لا يتكبر نظيف الفم و ما كان عدوا في ثياب صديق . أما في الأدب فقد أولع بالجديد و لم يتنكر للقديم فكان من خير من كتبوا بلسان العرب من المحدثين . وحسبه ما ترك للذرية من نماذج باقية على الزمان . وفي النضال الوطني كان من فتيان الرعيل الأول و لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة حين ألف كتابه( كيف ينهض العرب) و من أجله طورد و اضطهد.
وفي الحرب العالمية الثانية كان رئيسا لعصبة مكافحة النازية و الفاشستية و مؤسسا لمجلة الطريق اللبنانية و التي كانت مدرسة للفكر المناضل و الأدب الحي .
أما كتاباه: "الباب المرصود و الفصول الأربعة" فقد أحلاّ عمر مقاما رفيعا في الأدب أسلوب وقف على صاحبه و عروبة لا غبار عليها. يشبع الفن تمحيصا مسلحا بثقافة واسعة عميقة من الشرق و الغرب . فهو كاتب النضال و رجل العمل لكنه الأديب الذي لم يتخل عن أسلوبه و لا عن خياله . تخاله يحدثك عن الأدب المحض فإذا هو نضالي بكل ما بالنضال من قوة و شدة . رائع في حسن تخلّصه من غرض إلى غرض وفي مزجه النضال بالأدب ونفحه الروح الفنية في هذه المواضيع التي تلوكها الأقلام كل ساعة . كان يقول : يجب أن نكون من زماننا و في زماننا و لزماننا .. و إذا تكلم عن رسالة الأديب قال " كان للأنبياء وحدهم رسالة فإذا كل من عليها له رسالة الطبيب و المعلم و الصحافي و المحامي و يتبعهم الأديب حلة مبهرجة لستر الفاقة .
حبّذا لو أنّ هؤلاء يقلون من التبجح برسالتهم أقل كثيرا أو يكثرون من أداء وظائفهم أكثر قليلا " . و إذا تحدث عن لبنان قال بأسلوبه المعهود " لقد أتى علينا زمن في لبنان.
و بين الطائفة و الأخرى أو بين أبناء دين و أبناء الدين الآخر كالحدود التي تفصل وطنا عن وطن ، كدنا نحتاج إلى جوازات سفر بين الطوائف و الأديان ".
أما في الفصل الذي يحمل عنوان " كل شيء يتغير فقد قال : " إن كل شيء يتغير حتى النازية التي كان لها لبدة الأسد تغيرت ، ها قد نبت لها في الصقيع الروسي صوف حمل للدّفء و في القيظ الأفريقي ساقا نعامة للهرب .. أما الجيش الإيطالي فقد لبس بادئ بدء جلد الحمار لعدم الفهم "
إن أسلوب عمر النضالي يحمل دائما سمة الأدب الرفيع فهو السياسي و الأديب و المدافع بعناد عن قضايا العدل و التحرر و التقدم فاستحق بهذا أن يكون منارة أدبية كبرى تضيء للأجيال دروب الفن الرفيع و الفكر العميق و الثقافة الحيّة و النضال الذي يشرف الإنسان .
مختارات من أدب عمر فاخوري
العين و المخْرز
" ... و ليست سنة الوجود المحافظة و لا البقاء و لا الجمود، بل التطور و التحول و الصيرورة . و هل كان التاريخ الإنساني إلا حكاية النزاع المستمر المستحرّ بين قوى الرجعية و نزعة التقدم في فكر الإنسان و في أوضاعه؟! و هي قصة لحسن الحظ كالقصص التي تخدم ذاتها يفوز فيها أخيرا في كل مرحلة الحق على الباطل أو الخير على الشر نعني الترقي على الرجعية ."
يقول لنا أيضا: " هي القوة لا قبل لنا بها ، كمن يشكو ضيق صدره ، هو الجبل مزحزح . بل كمن يتأهب ليغط في نومه . هو القضاء فمن يدفعه ؟ و كأني بهم يخشون ألا نفهم على أحسن وجه و أكمله ضرورة الرضى و القناعة و الخنوع و التسليم ، فهم يأتوننا ببرهان لا يقطع قطعا لكن يخز وخزا . يقولون لنا إن العين لن تقاوم المخرز . أما التاريخ فقد عرف حوارا يدور بين تلك العين و ذلك المخرز ...و دائما كان ينبت للعين ظفر و ناب . " أديب في السوق"
العجيب ألا نحارب الرجعية في بلادنا
" إذا كنا قد حاربنا النازية وهي أدهى آفة رجعية تمرست بها البشرية فليس عجيبا أن نشمر اليوم لمحاربة الرجعية في بلادنا، بل العجيب أن لا نحاربها .. إن لنا حقا في الحياة الحرة الرغدة الآمنة المتقدمة التي تهواها ضمائر الشعوب في العالم قاطبة و لا تفتأ تناضل من أجلها . من يعش ير أن أشياء كثيرة تتغير ، حتى في هذا الوطن الذي يريده بعضهم متحفا للعاديات (أو الخشب المسندة ) و يأبى إلا أن يكون وطنا للجماهير التي تكدح و تفرح و تألم و تحلم . " أديب في السوق "
الشباب الديمقراطي
" الشباب البصير الواعي وعيا قوميا صحيحا ماديا إذا أمكن القول، لا يُؤْخَذ بالترهات و الأباطيل و لا بالألفاظ مهما بلغ من طنينها في الأسماع . ليس من المشتغلين بالسياسة مهنة أو تكسبا و لا تظرفا أو تزيدا بل ببساطة طواعية و حياتيا إذا صح التعبير . الشباب الديمقراطي الذي لا يسعه إلا أن يكون ديمقراطيا الديمقراطي وجوبا ، لأنه لا يفكر و لا يعمل إلا للسواد الأعظم من بني وطنه أي بكلمة واحدة لوطنه . ليس حسبنا أن نعيش كما نعيش ، ينبغي أن نفكر كيف يصح أن نعيش .


بحـث ابـن رشـد
تأليف الكاتب الأرجنتينيّ: خورخي لويس بورخس

كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد يكتب الفصل الحادي عشر من كتابه "تهافت التهافت" الذي يعارض فيه الصوفي الفارسي (الغزالي) مؤلف كتاب "تهافت الفلاسفة".
كان ابن رشد يكتب بثقة من اليمين إلى الشمال ، وبرغم كتابته بأسلوب القياس المنطقي ، وربطه بين فصول عريضة ، مانع نفسه أن يشعر شعوراً فريداً بلطافة وهدوء المنزل الذي كان يظلّه. في ساعة القيلولة بعينها ، كانت تبح حمامات لطيفات ، كان يسمع خرير نافورة ماء من داخل فناء لا يرى ، شيء ما في جسد بن رشد ، الذي ينتمي لأولئك الذين أتوا من الصحراء العربية ، كان يشكر تدفق الماء . في المناطق المنخفضة كانت توجد الحدائق والبساتين ، في الأرض الأكثر انحداراً كان يتدفق نهر الوادي الكبير، فيما وراء ذلك كانت ترى مدينة قرطبة الحبيبة تتلألأ مضيئة كما لو كانت بغداد أو القاهرة ، وتبدو وكأنها آلة موسيقية تطرب لها الآذان مع كونها معقدة الصنع. يحوط ذلك كله (طبقاً لإحساس ابن رشد) ممتداً على الأفق و بقية الأراضي الإسبانية التي تظهر بها بساطة الأشياء، مع أن كل واحدة منها تبدو بشكل متناسق.. دائما، كان القلم يجري فوق الورقة ، تربط البراهين فيما بينها جليّة واضحة ، بيد أنه برزت طفرة قلق عكرت صفو ابن رشد ، يجدر بنا أن نقول إن "التهافت" لم يكن سبب أي مشكلة ، غير أن مشكلته الآن كانت من نوع لغوى ، له علاقة بعمل خالد كان على ابن رشد أن يعلّق عليه أمام الناس ، فقد كان عليه أن يعلّق على ما كتبه أرسطو طاليس ، ذلك الإغريقي؛ نبع كل فلسفة، والذي مَنَّّ على الخلائق به ، كي يعلّم البشرية شتى أنواع المعرفة. إن تفسير كتبه يعد كتفسير العلماء لكتاب مقدس، ولذا كان ما يبتغيه ابن رشد ليس بالشيء اليسير.
إن التاريخ لن يذكر أشياء أكثر جمالا وإثارة للأشجان ، كتكريس طبيب عربي لتحليل أفكار رجل يفصل بينهما أربعة عشر قرنا ، جدير بالذكر أن تقول إن ما زاد النص الذي بين يدي ابن رشد تعقيداً هو أنه - غير متقن للسريانية والإغريقية - كان يعمل في ترجمة نقلت عن ترجمة.
عندما حل المساء ، ولريبته في كلمتين ، توقف ابن رشد عند بداية الجزء المخصّص للشعر. هاتان الكلمتان كانتا: المأساة والملهاة. منذ عدة أعوام كان قد سبق له أن وجدهما في الكتاب الثالث لعلم الجمال ، بيد أن أحداً في ميدان الإسلام ما كان قد وفق في شرحهما.
ما أفاده شيئا تصفحه للإسكندر الفردوسي وإصراره على التقليب في طبعات النسطوريّ ، وحنين بن إسحاق وأبو بشار متّى. إن هاتين الكلمتين المبهمتين كانتا قد تبرعمتا في النص الخاص بالشعر وكان مستحيلا حذفهما، وعليه فقد ترك ابن رشد القلم. عادة ما يقال - بلا تمحيص كثير - إن الشيء الذي نبحث عنه دائماً ما يكون أقرب جداّ منا.
أطبق ابن رشد مخطوط التهافت ، توجّه إلى خزانة الكتب حيث كانت قد اصطف فيها مخطوطات كتبها خطّاطون فارسيون ، كان بها الكثير من المجلدات لكتاب "المحكم" للأعمى بن سيده . لقد كان شيئا مضحكا مجرد تخيل أنه ما كان قد نظر فيه ، ولذا فقد أوحت له لذة الفراغ أن يقلّب صفحاته. فيما بعد ، وراء التسلية العلمية تلك ، جذب انتباهه نوع من النغم. نظر من الشرفة المسيّجة ، رأى أسفلها ، وفي الفناء الضيق المترب ، بعض صبية يلعبون شبه عارين. أحدهم مترجلاً اعتلى كتفي زميله وكان يؤدي بشكل ملحوظ دور المؤذن مغلقاً عينيه تماماً ومردداً بصوت منغم: " لا إله إلا الله " صاحبه ذلك الذي كان يسنده في سكون كان يمثل المئذنة ، كان هناك صبي آخر يُرى راكعاً ساجداً يقوم بدور المصلّين. استغرق اللعب قليلا ، كلهم كان يود أداء دور المؤذن ولا أحد كان يرغب في أن يقوم بدور المصلين أو أن يمثل المئذنة ، سمعهم ابن رشد يتشاجرون مرددين كلمات تبتعد كل البعد عن الذوق، يحق لنا أن نصفها بأنها الإسبانية التي استحدثها المسلمون في شبه الجزيرة.
فتح كتاب "العين" للخليل ، وجال على خاطره في زهو بأنه في قرطبة بأسرها (بل في كل الأندلس) لا توجد هناك نسخة أخرى من هذا الكتاب تعلو التي بين يديه، إذ كان قد أرسل له بها من "طنجة" الأمير يعقوب المنصور . ذكر اسم ميناء طنجة جعله يتذكر أن الرحالة وأبا القاسم الأشعري ، الذي كان قد عاد من المغرب ، سيتناول معه طعام العشاء هذه الليلة في منزل مقرئ القرآن "فرج". كان أبو القاسم يردّد أنه قد وصل في ترحاله حتى مملكة إمبراطورية السين (في الصين) غير أن أعداءه تدفعهم كراهيته كانوا يقسمون أنه أبداً ما وطئت قدماه الصين ، وأنه في معابد هذا البلد كان قد كفر بالله. أيا كان الأمر ، هذا الاجتماع كان لا بد أن يستغرق عدة ساعات ، ومرة أخرى تناول ابن رشد مخطوط التهافت مسرعاً وواصل عمله حتى ساعة الشفق.
دار الحوار في بيت فرج حول فضائل الحاكم التي لا مقارنة لها بفضائل أخيه الأمير بعد ذلك ، وفي الحديقة ، تحدثوا عن الزهور. أبو القاسم ، الذي ما كان قد نظر لتلك الزهور ، قال انه لا توجد ورود على شاكلة تلك التي تزين كروم الأندلس. ما اقتنع فرج بهذا الرأي ، فقد لاحظ أن العالم ابن قُتيبة يصف أنواعا غاية في الجمال تدعى الزهور الخالدة ، تظهر في حدائق هندستان بنّواراتها الحمراء اللون كاللحم وبها خط يقرأ: "لا إله إلا الله ، محمد رسول الله" وأضاف أنه من المؤكد أن أبا القاسم ربما يعرف تلك الزهور. رنا إليه أبو القاسم بحذر، فإن هو أجاب بنعم فسيحكم الجميع عليه بأنه يعد من الدجالين المهرة - وهم محقون في ذلك - وإن أقر بالنفي فسيقولون عنه إنه غير مؤمن، وعليه فقد اختار أن يتمتم بأن عند الله مفاتيح الغيب ، وأنه لا يوجد على ظهر الأرض رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. هذه الكلمات توجد في إحدى أوائل سور القرآن. الحق أن ما قاله وقع من الحاضرين موقعاً فريداً ، وترددت على شفاههم تلك الكلمات في أدب جمّ ، مفتخراً بانتصاره الجدلي. كان أبو القاسم على وشك أن يقول إن الله أحسن كل شيء خلقه وأنه لا تدركه الأبصار ، غير أن ابن رشد أكّد - مؤيداً رأيه بالبراهين القطعية - أنه ما زالت هناك مشكلة قائمة: "ربما ما يكلفني كثيراً أن أوافق على وجود خطأ ما فيما قاله العلامة ابن قتيبة أو ما حرره النسّاخ ، ولكن أعترف أنه جد عسير أن أقتنع بأن الأرض تأتي بزهور بها شهادة الإيمان."
"نعم، آيات رائعة.. جليّة. " قال أبو القاسم. واصل ابن رشد حديثه قائلا: "أحد الرحالة ذكر أن الشاعر عبد الملك كان يحكي عن شجرة ثمارها عصافير خضراء ، ربما صدقته بلا كثير من العجب بيد أنني لا أصدق أن هناك زهوراً كتبت فيها حروف - ثم أضاف - يبدو أن لون العصافير قد يسهل علينا فهم الشيء العجيب الذي نحن إزاءه ، أضف إلى ذلك الورود والعصافير تنتمي إلى دنيا الطبيعة غير أن الكتابة تعد فناً "
أنكر أحد الضيوف بشدة أن تكون الكتابة فناً ، ذلك أن أصل القرآن (أم الكتاب) سابق على الخلق ومحفوظ في السماء. تحدث شخص آخر عن الجاحظ (البصرة) الذي قال إن القرآن مادة ، من الممكن أن تأخذ صورة إنسان أو حيوان ، رأي - فيما يبدو - يتفق مع أولئك الذين يريدون في القرآن وجهين.
تحدث فرج عن الحقيقة الحقّة ، قال: "القرآن هو إحدى صفات الله كالرحمة، كتب في كتاب، يقرأ باللسان ، يذكر بالقلب ، أما اللغة والإشارات والكتابة فإنها تُعدّ من أعمال البشر ، والقرآن قطعيٌّ.. خالد ".
كان في مقدور ابن رشد ، الذي كان قد علّق على "الجمهورية" ، أن يقول إن أم الكتاب شيء كالمثل الأفلاطوني ، غير أنه أدرك أن المسائل الفقهية موضوع لا دخل لأبي القاسم فيه. نفر من الحاضرين ، الذين حذروا ابن رشد من فعل ما كان يريد ، ألحوا على أبى القاسم أن يقص عليهم إحدى روائعه ، - الأمس واليوم ودوما كانت الدنيا مليئة بالعجائب استطاع من يهوى المخاطرة كذلك من لا يهواها أن يجول فيها ، من أولئك البشر الذين أذعنوا لكل شيء. كانت ذاكرة أبى القاسم تعد مرآة لجبن وثيق العرى بشخصه ، - فما عساه أن يروي؟ بل إنهم يطلبون منه الروائع ، وحكايا من هذا القبيل يصعب توصيلها للآخرين، إن قمر بنغالة لا يشبه قمر اليمن ومع ذلك يوصف بنفس الكلمات.
تردد أبو القاسم ، ثم تكلم بورع: "من يسع في مدن ومناخات شتى ، ير بأم عينه أشياء جمّة ، يحق لها أن تقص . ما سأرويه لكم كنت قد أسمعته - مرة واحدة - لملك الأتراك ، وكان قد حدث في "سن كالان" (كانتون) حيث يوجد نهر ماء الحياة يصب في البحر".
سأل فرج عما إذا كانت هذه المدينة تبعد كثيراً عن السد الذي أقامه الإسكندر ذو القرنين (اليخاندرو بيكورنى دى ما ثيدونيا) لصد ياجوج وماجوج.
أجاب أبو القاسم في تكبر صدر عنه دون إرادته: "تفصل بينهما صحاري، تستغرق القافلة أربعين يوما كي ترى أبراج المدينة ويقولون أربعين يوماً مثيلتها كي تصل لها في "سن كالان". لا أعلم عن أحد رآها أو رأى أحداً قد رآها" "ولبرهة دار في خلد ابن رشد خوف من اللامتناهي الفظيع ، من الفضاء ذاته، من المادة بعينها ، رنا إلى الحديقة المتناهية رأى نفسه وقد صار مسناً ، لا فائدة ترجى منه وكأن وجوده ليس شيئاً حقيقياً".
واصل أبو القاسم حديثه قائلا: "ذات مساء اقتادني تجار مسلمون يعيشون في سن كالان ، إلى منزل قد بني من أخشاب مدهونة ويقطنه الكثير من البشر، ليس في الإمكان وصف هذا المنزل ، فقد كان يتكون من غرفة واحدة، يصطف بها عدد من الخزانات والشرفات بعضها فوق بعض. فيما بين الفجوات كان هناك أناس يأكلون ويشربون بينما آخرون كانوا قد افترشوا أرض الغرفة، كذلك يأكلون ويشربون. ويفعل مثل هؤلاء وأولئك من هم في الشرفة ، غير أن هؤلاء بالإضافة إلى ما كانوا يفعلونه ، كانوا يدقون على الطبل ويعزفون على العود ، فيما عدا خمسة عشر أو عشرين فرداً (ذوي أقنعة بلون قرمزي) كانوا يصلّون يرتلون ويتحاورون ، يرون كأنهم سجناء بيد أن ما كان هناك سجن، كأنهم يمتطون صهوة جواد ومع ذلك لا أحد استطاع أن يرى الحصان، كأنهم في معركة يحاربون بيد أن السيوف كانت من عصي ، كأنهم يعانون في ساعة الاحتضار ثم بعد ذلك كله وقفوا على أقدامهم".
قال فرج: "تلك هي أفعال من مسهم الجنون ، يتجاوزون حد العقلاء." وكان على أبى القاسم أن يشرح قائلا: "ما كانوا مجانين ، بل يمثّلون ، هذا هو ما أفضي به إلي أحد التجار"
ما بدا على أحد من الحاضرين أنه وعى تلك الحكاية ، كذلك ما بدر من أيهم أنه يود فهمهما. بدا على أبى القاسم الارتباك وخلص من سرده الذي استمعوه إلى أن يشرح مؤيداً رأيه بحجج لا جدوى منها ، قال متكئاً على يديه: "فلنتخيل أن أحداً يعرض حكاية بدلاً من سردها ولنعط على ذلك مثلا بقصة أهل كهف "إفيسو" نراهم يلجئون إلى الكهف ، يؤدون صلاتهم وينامون بأعين مفتوحة، أجسادهم تتضخم ، نراهم يقومون من نومهم بعد ثلاث مائة وتسعين عاما، يضعون في يد البائع عملة من عهد قديم ، نراهم يستيقظون في الجنّة بصحبة كلبهم" . صور كهذه عرضها علينا - ذلك المساء – أناس الشرفة. كان أولئك الأشخاص يتكلمون؟ سأله فرج. أجابه أبو القاسم ، مدافعا عن قصة كان تذكرها بشق الأنفس ، وكان قد ازداد حنقه على الحاضرين: "كانوا يتكلمون، ويغنون ويلقون خطباً .
قال فرج: "على أي حال ما كان هناك داع ليكونوا عشرين شخصاً ، واحد فقط يكفي كي يحكى كل شيء بالغا ما بلغ تعقيده"
وافق جميع الحاضرين هذا الرأي ، ثم مدحوا فضائل اللغة العربية ، بعد ذلك تحدثوا عن شعر العرب وأقروا بأن عبد الملك ، بعد أن محّص تمحيصاً دقيقاً، عاب على شعراء دمشق وقرطبة تقليدهم للقدامى ، فقد تشبثوا في قصائدهم بمنظر الرعاة وحافظوا على المعجم البدوي، وقال إنه غير معقول أن إنساناً يتدفق أمام ناظريه نهر الوادي الكبير وبرغم ذلك ما زال يحتفي بمياه البئر واستحثّ على تجديد الاستعارات قائلاً إنه حينما شبه زهير القَدَر بجمل أعمى، استحوذت هذه الصورة على إعجاب الناس ولكن بعد مضى خمسة قرون فقد عفا عليها الزمن. أيد الحاضرون رأيه فكثيراً ما كانوا قد سمعوا مثيله من أفواه عديدة. كان ابن رشد يلوذ بالصمت ، وأخيراً تكلم كمن يحدث نفسه لا الآخرين، تحدث بأسلوب قليل البلاغة ومع ذلك أدلى بحجج قطعية قائلا: "كنت - ذات مرة - قد دافعت عن رأى عبد الملك ، في الإسكندرية يقال لا يجرؤ على اقتراف ذنب ما من كان قد ارتكبه ثم تاب عنه ، وعليه كي لا نقع في خطأ ما من المستحسن أن نكون قد قمنا بفعله من ذي قبل. يقول زهير في معلقته إنه على مدى ثمانين عاماً تارة في عز وأخرى في نقيضه ، قد تخيل عدة مرات القَدَر وهو يدهس البشر كجمل أعمى، عبد الملك يظن أن هذه الصورة ما عادت تأخذ بالألباب ، وإزاء ريبته لا بد أن نجيب عن أشياء كثيرة:
أولا: إذا كانت نهاية القصيدة يراد بها التعجب فإن زمانها لا يقاس بقرون بل بأيام وساعات وربما بدقائق.
ثانيا: أن شاعراً مشهوراً ليس عليه الاختراع بل الاكتشاف.
ولكي نحيي ذكرى ابن شرف المولود في برخة (برقة) نقول إنه قد تردد في الأفواه أنه هو الوحيد الذي استطاع أن يتخيل سقوط نجوم الفجر في بطء شديد يماثل سقوط أوراق الأشجار. إذا ثبتت صحة هذا الخبر سيكون هو ذاته على بطلان هذه الصورة. التشبيه الذي يستطيع فرد واحد أن يصوغه لا بد أن يكون ما أتى على ذهن أحد ، إن الدنيا حافلة بأشياء لا حصر لها ، من الممكن أن يشبه كل منها الآخر. مشابهة النجوم بأوراق الأشجار لا يعد شيئا كمماثلتها بأسماك أو عصافير. وعلى ذلك نقول إن أحداً ما تصور القَدَر فظيعاً وثقيلاً، كذلك ما جرؤ أحد على وصفه بأنه طيّب وفى ذات الوقت لا يرحم. ما دمنا متفقين على ذلك اتفاقا مؤقتاً أو دائماً فإن أحداً لا يستطيع الإنكار فإننا في هذه الأثناء نعى ما كتبه زهير. أضف إلى ذلك (وربما كان هذا هو جوهر حديثي) أن الدهر الذي بدوره يروح ويجيء بقصور غير القصور هو نفسه الذي يسري أبيات الشعر. إن البيت الذي كتبه زهير في الجزيرة العربية أفاد في مقابلة صورتين ، صورة الجمل العجوز، وصورة القدر. تكرار تلك التشبيهات الآن هو إحياء لذكرى زهير ، ويعد مشاركة منا لعربي ذلك الزمان أحزانه.
التشبيه الذي نحن بصدده كان له وجهان ، اليوم نرى له أربعة ، يوماً عن يوم يتسع ميدان الشعر ، وأعرف أبياتاً إذا ربطنا بينها وبين الموسيقى صارت شيئاً لا مثيل له لكل بنى البشر.
أذكر أنه منذ أعوام ، حينما كنت في مراكش ، مفعما بذكرى قرطبة ، سرني تكرار البيت الشعريّ الذي توجه به عبد الرحمن إلى نخلة إفريقية ، قائلا فيها:
"فمثلك في المنتأى مثلى"
للشعر ميزة فريدة ، كلمات كتبها ملك أشغفه الشرق أفادتني - عندما كنت شبه منفى - كي أعبر عن اشتياقي لإسبانيا.
بعد ذلك تحدث بن رشد عن الشعراء الأول ، شعراء العصر الجاهلي قائلاً إنهم قد قالوا كل شيء بلسان صحراوي أبدى ، ثم معبراً عن رضاه - وله الحق في ذلك - عن كلمات ابن شف التي لا معنى لها قال انه في كتابات الأقدمين قد دون كل شعر ونعت جهلاً وهراء بدعة التجديد.
كان الحاضرون قد أنصتوا إليه بلذة وذلك لدفاعه عن القديم. وعندما عاد ابن رشد ليدخل مكتبته كان المؤذنون قد أذنوا لصلاة الفجر. (في المكان المعد للحريم كانت الإماء ذوات الشعر الأسود قمن بتعذيب أمة لون شعرها أحمر بيد ابن رشد ما كان قد علم بذلك إلا عند المساء) شيء ما أوحى إليه بمعنى تلك الكلمتين الغامضتين ، وبخط ثابت ومتأن أضاف إلى مخطوطه هذه السطور: "أرسطو (أرسطو طاليس) يطلق كلمة مأساة على المديح والإطراء ، وكلمة ملهاة على الهجاء والسبّ ، وكم من مأساة وملهاة تأخذ بالألباب تحفل بها صفحات القرآن ومعلقات الكعبة".
شعر برغبة للنوم ، أحس ببعض برودة جسده ، فك عمامته ونظر في مرآة معدنية لست أدرى ما رأت عيناه وذلك لأن أحداً من المؤرخين لم يكتب عن شكل وجهه. أعرف أنه قد اختفى فجأة كما لو كان قد صعقته نار بلا نور ومعه اختفى المنزل ونافورة المياه التي لا ترى والكتب والمخطوطات والحمامات وكثيرات من الإماء ذوات الشعر الأسود والأمة المرتجفة بشعرها الأحمر، واختفى كذلك فرج وأبو القاسم ونباتات الورود وربما نهر الوادي الكبير.
فيما سبق وددت سرد تطور هزيمة ما ، في بداية الأمر جال بخاطري نائب أسقف كانتربري الذي اقترح أن يبرهن على وجود إله واحد . ثم تذكرت الكيميائيين الذين بحثوا عن الحجر الفلسفيّ وراء ذلك. خلصت إلى أن لا فائدة ترجى من البحث عن ثلاثة قطاعات للزاوية واستدراك الدائرة وصلت بعد ذلك إلى أنه تعد أكثر شاعرية حالة الإنسان الذي يقترح نهاية محظورة على الآخرين لا عليه. أتى على مخيلتي ابن رشد المنغلق في حيز الإسلام الذي أبداً ما استطاع أن يصل لمعنى كلمتي: مأساة وملهاة. ثم تركت كل شيء من هذه الأشياء يجرى في مساره. أحسست أن العمل الأدبي يسخر منى. شعرت بابن رشد الذي ود معرفة دراما وأبداً ما كان قد رأى المسرح ، لا أحد كان أكثر بلاهة مني حينما أردت تخيل ابن رشد بلا معلومات أخرى سوى بعض دراهم رينان ، لان وأسين بالاثيوس. شعرت وأنا في الصفحة الأخيرة أن قصتي كانت رمزاً لحالتي حين كتابة هذه الحكاية ولكي أكتب تلك السطور كنت لا بد أن أكون ذلك الرجل في الحالة بعينها ، ولكي أكون ذلك الرجل كان لا بد من كتابة تلك الحكاية ، وهكذا تظل الحال إلى الأبد. (في لحظة ما حينما تخليت عن الاعتقاد في وجوده ، اختفى ابن رشد)
ترجمة : سامي عبد المرضي المشطاوي






































حوار مع عازف العود الكبير نصير شمه

حوار: سائر جهاد قاسم
كنت أعلم أن من يفتح الصحراء بريشة أقوى من أساطيل تبحر لتقتل، وأن من سمع صرخات البحر يدرك أية معزوفة يعزفها البحر على آلة الأعماق ، وأصابعه الوهمية تصنع النبضات ليدوزن المقطوعة الخالدة (رحيل القمر).
أقدم حواري مع الفنان والعازف العراقي والمؤلف الموسيقي (نصير شمّة ) الذي أخذته من عزف اليابسة من أجل أن يزاوجها ويسمعها لإله البحر الغاضب علّه يخفف من لطم الأمواج على صخور الزمن المهمّش (إشراق)
• يقول تولستوي :
إن الفنان فنان فقط لأنه يرى المواد لا كما يرغب أن يراها . بل كما هي في الأصل , أنت ماذا تقول ؟
- أعتقد أن الفنان يرى الأشياء لا كما يراها الآخرون، بل كما تتفاعل مع موهبته وثقافته ورؤيته لما يجب أن تكون عليه الأشياء، وهذا ليس له علاقة بالكمال أو النقصان، بل بالجزء الخلاّق لدى الفنان بل بالعين المدربة التي ترى الأشياء خلافا لما هي عليه. وهنا أنا أتكلم عن الفنان المبدع، وليس عن أي فنان بالمطلق.
• برأيك هل يستطيع الفنان و العازف خصوصاً أن يعبر عن إنساننا في هذا الزمان و أن يقدم شيئاً إبداعياً ( ملحمياً) في هذا المشهد المتغير و المتدهور للواقع العربي الذي بدأ فيه انهيار في التركيب الاجتماعي و انكسار في مفهومات الإنسان من تمزق و تبدل في القيم.
- لكل زمن أدوات تعبيره، ولكل زمن مبدع قادر على قيادة حس الناس وترجمته لأعمال إبداعية، أو لطرحه مجددا برؤية إبداعية، ولم يخل التاريخ يوما من هؤلاء، ومهما قيل عن شحّ الإبداع والمبدع يظهر من يثبت عكس ذلك.
واليوم بلا شك يقف الكثيرون في منطقة الأمل والحب والمستقبل.
• ( قصة حب شرقية ) ... ( أنت عمري) قمت بأدائها بيد واحدة , فما القصد من ذلك ؟
- ومقطوعات أخرى غيرها أيضا، ولكن البداية كانت مع "قصة حب شرقية" وكنت أتحدى من خلال هذه الطريقة وأرغب في أن أقول أن الإنسان قادر على التغلب على أي عجز يصيبه، فالنفس خلاقة بما فيها، البداية إذن كانت من أجل صديق بترت يده وكنت أريد أن أقول له أكمل الطريق الذي بدأته.
الآن طلبتي كلهم يعزفون بيد واحدة، ولدي فلسفة لا تعنى كثيرا بمسألة التكنيك أو عدمه هنا، أن فكرة اليد الواحدة، هي أيضا فكرة الأصبع الواحد، والعقل الواحد، والطير الذي يحلق عاليا ووحيدا، هي فكرة النفس الأخير أيضا، الالتفات إلى الحياة حتى الرمق الأخير.
• تمتلك مهارة و تقنية و قدرة عالية في الأداء و العزف بشكل مميز, استطعت من خلال هذا الأداء الرائع و الجميل التعبير عن مواضيع عديدة ظهرت بمقطوعات مثل (من آشور إلى اشبيلية) والتي قمت بأدائها والعزف بالأصابع الخمس من دون ريشة و أحداث تاريخية هامة بشكل تفردت به عن غيرك من العازفين مثل ( حدث في العامرية) مما جعل من البعض و هم قلة يقولون بأن الأداء أو العزف بيد واحدة و غيرها من أشكال العزف ما هي إلا شكل من أشكال ( الاستعراض) كما أسموها يفقد العازف الجانب الروحي و يصبح جلّ اهتمامه في الشكل بعيداً عن الهدف و ما تحمله المقطوعة من مضمون فما رأيك ؟
- عندما نصنع أغنية تتضافر فيها كل مقومات النجاح من لحن وشعر ومن ثم نأتي إلى مطرب أو مطربة بأصوات عادية ليغني هذه الأغنية هل تعتقد أن نجاحها يساوي نجاح الأغنية نفسها بصوت بديع وقادر على التلوينات في أدائه.
هذا مجرد مثال لأسألك لماذا نعتقد أن التكنيك العالي سبة، ولماذا لا نقول أن التكنيك يساعد الملحن المبدع والمؤلف والمؤدي على التعبير عن أفكاره بصورة أكثر حميمية وإشراقاً وبلاغة وإقناعا.
ومن ثم كل الذين يتكلمون عن التكنيك فقط يقفون على شقين: الشقّ الأول عدم معرفتهم بماذا تعني هذه الكلمة لدى مؤلف يعمل في مجال موسيقى الصورة ولديه رؤى وأفكار وطروحات يريد بثها في كل مكان. والشق الثاني هم هؤلاء الذين لم يسمعوا إلا جزءا يسيرا من أعمالي.
• قمت بتأليف قطعة موسيقية باسم الشاعر ( غارسيا لوركا) مع العلم بأن هناك شعراء عرباً في العصر القديم و في عصرنا الحديث شعراء مهمين تعرضوا للقمع و مورست عليهم كل أساليب التعذيب و نفوا من ديارهم ,و لم تقم بتأليف أي مقطوعة لأحدهم مع أن معظمهم شعراء عراقيون كمظفر النواب, أو مهدي الجواهري , سعدي يوسف و غيرهم و أنت عراقي , فلماذا اتجهت اتجاه شاعر اسباني و اخترت لوركا و لم تختر أي شاعر عربي كالمتنبي مثلاً و حادثته المعروفة .
- ولماذا يقف شاعر مثل محمود درويش على مقصلة لوركا؟ لماذا نجمع الإنسانية كلها في كوب شاي إقليمي، لماذا لا نقول أن الإنسانية أيضا هي وطن كبير، بل وطن أجمل وأشمل من أوطان تفرقت.
وبالرغم من هذا فقد أقمت حوارية بين المتنبي والسيّاب عام 1986، وزرعت معانيَ كثيرة في قراءتي للجواهري، وكتبت مقطوعة لمظفر النواب بعنوان "غربة النورس" واستمع إليها في بروكسل في القاعة الملكية، وكتب قصيدة عن هذه المقطوعة أهداني إياها وعنوانها "بعض المعاصي الجميلة تقود إلى الله", ولدي مشروع يعمل على سعدي يوسف لأنه مبدع وخلاق، ولكنني لن أتوقف في مسيرتي، فالإنسانية لا تعرف حدودا، وحينما ننظر للموضوع بهذا الشكل سنرى أن لوركا يصبح وطنا كبيرا وجميلا وأن المقصلة التي لامست نحله ذات يوم جرحت ملايين الرقاب.
• ما هي قصة العود المثمن الذي عزفت عليه و الذي قلت عنه بأنه عود متطور, فلماذا لم تقم بنشره و استخدامه , أم أنه عود لا يحاكي العصر كالعود المنتشر حالياً ؟
- هناك طلبة يأتون من قارات مختلفة ليتلقوا التدريس خصوصا على العود المثمن، وآخرهم كان عازف عود يعيش في كندا، وبدأنا بتصنيع العود المثمن، وأصبح منه الآن على الأقل عشر نسخ من هذا العود موزعة على عازفين، وهناك تنسيق مع شركات ألمانية للأوتار بدأت بتصنيع الأوتار المناسبة للعود المثمن، ولكن لصعوبة العزف عليه لا يمكن لأي عازف أن يغير مساره نحو العود المثمن إلا إذا دفعته قناعاته وحبه لهذا المشروع.
• ماذا عن بيت العود في أبو ظبي و كيف انطلقت فكرة هذا المشروع, و إلى أية حدود تعوّلون على نجاح هذا المشروع ؟



- بيت العود في أبو ظبي بدأ منذ اليوم الأول لانطلاقته بتسجيل تسعين طالبا وطالبة على آلات العود والقانون وصناعة العود.
وهذا المشروع تم بتمويل وتبنٍ من هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ولدينا مقر جميل وكادر تدريسي من خريجي بيت العود – القاهرة إضافة إلى تواجدي أسبوع من كل شهر مع الطلبة ولدينا ورشة صناعة جميلة هناك ومكتبة ثقافية شاملة ومجموعة لوحات لأهم التشكيليين من عرب وأوربيين بقي أن أرى بيت العود في دمشق قريبا، خصوصا أن هناك اتفاقاً على إنشائه مع وزير الثقافة د.رياض نعسان الآغا، وما زلنا بانتظار بيت دمشقي يحتضن أصوات آلاتنا الشرقية.
• كيف يمكن للفنان ( العازف) توظيف التراث أو الأسطورة بطريقة فنية إيحائية و رمزية هدفها خدمة الحاضر و المستقبل ؟
- يعتمد توظيف الأسطورة والموروث على رؤية المؤلف وقدرته على قراءة هذه المنجزات بعين معاصرة وخلاقة وعميقة.
العازف حتى يستطيع أن يقوم بعمل كهذا لا بدّ أن يكون هو ذاته مؤلفاً ولديه رؤية مستندة إلى فكر وعلم وثقافة.
• ( قبل أن أصلب ) عنوان مقطوعة موسيقية لك , أثارت كثيراً من الأسئلة وجدلاً لدى البعض , إذ أنه معروف عنك بأنك تبدأ معظم أمسياتك بالارتجال على أحد أسماء الله الحسنى . فما هو القصد أو الغاية من اختيارك لهذا العنوان ؟
- الصلب هو عقاب تعسفي ارتبط بالسيد المسيح عليه السلام نتيجة تمسكه بعقيدته، ولكنه رسم علاماته على عدد كبير من الضحايا أيضا، وهنا أصبح الصلب رمزا لمقاومة التعسف الفكري والعقائدي والمبدئي أيضا، وعنوان مقطوعتي يرمز للحلاج لأنه صلب وقطعت أوصاله وعلق على بوابة بغداد قبل مئات السنين لثباته على مواقفه، والحلاج بكل ما يملك من حراك فكري وروحاني وفلسفي وشعوري يستحق أن نقف ونحييه ونرفع من شأن موسيقانا في ارتباطها باسمه.
أنا لا أبدأ كل أمسياتي بارتجال، هناك أعمال ألفتها ووضعتها خصيصا عن بعض أسماء الله الحسنى منها الخلاق.
• ( امرأة في الذاكرة) .... ( امرأة معاصرة) عناوين لمقطوعات موسيقية عبرت عنها بالعزف , برأيك هل اختلفت المرأة في الماضي عن المرأة في الوقت المعاصر و أنت الذي قلت : لكل امرأة مقام .
- كما اختلف كل شيء اختلفت الرؤية لمكانة المرأة ودورها موقع المرأة في كل مكان له منظور، فالأخت ليست الأم والابنة ليست الزوجة والحبيبة ليست الزميلة وهكذا تتعدد مواقع المرأة في حياتنا وكذلك نظرتنا وتعاملنا معها، لكن قيمتها تكمن في توازن هذا الكون بوجودها في كل المواقع التي ذكرتها والتي لم أذكرها.
• ما هي الرؤى م المضامين الإنسانية التي تتطلع إليها من خلال حملات التبرع التي قمت بها في معظم الدول العربية من أجل اللاجئين العراقيين و ماذا أضافت إليك كإنسان؟
- تحركني اللحظة كثيرا، أتلقى هاتفا من أم مكسورة ليس باستطاعتها إطعام طفلها، أقلق وأنظر طفلتي بحرقة، وأعرف أنني مهما شعرت فأن شعوري لن يقارب في لحظة إحساس هذه الأم.
في كل يوم أتلقى عشرات المكالمات المجروحة، وأعني بالمجروحة التي ينزّ منها دم المرارة والألم، كل هذا حركني، وإذا عدت إلى نفسي أقول لك أن استغراقي في هذا يعطلني عن نصير الفنان والموسيقي، ولكن ما باليد حيلة، تاريخ العالم كله قام على نداءات ودموع، ألم تقم حرب كاملة لأن امرأة صرخت وا .... معتصماه.
لأقل أنني يوميا اسمع مئات الأصوات التي تصرخ بالطريقة نفسها، وبمرارة أكثر قسوة.
ما أضافت لي هذه التجربة كإنسان، هو أنني صرت في قلب الألم وفي قلب المعاناة نفسها، وبالتالي صارت هذه الأحزان تخرج حتى من بين أصابعي وأنا أعزف، وتترك آثارها على جبيني وملامحي.
وأحمد الله أن جهودي لم تذهب هباء، وأن عددا كبيرا من أصدقائي ساهموا معي بعودة عشرات من طلبة الجامعات والمدارس إلى مقاعد الدراسة هذا العام، وأن أطفالا كثيرين تلقوا العلاج في مستشفيات البحرين والإمارات ومصر وأنني استطعت أن أعيد الابتسامة في زمن الموت إلى وجوه أمهات كثيرات، ولو أنني ما زلت أقف عند حالات كثيرة مكتوف اليدين فليس لدي قدرة أمة، أنا مجرد فرد يسعى.



من ضجيج العوالم في سرداب الليل الطويل
عمران
في يوم من أيام العبث الغامر
و يد للسحر تدغدغ وجدي القابع في أغوار الفلك النفسي
و يأخذني في صمتي القاتل
مارد عشق عرف العزف على أوتار شجوني
تترنح تلك اللحظة مثقلة بترانيم الفتنة و العطر
و أدخل في محراب المعبد كي أسقى من تلك الخمرة
مزجت بالنكهات الصوفية و الإشراق
يا قمرا ينضح بالحسن و بالزهو و شبق الأرض
لا تخرجني من دائرة السحر و صنع حروف النار
طر بي حتى آخر ركن في الدنيا
و ازرعني فيك
ففي تربتك الوحشية يبسق غصني الناضر
يتكاثر يمتد كغاب
كي يبدأ في الدنيا ميلاد زمان
فيه الثورة و الحرية للإنسان و للأرض
و في وجنته سيماؤك يا قمري
و ملامح من أيا م العشق الذاهب
بين شقوق حقول الزمن
ببراءة طفل طلعت في دنيا ي
كبرت بين يدي
ونضج الثمر الأشهى في بستان الحب
اختصرت كل عصور الفتنة . نسجت قفص الشوق لقلبي
يقطر منها عسل الأنثى و لذاذات الفطنة و لتشويق
أمضي في أعصاب الشعر إليها
في أنسجة النثر إليها حتى أضنى
في لغة أعيتني مسالكها
و إمام البهجة و الدّل يعابثني
يستنبت فيَّ الشبقَ و يدخلني في السُّهد و أشقى
ضيّقة هذي الأرض بأيامي
عاقر لا تنجب حتى قفصا آوي في لحظات البرد إليه
يدفئني العشق بهمس الآه
أضمُّ فؤادي الآخر في ليل أغفله ضياء الفجر
ضيقة هذي الأرض بما أبغي
لا أبغي أكثر من طير لا يعشق غير الحرية
لفضاء الكون جناحاه
يقتات بحبة قمح و بأهواء العشق المحموم
يا طائر حبي لا تحزن
لو زرعوا الدنيا ألغاما
فغناؤك سحر يحييني
سأقاوم أحزان الأيام و أوقد كل شموع الفرح
هي الدنيا لا شيء سواها
نجعلها عرسا للناس
ففيها الجنة فيها النار و كل نقائض هذا الكون
يا ليت الناس يعون ، فيندحر اللاعقل
و يصحو الكون على صحوتك أنت الصانع للأقدار
و أنت الأسمى في موسوعة هذا الكون
لا تصغ لمن ينضح فلسفة في التضليل و يأتي
في أثواب قداسته ليكون أشد نفاقا
لا تصغ لمن يتشدق بالعصر وما يتقيأ من تحليل
يجأر بالفردية ، بالعولمة و حر السوق
فتلك سموم الفكر اختزنت في ترسانة فلسفة سقطت
ونعاها التاريخ لأهل الكهف الحاضر
يأتيك اللص بثوب كل زمان
لا يتبدل غير الثوب
حذار و قاوم حتى تسقط فلسفة التشويش
فتلقى بين نفايات التاريخ
أقرئك سلامي يا قمري فلا تخذلني
عوّدني نورك طيب السهر و عشق الليل وحلم الفجر
ابق معي ليدوم غنائي
من دونك تصدأ حنجرتي
يا حامل أسرار الليل و أسراري
هذا الوسخ الفكري يغطي الأرض
و اللاعقل يطارد أهل العقل
هذا الكابوس تغلغل في الأعصاب ليقتل أثمن ما فينا
لكن الواقع في جرأته يقذف بالأوساخ و بالكابوس بعيدا
فإذا نطق الواقع كتب التاريخ شهادته
و الذاكرة الكسلى لا تفتأ تنكر أحكام التاريخ !!














فهرست
*-افتتاحية العدد؛ العلمانية؛ إعادة إنتاج المفهوم
*- العلمانية والتراث، أعمال ندوة حوارية
*- المقالات
1- نايف سلّوم: "إلينا بالغربال!"
2- محمد سيد رصاص: "الديمقراطية والعلمانية في التجربتين الأوربية والإسلامية"
3- معتز حيسو: "العلمانية"
4- منصور الأتاسي: "ما بعد الانهيار"
5- عمران كيالي: "أزمة الفكر الاشتراكي"
6- توفيق عمران: "الليبرالية الجديدة وتعقيدات المسألة الديمقراطية"
7- نايف سلّوم: "فزيولوجيا النمل في القرآن"
*- الملف السياسي
1- بول سويزي، هاري ماجدوف: "إيران؛ الأزمة الجديدة في الهيمنة الأميركية"
2- أحمد العزّاوي: "إيران والعرب"
3- فهد خالد العلي: " كيف للعرب أن ينظروا إلى إيران الجارة في هذه المرحلة؟"
4- سمير أمين : "الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية" 5- عبد الإله بلقزيز: "إيديولوجيا نهاية الإيديولوجيا"
*- قراءة في كتاب قراءة (1)
نجيب رومية : "ملاحظات أولية حول العقل والثورة"
قراءة (2)
نايف سلّوم: "قراءة نقدية في مقدمة "العقل والثورة "- "ملحوظة عن الجدل"
*- باب الترجمة
"هل اليهود عرق؟"، الفصل الأول ، تأليف كارل كاوتسكي، ترجمة جلال المسدّة
*- ركن الأدب
1- نجيب رومية: "أديب من لبنان" 2- بورخيس: "بحث ابن رشد" 3- حوار مع عازف العود الكبير نصير شمّة 4- عمران:"من ضجيج العوالم إلى سرداب الليل الطويل"
فهرست ______________________________





#تجمع_اليسار_الماركسي_في_سورية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طريق اليسار - العدد السادس:أغسطس/آب/2008
- طريق اليسار - العدد الخامس: حزيران 2008
- طريق اليسار - العدد الرابع: أيار 2008
- جدل مجلة فكرية- سياسية – ثقافية العدد 2 : نيسان 2008
- طريق اليسار - العدد الثالث: نيسان 2008
- طريق اليسار العدد 2 : شباط 2008
- طريق اليسار جريدة سياسية - العدد الأول : أواسط كانون الأول 2 ...
- جدل - مجلة فكرية- ثقافية- سياسية : العدد الأول: أواسط كانون ...
- بيان عن أعمال اجتماع القيادة المركزية لتجمع اليسار الماركسي ...
- بيان
- الوثيقة التأسيسية
- بيان اعلان تجمع اليسار الماركسي في سوريا - تيم


المزيد.....




- قيادي حوثي يوجه رسالة للسعودية بعد -تباطؤ- مسار المفاوضات
- رياض منصور لـCNN: تغمرنا السعادة بمظاهرات الجامعات الأمريكية ...
- جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية ن ...
- فيضانات كينيا: بين معاناة إنسانية وسوء تخطيط رغم تطوير العاص ...
- شاهد: طلاّب يرفعون اسم الطفلة الفلسطينية -هند- على مبنى تاري ...
- -الصواريخ أصابتها وانفجرت فيها-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استه ...
- -انطلقت ووصلت إلى هدفها-..الحوثيون يعرضون مشاهد من استهداف س ...
- أمير قطر يبحث في اتصال هاتفي مع الرئيس المصري تطورات الوضع ب ...
- مدينة أسترالية يعيش سكانها تحت الأرض!!
- غزة : هل تتوفر ضمانات الهدنة؟


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تجمع اليسار الماركسي في سورية - جدل - مجلة فكرية سياسية ثقافية العدد 3 : آب 2008